شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
اختفاء البيان العربي الرفيع وتمدد العامية ..!
كان يركب القطار من مدينة لندن إلى عاصمة الشمال الاسكتلندي (أدنبرة)، كان مأخوذًا بمشهد زخات المطر، وبمرأى المنازل الحجرية القديمة التي تقاوم عوامل الطبيعة، وفي الجهة المقابلة له كانت تجلس امرأة وبجانبها طفلة صغيرة، فجأة سمع بكاء الطفلة وسمع المرأة التي تجلس أمامه، تصحح مفردة من مفردات اللغة الإنجليزية لطفلتها وتنبهها لموضع الخطأ، كان يتوهم أن تلك الشعوب لا تضرب ولا تعاقب أبناءها، ولكن ذلك الوهم تبدد، وعرف لماذا ينشأ أبناؤنا في كثير من الأحيان وهم يتخاطبون بلغة ملحونة، وأن السبب وراء ذلك هو تساهلنا في تصحيح ما تلحن به ألسنتهم، بل إن رقعة العامية وأدبها أضحت تتمدد في المجتمعات العربية بصورة مذهلة، حتى ليذكرك المشهد بما كان يجري في العصرين الأيوبي والمملوكي، وإذا كانت تلك العصور حفلت بحكام وسلاطين مسلمين ولكنهم لا يجيدون اللغة العربية مقارنة بحكام الدولتين الأموية والعباسية وذلك عندما كان الخلفاء يعتلون المنابر ويروون الشعر، بل ويبدعه بعضهم، ولا ننسى هنا مقولة الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان (شيبني صعود المنابر)، وأن الخليفة العباسي ترك كتابًا من أهم كتب البلاغة وهو (البديع) وسار على نهج ابن سلام الجمحي وابن قتيبة وألف كتابًا في طبقات الشعراء؛ بل إن بعض سلاطين عثمان الأوائل تركوا لوحات قرآنية في غاية الروعة تدليلاً على اهتمامهم بلغة القرآن.
يتحدث بعض الباحثين مثل الدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري (المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة) عن (مصير القرارات والتوصيات الخاصة بالحفاظ على اللغة العربية والحرص على استعمالها وتداولها وانتشارها، صدرت خلال السنوات الأخيرة عن مؤتمرات ولجان وندوات ومجامع لغوية وكليات جامعية متعددة عقدت في البلدان العربية وفي بعض البلدان الإسلامية، لكن هذه القرارات والتوصيات لم تنفذ)، [انظر: اللغة العربية أمام تحديات المستقبل، بقلم: عبدالعزيز بن عثمان التويجري صحيفة الحياة، الخميس 1 مايو 2008م، الموافق 25 ربيع الثاني 1429هـ]، ومن قبله شكا الباحث والمحقق الدكتور محمّد الطناحي ـ رحمه الله ـ بحرقة عن مآل البيان العربي الذي كان له في مطلع النهضة الأدبية الحديثة رواده من أمثال الزيات، والرافعي، وطه حسين، والعقاد، وأن الأجيال الحاضرة التي تتصدى للكتابة الأدبية تفتقر إلى الأدوات التي كان يمتلكها ذلك الجيل.. فيقول -رحمه الله- موضحًا أبعاد هذه المشكلة: (إن كثيرًا مما يكبت الآن لا صلة له بالعربية إلا صورة الحروف والأبنية من الأسماء والأفعال، أما روح العربية وآمادها الرحبة الواسعة فلا تجدها في أسلوب ما تقرأ ولا في كلام مما تسمع، إنني أحس أحيانًا أن هؤلاء الذين يكتبون أدبًا عربيًا لم يمروا بالقرآن ولا بالبيان النبوي، ولا بكلام العرب) [انظر: د. محمود الطناحي، مستقبل الثقافة العربية، كتاب الهلال مايو 1999م، ص: 149- 150].
ومن قبل نبه الناقد والأديب المعروف الأستاذ عبدالله عبدالجبار من خطر اكتساح العامية وانحسار لغة القرآن، فقال في بيان أدبي رفيع: (إن الفصحى وعاء حضارة وثقافة وفلسفة وعلوم وآداب نمت وترسخت فيها عبر أجيال، فهل تستطيع بسذاجتها ونطاقها المحدود في التفكير والتعبير أن تنهض بكل ذلك، وتعبر عن المعاني الدقيقة والأحاسيس الرفيعة، وكل اقتحامات الفكر البشري، الجواب قطعًا –لا- ولا يباري في ذلك إلا معرض جهول)، [انظر: عبدالله عبدالجبار، الغزو الفكري في العالم العربي، المكتبة الصغيرة، 12، ط3، 1400هـ/ مايو 1980م ص 1166]، ومما رواه من تنبيه وتحذير من قبل هذه الأسماء الفاعلة في ميادين العلم والفكر والثقافة والأدب، إلا أن الأمر يحتاج إلى قرارات سياسية فاعلة تحفظ للغة العربية كيانها ووجودها، ويمنع عنها غثاء العامية وما يظن إنه إبداع بها، فقبل ما يقرب من عقدين من الزمن اتخذت المؤسسة السياسية الفرنسية قرارًا بحظر استعمال أي لغة أخرى في ما يخص المجتمع الفرنسي، ومؤسساته العلمية والإعلامية، وإنزال عقوبة محددة لكل من يخالف تلك القرارات.
وفي بريطانيا لا يجرؤ النواب القادمون من مقاطعات اسكتلندا وويلز، وهي مقاطعات لها لهجاتها الخاصة، لا يجرؤون على استخدام هذه اللهجات في مداخلاتهم في مجلس العموم، وأتذكر أن السياسي المعروف هارولد مكميلان MacMillan لحظ أن الوزير العمالي المعروف روي جينكنز Jenkin وهو اسكتلندي الأصل لا ينطق بعض حروف اللغة الإنجليزية نطقًا صحيحًا بسبب لثغة في لسانه، فقرعه بسبب هذا الخطأ الذي اعتبره مكميلان فاحشًا، وعندئذ تنبه جينكنز، وبعد مدة أضحى من أكثر نواب المجلس قدرة على البيان الإنجليزي الفصيح، ولو كتب "شكسبير" و"ديكنز" و"إليوت" T.S-Eliot، وخاصة في رائعته الأرض اليباب The Waste Land لو كتبوا روائعهم بلهجات المناطق التي ينتمون إليها فإنها لم تحظ بالانتشار والخلود والسيرورة التي حظيت بها على مر الأيام والسنين، وكان السر وراء ذيوع (أيام) طه حسين هو اللغة التي كتب بها العميد ذكرياته بين الأزهر والسربون، إلا أن الذين يزعمون أنهم ورثوا طه حسين كما يقول أستاذنا الطناحي -رحمه الله رحمة الأبرار- (لم يسيروا في طريق بيانه، ولم يُحاكوا حلاوة أدائه، وكان له في ذلك مستراد ومذهب، فانتماؤهم لطه حسين إذن انتماء كاذب وولاء منقوص).
لقد كان ولاء المتقدمين من أدبائنا وشعرائنا وكتابنا بدءًا من ابن المقفع والجاحظ وعبدالحميد الكاتب وأبوحيان التوحيدي ومرورًا بشوقي وبدوي الجبل، وأبي القاسم الشابي، وحمزة شحاتة، وإبراهيم ناجي، وعمر أبوريشة، والبردوني، وعبده غانم، ومحمّد حسن عواد، ومحمّد علي السنوسي، وعبدالعزيز الربيع، وانتهاء بعدد من رموز الأدب في حقبته الحاضرة، كان ولاؤهم للغة القرآن، ولو كتب هؤلاء وسواهم أدبهم بالعامية لجفلت منه الأذواق، ونفرت منه، أو أضحى محصورًا أو محاصرًا لدى فئة معينة، وفي ذلك من تفتيت للمشهد الأدبي والثقافي ما تكون الأمة في غناء عنه، وإن الأمة في حاضرها لهي في أشد الحاجة لما يوحدها، ويجمع كلمتها، ويؤلف بين وسائل وطرق اتصالها، وتأتي اللغة العربية أداء وكتابة وتأليفًا في مقدمة هذه الوسائل والطرق التي يفترض في كل مؤسسة من المؤسسات المعنية بالتعليم والثقافة والفكر والأدب أن تحافظ عليها، وتصونها من هذا العبث الذي انتشر وتمدد وانتشر في لسان العامية وما يكتب بها، وتقوم من أجله المسابقات في الفضائيات التي كنا نتوقع منها أن ترتفع بذوق الإنسان العربي وفكره وثقافته.
 
طباعة
 القراءات :218  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 83 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.