شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الإنسان بكر جوهر.. وأخلاقيات القوم في دار الإيمان
يأتيني صوت الصديق هلال طرابيشي من موطن الجوار يقول: لقد وارينا الثرى -اليوم- السيد محمد لطفي طرابيشي- أحد رجالات التعليم في طيبة الطيبة، ثم يسترد أنفاسه ليثنّي بخبر وفاة الصديق "بكر جوهر"، وعادت بي الذاكرة إلى أربعين عامًا مضت، وبالتحديد في نهاية عام 1386هـ، وكان الوقت ضحى، حيث تشرق الشمس من خلف الكثبان، يلتقي ضياؤها بنور الإيمان والسكينة، الذي ينبعث من المقام الذي تتعلق بصاحبه -حبًّا- تلك النفوس المؤمنة والمطمئنة، وكنت -عندئذٍ- برفقة والدنا أحمد الزين، والصديقين محمد إبراهيم عبدالستار، ومحمد صالح فارسي، ومرّ من الضفة الأخرى لشارع العينية رجل طويل القامة أسمر اللون؛ فإذا بواحد من المجموعة يشير على الرجل القادم والذي يسير وقد التصقت عيناه أدبًا بالأرض المباركة والثرى الطاهر، ثم يقول: "إنه بكر جوهر قادم من المسجد الطاهر وقاصدًا عمله بـ"الخالدية"-مقر الشرطة بالقرب من موقع مسجد المصلّى الغمامة".
ثم عرفته أكثر عن طريق الصديق إبراهيم التويجري، وكان من سكان الساحة، فعرفت أن خلف هذا الرجل العريض المنكبين روحًا شفّافة، ونفسًا ألوفة، وقلبًا رقيقًا، فإذا ما تليت آيات الذكر الحكيم، أو أنشدت أبيات في مديح المصطفى صلّى الله عليه وسلّم؛ وكانت المدينة آنذاك تنعم بأصحاب الأصوات النديّة؛ عبدالستار بخاري، وحسين بخاري، وعقيل توفيق، ومحمد النّجار، وحسين وياسين هاشم، وعبدالله فرج الزامل، وأحمد غلام، وحسن عبدالستار، ومحمد هارون، وسواهم.. إذا ما سمع "بكر" القرآن يرتّل في المسجد أو المجلس، وإذا ما أنصتت منه جوارح لطيِّبِ القول إنشادًا وحبًّا؛ بكى، وإنّ الرقّة لدليل على قرب الناس من بارئها، وإن النفوس المؤمنة لأبعد ما تكون عن الغلظة والجفوة، ولنا في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسوة حسنة، والذي وصفته آيات الكتاب المبين بالرحمة واللين، حيث قال عزّ وجلّ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران: 159) صدق الله العظيم. ثم رأيت -المرحوم- في دار شيخنا الحافظ لكتاب الله محمد علي الحلبي -رحمه الله- وكان صديقًا لأبنائه فؤاد -رحمه الله- وأخيه عدنان، وظل بكر وفيًّا لأصدقائه في مكة والمدينة، ومن أقرب الناس إليه من أهل الجوار في مكة المكرمة العم سليمان حجازي، وكنت في شهر رمضان أحضر تشييع جثمان رجل العلم والفضل السيد محمد علوي المالكي الحسني -رحمه الله- فإذا بصوت يناديني من بين الجموع المحتشدة التي جاءت لتوديع تلك النفس المؤمنة والصابرة والمجاهدة في الله حق جهاده، فإذا صاحب الصوت هو سليمان حجازي، يسألني عن صديقه الجوهر.. فعددت ذلك وفاء منه، ولمعرفتي بالإنسان الطيب "بكر" وتفقده لأحبابه حمدت الله أن يكون بين الأمة من يسألون عن أحبابهم إذا غابوا!، ويكرمونهم إذا ما حضروا، ويأخذون بأيديهم إذا ما الحياة ضاقت بهم، أو تنكّبت بهم سبلها ودروبها.
كان بكر يعمل في البحث الجنائي بشرطة المدينة، وكان صارمًا في عمله، ولكنني أشهد له بالأخذ بالمقصد الشرعي المهم وهو: الستر. ولعلي في هذا المقام أذكر قصة عجيبة، وذات دلالات في هذا السياق، فقد زرت مدينة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم قبل حوالي شهر من الزمن، وقبل أن أدخل المسجد النبوي الشريف مصلّيًا، وعلى مقام النبي الصادق مسلّمًا عليه من الله صلاة وتسليمًا دائمين؛ فإذا بالأخ الجوهر يستعد لأداء صلاة العشاء، فهشّ في وجهي كعادته؛ فذكرت لأخي زهير من محاسن صديقنا بكر بعد ما رددنا التحية عليه وخصوصًا لجهة ما ذكرته من ذلك المقصد الشرعي المهم أي الستر، فدخلت وصلّيت بالقرب من الصفّة؛ فإذا أنا أمام والد الجميع الشيخ عبدالله بن عثمان الصالح، والد معالي الصديق والدكتور ناصر الصالح، مدير جامعة أم القرى، فجئت مسرعًا أُقبّل رأسه، فلقد كان كثير العطف علينا عندما كنّا في مقتبل العمر، وكانت داره بالقرب من المسجد الطاهر، ثم دنوت من أحد الإخوان من آل السندي، أبناء المرحوم والطيب الذكر عابدين سندي، لأقول له شهادة في حق أبي ناصر ومحمد، وإخوانهم: "بأن الشيخ عبدالله عندما كان يعمل في الحسبة بالمدينة لم يؤذِ أحدًا أو يعنّف مسلمًا؛ بل كان يأخذ بأسلوب النصيحة الطيبة، والستر والكلمة المباركة، وهو الآن في التسعينات من العمر، أي الشيخ عبدالله بن عثمان، وأهل الجوار يذكرونه، وفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح، رحمه الله، بالذكر الحسن، والدعاء المبارك، وتلك أمة مباركة قد خلت، ومنهم صديقنا بكر جوهر، قد توطنت النفوس منهم على فعل الخيرات، وإننا لنسأل الله لهم في آخرتهم مقامًا مباركًا مع عباده الذين اصطفى".
آخر الكلام:
من أروع القصيد الذي جرى على ألسنة شعراء المدينة المنورة في الحقبة الماضية ما أنشده الشيخ المحدّث والفقيه والأديب محمد العمري، المتوفى سنة 1365هـ، والذي يعد أستاذًا وموجّهًا لمؤرخ المدينة وشاعرها الكبير في العصر الحديث السيد عبيد بن عبدالله مدني، وفي هذه الأبيات يجسّد العمري مأساة أهل الجوار أثناء الحرب العالمية الأولى، وترحيلهم من قبل قائد المدينة العسكري فخري باشا إلى تركيا والشام وسواهما من أصقاع الدنيا:
مَنَازِلُ شَبَّ فيها الدِّينُ واكتملتْ
آياتُهُ فاستعارتْ نُورَها المُدُنُ
لأيِّ أرْضٍ يشدُّ الرَّحْلَ رَاكِبُهُ
يَبْغِي المَثُوبَةَ أو يشتاقُهُ عَطَنُ
أبَعْدَ رَوْضَتِها الغَنّا وقُبّتِها
الخَضْرَاءَ يَحْلُو بِعَيْنَيْ مُسْلِمٍ وَطَنُ؟
مَا غُوطَةُ الشامِ، ما نَهرُ الأُبَّلةِ،
ما حَمْراءُ غُرْناطةَ، ما مِصْرُ، ما اليَمَنُ؟
كلُّ المُنَى في رحابِ المُصْطَفى جُمِعَتْ
دِيْنًا ودُنْيَا فَمَا فِي مِثْلِها ثَمَنُ
 
 
 
طباعة
 القراءات :290  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 54 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج