شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة معالي الدكتور عبد العزيز بن محيي الدين خوجه))
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد وعلى آله الأطهار وصحابته الغر الميامين الأبرار.
أخي الوجيه المثقف الكبير الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه مؤسس "الاثنينية" وراعيها.
أصحاب المعالي.
أصحاب السعادة.
الإخوة والأخوات.
سيداتي سادتي. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حينما شرفني المثقف الأريب والأخ الحبيب عبد المقصود خوجه بأن أكون ضيفاً "للاثنينية" وأجلس في مقعد ما زال يحمل دفء عقول وأحاسيس نخبة منتقاة من الأدباء والمفكرين في بلدنا هذا وفي العوالم الثلاثة العربية والإسلامية والدولية على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وتبوأت بذلك "الاثنينية" مكاناً وحراكاً ثقافياً، وأصبحت هي الشاهد المشرق والنموذج الأمثل للصالونات والمنتديات الثقافية في العالم العربي، وكونت سياقها الفكري الرصين بحواراتها وشهاداتها ومداخلاتها وكتبها وإصداراتها الجامعة لأعمال الرواد، ولئن اتخذ الرجل النبيل الأستاذ عبد المقصود محمد سعيد خوجه القرار الأكثر نبلاً بعدم الحديث عن شخصه، فإن مساء كل اثنين ومع تسجيل كل حديث وعند كل صفحة من كتاب "الاثنينية" حديث ناصع عن أخينا عبد المقصود، ومن قال شيئاً عنه فإنما هو واجب وحقيقة وأسأل الله أن يديم عليه الصحة والعافية ويستمر بعطائه كما تستمر "الاثنينية" بتألقها.
كما أشكر كل من تكلم على شخصي المتواضع في هذه الأمسية الجميلة وكلهم أساتذة لي الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين، ومعالي الدكتور رضا عبيد، وسعادة أخي الدكتور عبد الله مناع، والدكتورة الغالية لمياء باعشن، وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن أستحقها بصورة أو بأخرى، وأن أكون عند حسن ظن كل واحد منهم إن شاء الله، فقد رأوا فيَّ هذا المظهر الطيب.
الحضور الكريم، الإخوة والأخوات، قبل أن أبدأ كلمتي أتذكر الروائي الكولمبي جبرائيل غارثيا ماركيز في سيرته الذاتية المذهلة "عشت لأروي"، حينما قال: "إن حياتنا ليست ما عشناه وإنما ما عشناه لنرويه"، وأنا لست روائياً ولكنني عشت الإحساس نفسه وأنا أتأمل رحلة العمر فقلت قصيدتي "سبعون" واسمحوا لي أن أبدأ بها هذه الأمسية قبل الكلام:
إني لقيتك يا سبعون مبتسماً
راضٍ بما قد مضى راضٍ بما قُسِما
لم أَشْكُ من نَصَب قد مرّ بي حِقبا
وما بكيتُ على عمرٍ قد انصرما
لم يبقَ لي غيرُ عفو الله أطلبه
ورحمة منه أرجوها ومعتصَما
وكل ما حلّ بي كربٌ على أُفقي
أدعوه يذهب عني الكرب والسَّقما
أواه كم حمل السبعون من زلل
كم يرحم الله من ذنب وإن عظما
رباه إني على الأبواب ملتجئ
مالي سواك تقبل عبدك الهرِما
لم يبقَ في القلب لا ليلى ولا رغد
أما روان فما راعت لنا ذِمَما
إني سهرت الليالي في الهوى أثماً
أصدق الزيف وعداً كان أو قَسَما
أكلما قلت أنسى صرت أذكره
وصاح شوق قديم فزّ واضطرما
كأنه في خلايا القلب مسكنه
أهواه إن عدلا، أهواه إن ظَلَما
وكلما التأم جرح نزّ إخوته
وثار جرح جديد غار ما الْتَأما
قد كنت، كم كنت مغروراً بمعرفتي
حتى حسبت بأني أبلغ القِمما
ما كنتُ أعلم أن الدرب خادعة
حتى إذا أومأت سِرنا لها قُدُما
إن الذي خلته في القفر ملتجأ
كان السراب وكان الجدب والعَدما
يا حادي الوهم كم زلّت بنا قدم
وكنت أحسب أني أبلغ السُّدُما
سبعون مرّت بما فيها كثانية
أوراقها سقطت والغصن ما سَلِما
لكنها في سجل الله قد كتبت
أحصى دقائقها ما جدّ أو قَدُما
إني أتيتك يا رباه من ظلم
أرجو بنورك أن تجلي لي الظُلما
إني اعترفت فهب لي منك مغفرة
أنت الحليم على من ضلَّ أو أَثِما
أرجو من الله يمحو كل معصية
ويقبل الله عبداً تاب أو نَدِما
ثم الصلاة على الهادي وعتْرته
والآلِ والصحب من أهدوا لنا القِيَما
الإخوة والأخوات..
منذ لحظة الميلاد وحياتي تنتظمها ثنائيات استمرت في جميع مراحل مسيرتي الطويلة ولدت ونشأت ودرست في مكة إلى المرحلة الثانوية.
في نشأتي المكية تنفست منذ صغري ذلك العبق التاريخي، الذي يكتنف مكة بأحيائها المحيطة ببيت الله الحرام ويغمرها بجلالها وجمالها وتتماوج بين جبالها، كما تشربت ثقافة علمائها وأدبائها وشعرائها ومفكريها وفنانيها عن قرب، وكان زوج شقيقتي الراحل الأديب الكبير الأستاذ عبد العزيز الرفاعي هو الخيط، الذي يربط بين الدرر الفكرية والأدبية في مكة المكرمة فعرفت وجلست واستمعت إلى أدبائنا الراحلين يرحمهم الله (مع الاحتفاظ بالألقاب) محمد حسن فقي، وأحمد السباعي، وإبراهيم فودة، وحسين عرب، وحمزة شحاته، وحسين سرحان، وأحمد وصالح جمال، ومحمد حسين زيدان، وعبد الله عريف، وعلي أبو العلا، والأستاذ عبد الله عبد الجبار، والأستاذ عبد السلام الساسي وغيرهم من الأدباء والمفكرين.
كما كان أخي الأكبر زياد له الفضل بإحاطتي بالكثير من كتب الأدب والتراث ومعه زملاء أفاضل كانوا يشملونني بكثير من الود والرعاية ومنهم معالي الدكتور عبد الوهاب عطار والأديب الكبير الأستاذ محمد عمر العامودي، كما أن والدي وأعمامي يرحمهم الله كانوا على صلة بهذا الرعيل السامق الجميل، بالإضافة إلى علمائنا الأفاضل الكبار أمثال السيد إسحاق عزوز والسيد علوي مالكي وغيرهم من العلماء، الذين كانت تزخر بهم مكة المكرمة حفظها الله من كل سوء، وكان الحرم المكي الشريف يمتلئ بهؤلاء النجوم المضيئة فنأخذ بركات الحرم وبركاتهم.
ودرست في كلية العلوم بجامعة الرياض آنذاك، إذ كان مدير الجامعة معالي الدكتور عبد العزيز الخويطر وعميد الكلية أستاذنا الفاضل معالي الدكتور رضا عبيد، الّذي كان يعلمنا الكيمياء الفيزيائية والحرارية وقد تخرج في جامعة برمنجهام في إنكلترا وكان يرعاني مدة دراستي، ونصحني أن أواصل دراستي للدكتوراه بعد التخرج في جامعة برمنجهام في إنجلترا في القسم نفسه.
بعد تخرجي من الجامعة طلب الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله وزير المعارف آنذاك أن أكون معيداً بكلية التربية بمكة المكرمة، وابتعثت بعد سنة في حين كان النظام وقتها في جامعة الرياض أن يبتعث المعيد بعد سنتين وحصلت على الدكتوراه في الكيمياء العضوية من جامعة برمنجهام وعملت عضو هيئة تدريس في كلية التربية ثم عميداً للكلية وانضمت كليتا الشريعة والتربية إلى جامعة الملك عبد العزيز، وكان مدير الجامعة آنذاك معالي الدكتور أحمد محمد علي حفظه الله ثم أصبحت مشرفاً على شطر الجامعة بمكة المكرمة بالإضافة إلى عمادة الكلية وهنا انتظمت ثنائية التخصص والإدارة فالكلية على الرغم من عراقتها كانت تحتاج إلى نقلة تواكب الجامعة الناشئة وهي جامعة الملك عبد العزيز ثم أصبح معالي الدكتور محمد عبده يماني رحمه الله مديراً للجامعة ومعززاً للجهود السابقة للدكتور أحمد محمد علي في إدارة الجامعة وبتعاون وثيق مع عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان ثم الدكتور راشد الراجح الشريف، وكانت بداية حقيقية لجامعة أم القرى التي نفتخر بها الآن.
المحطة الثالثة بعد محطتي النشأة والدراسة وكلية التربية، كانت وزارة الإعلام من العام 76م إلى العام 84م، وهي مرحلة زاخرة وثرية ومفصلية في الإعلام السعودي مع الوزير آنذاك والصديق والأخ والرفيق الدكتور محمد عبده يماني رحمه الله وحضرت فيها ثنائية الكيمياء والتربية في عملي وكيلاً لوزارة الإعلام للشؤون الإعلامية، كان عالماً جديداً مختلفاً سريعاً كنا نؤمن بأن الإعلام لا بد أن ينطلق من فلسفة ويحمل رسالة كما هي التربية تماماً وكنا نعمل تحت رؤية الوزير الدكتور محمد عبده يماني والجيولوجي البارع، الذي كان يحفر عميقاً في الأسس ليرى المكونات التي ننهض عليها ونقيم بناءنا فوقها، وكان للدكتور محمد عبده يماني الفضل في إخراج جلسات مجلس الوزراء إلى العلن وبعد سنة من تولي الأخ الصديق الأستاذ على الشاعر الوزارة عدت إلى الجامعة بأمر ملكي بدرجة أستاذ، حيث عملت بجامعة الملك عبد العزيز لمدة عام ونصف العام أستاذاً للكيمياء العضوية، وتشرفت أيضاً بأن يكون معالي الدكتور رضا عبيد في وقتها مديراً للجامعة.
وكما ذكرت بعد عام ونصف، نقل إليّ الأخ عبد الرحمن منصوري وكيل وزارة الخارجية آنذاك رحمه الله عليه رغبة الملك فهد رحمه الله عليه بتوصية من سمو الأمير سعود الفيصل بأن أكون سفيراً لخادم الحرمين الشريفين في تركيا وهذه هي المحطة الرابعة في حياتي تلك السنوات، التي أضافت لي تجارب أغنتني حتى إنني أستطيع أن أقول: إن عملي كسفير غيّر مسار حياتي، وطوّف بي في دروب الحياة شرقاً وغرباً.
 
قد ذرعت الزمان شرقاً وغرباً
سندباداً قد ضاق بالأسفار
غربتي طالت والأماني صداها
ويباب الجنون صوت سعاري
كل حسن شاغلته بغرامي
وزرعت الحقول من نواري
وحرثت الوجود شوكاً وورداً
وحسوت الصفاء بالأكدار
 
وإنني حين أعود بالذاكرة إلى سنوات التكوين الأولى أعجب لما تصنعه الأقدار بنا، فهل كان في حسبان ذلك الشاب المكي الذي كنته، أن حياته بعد حين من الدهر ستكون على غير ما اختاره؟ وهل ظن ذلك الأستاذ الجامعي الذي اختار الكيمياء تخصصاً دراسياً، أن الدرب الذي سلكه سيذهب به بعيداً عن قاعات الدرس في الجامعة، وينأى به عن معمله ومختبره ومعادلاته وطلابه، ليكون في (الإعلام) أولاً ثم يطوف في الآفاق سفيراً لبلاده ويلف العالم القديم وكأنه يتتبع خطى الشمس أينما سارت؟
كانت عتبتي الأولى كما قلت إلى دنيا الدبلوماسية (تركيا)، إلى حيث قباب الجوامع تعلو شامخة أبيّة داعية بلسان عربي مبين: (الله أكبر)، تركيا في ذلك الوقت كانت مسرحاً كبيراً ومهماً للأحداث ففي تلك الفترة جرت أحداث حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، وكانت السعودية وتركيا دولتين مؤثرتين لثقلهما السياسي من جهة، ولقربهما من بؤرة الأحداث. كما جرت في تلك الأثناء أحداث غزو العراق للكويت بالإضافة إلى أن بعض أعضاء السفارة تعرضوا للاغتيال وبعضهم لمحاولة الاغتيال.
ثم قادتني دروب العمل الدبلوماسي إلى الأرض القصية (روسيا)، حيث الجليد والصقيع، ولكنني حملت في سويداء القلب نفحة من وطني بثّت الدفء في أوصالي وكنت أول سفير سعودي في روسيا من 91م-96م.
ثم حملت قلبي ووطني معي إلى أقصى هذا الوطن العربي الكبير، الذي نشأت فيه ونشأ الجيل الذي أنتمي إليه ونحن نردد (بلاد العُربِ أوطاني)، فأحس بتلك الرعشة التي تنطلق من الفؤاد، وأنا أُطل من نافذة مكتبي في (الرباط) على شموخ (المغرب)، وأقرأ في وجوه إخوتنا المغاربة كم يحبونك يا وطني!
ثم عاد بيّ الشوق مشرقياً حين ألقيت مرساتي على شواطئ لبنان، فرأيت هناك الجمال والبهاء حقيقة لا تخطئها العين، وكانت فترة عملي الدبلوماسي في لبنان معتركاً للتجربة الدبلوماسية في ذُراها، خصوصاً أنني شرفت في مرحلتي اللبنانية بأن أكون قريباً من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز –يحفظه الله- الذي كان دائم التوجيه لي بتوجيهاته السديدة، التي كانت تصبُّ كلها في مصلحة لبنان: أرضه وإنسانه وسيادته.
كما كنت في كل عاصمة أعمل فيها أفتح مدرسة ولكل مدرسة قصة، كما كان لي في كل عاصمة منتدى ثقافي أسبوعي يجتمع فيه معظم الأدباء والمثقفين والفنانين لتلك البلد.
وحين رجعت إلى بلادي –وما أحلى الرجوع إليها- بعد ما يقرب من ربع قرن من التطواف، طفقت أفتش في جوانحي عن تلك اللحظات الآسرة التي كم أوحت إليّ شعراً، وكم أثرت تجربة، فكانت القصيدة التي طالما حلمت بها، وها أنا بعد هذه السنين أُطلُّ من شرفة في الفؤاد فتنساب من لساني كلمات الشكر لله –تبارك وتعالى- الذي اختار لي –لحكمة لا أعلمها- طريقي، وأحاول أن أُفلسف تلك الرحلة ما بين الكيمياء والشعر والإعلام والدبلوماسية.
وكنت لحظة مغادرتي كل عاصمة كمن يترك وراءه قطعة من نفسه، وهل باستطاعة امرئ منا أن يتحرر من ذكرياته؟
خبريني هل عندنا ما نقول
فحديث الوداع همٌ يطول
وابتهال العيون فيه الخبايا
وازدحام الشجون فيه الدليل
فاللآلئ تألقت في المآقي
وحرام هذي الغوالي تسيل
كيف حال الزمان ضربة سيف
واستجار المكان والمقتول
فاسكبي في لقائنا اليوم عمري
فقصير عمر اللقاء بخيلُ
ورسول الهوى لنا قبلاتٌ
يا لوجدي بما يقول الرسولُ
فلقانا في عتمة العمر ومضٌ
ومقام الهناء فيها قليلُ
فتعالي بصهوة البرق نرقى
فعليها يحلو الهوى والصهيل
ودعيني بما تعود قلبي
أن يُمنّيه موعد مأمولُ
واهربي ليس عندنا ما نقولُ
وذريني إنّ الفراق طويلُ
فلياليَّ بعد ظعني شكٌ
وفضولي بعد الرحيل شُكولُ
 
كان من حسن حظي أن حرفة الأدب –وما أجملها من حرفة- قد ذوبت جبال الجليد التي جثمت على قلبي، فقد كان الأدب الروسي، ومنذ دراستي الثانوية، مدداً غزيراً في قراءاتي وتكويني الأدبي والثقافي، وحينذاك أدركت كم تخبئ الأعمال الأدبية العظيمة بين سطورها روح الأمم التي تنتمي إليها.
كانت الثقافة بالنسبة إليّ الدفء في عملي الدبلوماسي، وكانت كل سفارة قمت بها مكوناً أساسياً في تكويني الثقافي، وفرصة لتأمل حركة المجتمعات عبر التاريخ، ومحاولة البحث عن رابط ما بين المجتمع الذي أنتمي إليه والثقافة التي أنتسب إليها، ومجتمع وثقافة البلد الذي حللت فيه.
حين عدت إلى بلادي لأعمل في موقعي الجديد، الذي شَرُفْتُ فيه بثقة المليك المفدَّى -يحفظه الله- أخذت أستعرض ذكريات ربع قرن من العمل الدبلوماسي، وأحسست -وهذا ما أحس به الآن وأنا أتحدث إليكم- بـ (نوستولوجيا) شفيفة رقراقة، وشرعت أستقرئ وجوهاً مرت بالذاكرة، وأسماء عبرت على صفحة العقل والوجدان، وتهجأت ذاكرتي معالم أمكنة مررت بها، هنا لمع في الفؤاد مطلع قصيدة، وهناك تمليت الجمال فانسكب أريجه الفوار على صفحة الوعي تمثالاً من حسن ونافورة من بهاء. نعم بدأت المحطة الخامسة في حياتي عندما صدر الأمر الملكي الكريم بتعييني وزيراً للثقافة والإعلام عام 1430هـ.، وجئت للوزارة هذه المرة بعد هذا الغياب. وعدت إلى أهلي وتغيرت الوزارة وأصبحت حاملاً ثنائية الثقافة والإعلام وتطورت وسائل الإعلام وتقنياته وتغيرت الكثير من المفاهيم كما تطورت تقنية الاتصالات جميعها بسرعة مذهلة وتبدلت الكثير من المفاهيم. وفجأة، أصبحنا في قلب العالم ليس هناك أسرار ولا معلومات تخفى وليس للإنسان خصوصية، وصار لكل فرد عالمه الافتراضي، الذي يتصل فيه مع الجميع ويبدي رأيه ويصنع أفلامه وأخباره ويكوّن مع غيره عوالمهم الخاصة بهم وأضحت اللعبة الإعلامية وما يدور في فلكها من تقنية قد غيرت تصورات الناس وعلاقاتهم بمن حولهم، وبدلت مفاهيم السلطة الإعلامية القديمة، فإذا كانت الصحافة الورقية قد أبرزت سلطة رئيس التحرير، فإن الصحافة الإلكترونية قد قوضت هذه السلطة، والأمر نفسه ينطبق على الراديو والتلفزيون، فعالمنا اليوم قد أسس ما يمكن تسميته "ديمقراطية المعلوماتية"، بعد أن قوضت التقنيات الحديثة المؤسسات الإعلامية التقليدية، وقضت على النخبوية ولنعترف ونحن ننتمي إلى مؤسسات إعلامية تقليدية أن الإعلام الجديد بات يستحوذ على ما كان حِمىً للإعلام القديم، وأظنكم تستقون اليوم جوانب من الأخبار، أولاً بأول، عن صحف إلكترونية شابة ووسائط خبرية توصل الخبر والمعلومة في اللحظة نفسها، ولعل جمهرة منكم الان قد تلقت وأنا أتحدث إليكم على الهواتف المحمولة ألواناً من الأخبار يجهلها لفيف منا، والطريف في الأمر أن تلك الوسائط تسعى إلى صناعة جمهور لها بعيداً عن سطوة الوسائل الإعلامية التقليدية.
ولنا أن نراقب ذلك التطور التقني الذي ما انفك يفاجئنا بالجديد من تلك الوسائل، حتى بات الناس البسطاء وخصوصاً الشبان والشابات، ملتحمين بالعالم كله لحظة بلحظة، وأصبح العالم قريباً منهم، بل إنهم يحملونه في أكفهم، ولم يعودوا يستمعون إلى الأخبار البائتة واللغة التي تستميت رزانة وثقلاً، ولعل ذلك يدعو القائمين على أمر المؤسسات الإعلامية التقليدية إلى أن ينظروا فيما بين أيديهم حتى لا يسبقهم الزمان ويخلفهم وراءه. وازدحم الفضاء بقنوات فضائية لا حصر لها وأصبحت في متناول كل بيت بكل أنواعها ثقافية وإخبارية وسياسية وموسيقية وغيرها.
الإخوة والأخوات: جئت إلى الوزارة أمام تحد كبير بأن أخوض هذه التجربة أمام هذه المعطيات والتحديات كلها، وكان لا بد من نظرة جديدة لكل شيء يدور في هذا الفلك من مرئي ومسموع ومقروء، وكان لا بد من رؤية جديدة ومن بناء بنية تحتية ننطلق منها وخارطة طريق صحيحة نستطيع أن نسير عليها بثقة وبنظرة جديدة واقعية سواء في العمل الإعلامي أو العمل الثقافي، وبفضل الله سبحانه وتعالى وتعاون زملائي في الوزارة تم الكثير من هذه الإنجازات المفصلية ومنها ليس على سبيل الحصر: انتخابات الأندية الأدبية ودخول المرأة لأول مرة مجالس إداراتها ناخبة ومنتخبة وإطلاق قنوات القرآن الكريم والسنة النبوية والثقافية والاقتصادية وأجيال للأطفال والقنوات الرياضية المتعددة وتراخيص البث الإذاعي على قنوات FM وإنشاء لائحة النشر الإلكتروني حتى وصل عدد التراخيص إلى أكثر من 700 صحيفة إلكترونية وتحويل الإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء السعودية إلى هيئات مستقلة لها شخصية اعتبارية وإنشاء الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع وغيرها، وكان لا بد من رؤية جديدة واقعية لمعنى الحرية لتصبح مسؤولية يشارك فيها الجميع، كان لخادم الحرمين الشريفين نظرته الثاقبة ودعمه الكبير لكل إنجاز تم.
الإخوة والأخوات: ليس هناك شيء كالفن يخفف على الفنان جهامة الحياة ويباسها، ولقد كان الشعر تلك القوة الجبارة التي ألان بها الشاعر الجاهلي قسوة الطبيعة فأصبحت الصحراء مفردة جمالية في الشعر، واسمحوا لي مثلما بدأت بقصيدة أن أختم بقصيدة:
كأنيَ ذكرى أو فقدتُ حياتيَا
فلا خَفْقَ عندي أو أُحسُّ بما بِيَا
فلا تسألي مَيْتاً: هل الركب فاتَهُ؟
فحلمُ الليالي صار في الصبح ذَاويَا
وكم راودتني بالأماني عيونها
وصارت غداة البين جَدْباً قِفَاريا
فلا غيث يهمي كي تعود له المنى
ولا ساقياً يحيي من الموت صاديا
فَرِفقاً على قلب إذا العهد خانه
فلمْ يَبْقَ حبٌّ كان في القلب ثاويَا
ومزقت قلبي كي يعود عن الهوى
وألقيته ظمآن يحدو سَرَابِيا
وكان سخياً طبعه الجود والندى
وكان سَنِيّاً ظل كالنجم عاليا
إذا الحُسنُ ناداه يذوبُ صَبابَةً
ويسقيه نشواناً من الحب صافيا
تناجيه في جُنْحٍ الدجى كل خفقةٍ
وتهفو له الأشواق إذ كان نائيا
فيا من تساقيني الهوى بعد نأيها
وكان لها وصلي ندياً ودانيا
دعيني.. فقد جفت بقلبي صبابتي
وأطفأتُ في الأضلاع شوقي وناريَا
تذكرت يوماً كان للقلب صَوْلة
وكان نديم الحب يُشجي لياليا
وكنت أنيس البدر في كل طلعةٍ
وكنت سمير النجم نحكي الأمانيا
وحين التقينا يوم طال عتابنا
وأدركت بعد اللوم أن لا تلاقيا
وأسدلت ستاراً على كل ما مضى
وقلت -مع الغيمات-: حان ارتحاليا
سأهمي مع الأمطار في كل قطرة
وأرحل حراً لا عليَّ ولا ليا
فكفي عن الأشجان ويحكِ أضلعي
سأنزع عنك الشوق لو بت شاكيا
أتبكين؟ هل حقاً دموعك من جَوىً؟
فما عدت مسطيعاً أجيبك باكيا
رويدك يا قلبي! سأمضي عن الهوى
شريداً وإن فارقت طوعاً رجائيا
سلام على الدنيا ذرتني رياحها
سلام على الأطياب تبكي تُرابيا
 
الإخوة والأخوات: في نهاية حديثي إليكم أرجو منكم المعذرة إن أطلت أو قصرت أو أغفلت الكثير من شرح بعض الأمور، تاركاً الفرصة للأسئلة ولعلني أكمل بأجوبتي بعض جوانب النقص في كلمتي.
أشكر لأستاذي وأخي عبد المقصود محمد سعيد خوجه هذه الفرصة، التي أتاحها لي وأشكر كل من شارك في هذه الأمسية، سائلاً الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا دائماً على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عريف الحفل: شكراً لضيفنا العزيز معالي الدكتور عبد العزيز خوجه، ولن نمل يا معالي الوزير لو جلسنا ليلة كاملة نستمع إلى هذه الكلمات العِذاب، ولكن فقرات الأمسية تحدونا إلى الانتقال إلى نقطة أخرى وهي طرح الأسئلة والإجابة عنها.
 
 
طباعة
 القراءات :189  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 58 من 216
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.