شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عمر عيوني وبقايا الذكريات بين سوق الليل وحجون مكة..!
في النّصف الأول من التسعينيات الهجريّة قد توطنت الأرض المباركة (مكّة المكرّمة) دارسًا ومجاورًا.. وكانت ظروف طلب العلم آنذاك تضطرني للانتقال من مكان لآخر، وبعد رحلة بين العزيزية والششة وجدت بمؤازرة معهودة من رجل الفضل الشيخ عبدالله بصنوي، سكنًا في الجزء الأسفل من حي الشعب والقريب من بستان العواجي، وكنت ذات يوم أهم بالخروج من الدار قاصدًا البيت الحرام فاسترعى انتباهي جلوس الوالد البصنوي مع رجل نحيل الجسم، وضيء المحيا ويضع نظارة على عينيه، فسلمت على الشيخ البصنوي وعلى الرجل الذي كانت كلماته التي رحب من خلالها بوجودي نزيلاً في الحي، كانت كلماته منتقاة وهي كلمات أقرب ما تكون إلى قاموس أهل الأدب، وقدم المرحوم البصنوي في ذلك اللقاء لكاتب هذه السطور كتابًا كنت أبحث عنه وهو "شعراء الحجاز في العصر الحديث" للأستاذ الراوية عبدالسلام طاهر الساسي -رحمهم الله- وكنت مشتغلاً منذ ذلك الوقت بالمقدمة البيانية والنقدية الرائعة التي كتبها الشاعر والأديب الكبير حمزة شحاتة والتي تطور اهتمامي بها على كتاب خصصته عن هذه المقدمة وأهميتها في تطور الفن الشعري عند الشعراء السعوديين، ولقد كانت تلك المقدمة حدًّا فاصلاً بين حقبتين أدبيتين، ومن منظور نقدي محض يمكن القول بأنه لولا تلك الوثبات الأدبية التي جرت على يد كل من محمد حسن عوّاد وحمزة شحاتة لما تمكّنت الأجيال اللاحقة في الثمانينيات الهجرية (الستينيات الميلادية) ثم التسعينيات الهجرية (السبعينيات الميلادية) من مواصلة التجديد في الخطاب الشعري السعودي الحديث وخصوصًا عند غازي القصيبي، ومحمد العامر الرميح، ومحمد العلي، وسعد الحميدين، وأسامة عبدالرحمن عثمان وسواهم، وما تلتهم من أجيال، فالتطور في البنية الشعرية لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها، ولكنه يمر بسياقات تؤثر فيه ويؤثر فيها، حتى تنضج التجارب الشعرية عند شعراء وأدباء ومبدعين ممن تضمهم أو تحتضنهم تيارات شعرية محددة ومتميزة.
عرفت بعد ذلك الكثير عن الراوية والمنشد عمر عيوني، فلقد كنا نؤمّه في داره بحي (السليمانية) أو في مجلس الوالد البصنوي، ويرجع تكوّن مواهب العيوني المتعددة على أنه نشأ بداية في حي سوق الليل الذي عُرف أهله برقة المشاعر ورهافة الإحساس وإنشاء الكلمة الشعرية وإبداعها، فهذا الحي قد شهد بروز صاحب الصوت الحسن والمعرفة الدقيقة بالمقامات المتصلة بفن الإنشاد وهو: المنشد (سعيد أبوخشبة) والذي لا تزال رائعته (ربَّاه) والتي كتب أبياتها الشاعر الرومانسي الرقيق طاهر زمخشري لا تزال رغم مرور السنين تتردد على الألسنة، والشفاه، ولئن سكب الزمخشري في (ربَّاه) أحاسيسه الصادقة في الالتجاء إلى الله وطلب رحمته ورضوانه، فلقد أعطاها (أبوخشبة) بإنشاده المتقن لها سمة الذيوع والانتشار، وكثير من الشعر والقصيد ساهم الإنشاد في خروجه من دائرة الأدباء إلى دائرة أكثر شمولاً واتساعًا، فالشاعر السوداني الهادي آدم كتب شعرًا كثيرًا ولم يكتب الذيوع إلا لقصيدته (أغدًا ألقاك)، والشاعر البائس محمود أبوالوفا أبدع قصيدًا ظل حبيس داره العتيقة والمتواضعة، ولكن قصيدته (عندما يأتي المساء) هي التي حلقت باسمه في دائرة الأفلاك التي كان من قبل يحلق بروحه في مداراتها -وحيدًا- فإذا بجموع من المعجبين بالصوت الحسن واللحن المبني على قواعد الفن الرفيع، إذا بتلك الجموع تشاطر (أبا الوفا) تحليقه وتتعاطف مع بؤسه وعزلته ووحدته التي لازمته لأخريات حياته.
(سوق الليل) عرف إنشاد (اليماني) الذي يعتمد في إيقاعه على حركة اليد، وهو فن اندثر مع رحيل رجال عرفتهم من أمثال آل المريعاني وآل الشاولي، وعلي صائغ، والسيد علي بن يوسف ودرويش دوش، وحسن شامي وسواهم، وكان (العيوني) حاديًا في هذا الفن الذي يذكر الراوية في تاريخ مكة الاجتماعي السيد عباس مالكي بأن بداياته كانت في حي حارة الباب، ولم يكن يجد الناس حرجًا في مجالسهم الخاصة من ترديد (الدانات) المأخوذة كلماتها من كتب الإنشاء والتشوق إلى الديار المقدسة، وهو في هذا يلتقي مع فن (الصهبة)، فما خلفه البوصيري والبرعي، وابن الفارض والنبهاني من شعر في تمجيد الذات الإلهية أو في ذكر شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم، كل ذلك وسواه يعد نبعًا صافيًا ودائمًا للقلوب التي امتزجت شغافها حبًّا ووجدًا وهيامًا بالديار التي شهدت أرضها وسماؤها انبثاقة النّور وتنزّل الوحي وهطول سحائب الرحمة والرضوان، وإن قلبًا لا يحنّ للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وإنّ لسانًا لا يوقر ويُعظم سيد البشر وشفيعهم لهو في بؤس عظيم في دنياه وآخرته.
كان (العيوني) يحفظ كمًّا هائلاً من الأشعار المرغبة في رضاء الله أو تلك المحلقة في سماء الحب الإلهي، كما كان يحفظ جل أشعار الشاعر والفقيه الشافعي إبراهيم فطاني -رحمه الله-, واليوم وقد رحل شيخنا الفطاني منذ عقد من السنين، ورحل راوية شعره (العيوني -رحمه الله- فإني أتوجه لمعالي الصديق الدكتور سهيل قاضي رئيس مجلس إدارة نادي مكة الأدبي وإلى الصديقين الشاعرين حمزة إبراهيم فودة وفاروق بنجر للبحث عن شعر الفطاني، ونشره أسوة بما صنعته جامعة أم القرى من نشر أدب الأستاذ محمد عمر توفيق وما صنعه الأديب الأستاذ عبدالمقصود خوجه من نشر تراث الشعراء والأدباء الرواد من أمثال: السيد أحمد العربي وأحمد إبراهيم الغزاوي ومحمد حسين زيدان وعزيز ضياء وعبدالحق نقشبندي، وعبدالحميد عنبر، وحسين سراج، وعبدالله جفري، وعلي أبو العلا وسواهم.
لقد كان (العيوني) كرفيق دربه السيد علي بن يوسف، عفيف اللسان، نظيف اليد والسلوك، وكنت مرة في مجلس الشيخ عبدالله بصنوي فوجه الحديث إليَّ قائلاً: هذا الرجل الذي كان جالسًا -يعني السيد علي بن يوسف- يجلس معنا كل يوم ثم يترك المجلس فلا تسمع منه كلمة سوء في أحد، وأبعد ما يكون عما يقع فيه البعض من نقل الحديث أو إثارة الفتنة بين الإخوان والأنداد، وكان العيوني الذي يواظب على أداء الصلوات في المسجد الحرام إنسانًا محبوبًا عند شباب الحي الذي كان يسكنه من قبل في (السليمانية)، فهو ينصحهم ويوجههم إلى طرق الخير. وذكر لي أحدهم قصة مضمونها أن المدرسة التي كان يتلقى التعليم فيها طلبت منه أن يحضر ولي أمره، وكان والده غائبًا، فقصد دار الإنسان (العيوني) فذهب معه وتحدث مع المسؤول في المدرسة وخرج الجميع راضين بما فعل.
وكان على تواضعه زاهدًا عما في أيدي الناس، فلقد حدثني الوالد البصنوي -رحمه الله- أن بعض معارف (العيوني) حملوا إليه بعض المال ليستعين به على قضاء حوائجه فرفض في أدب وأخرج من تحت وسادته بعض جنيهات من الذهب وهو يقول (هذا مما كسبته من عرق الجبين في مطلع الشباب)، وقد أخبرني الصديق والمربي المعروف الأستاذ محمد نور مقصود أن معالي الأستاذ أحمد زكي يماني ذهب يتفقده في داره التي سكنها في أخريات حياته بالشرائع فلم يتكلف -العيوني- في شيء، حيث أخرج حصيرًا وجلس الضيف مع مرافقيه وقدم لهم ما تجود به نفوس القوم من أهل الجوار، فلقد كانت البساطة تطبع حياة ذلك الجيل الذي عايشناه واقتربنا منه وتعلمنا منه الشيء الكثير، وأختم مقالتي هذه عن الراوية (العيوني) بحادثة كنت شاهدًا عليها وذلك عندما توفي الرجل الحي عبدالله مريعاني فحملنا جثمانه من (النقا) حيث كان يسكن، وصلّينا عليه بعد صلاة العصر في المسجد الحرام، وحملناه إلى مثواه في مقبرة (الحجون) وبعد أن حثونا التراب عليه ودعونا له بالرحمة والغفران من رب العباد، خرجت برفقة الوالد البصنوي نمشي على أقدامنا من الفلق إلى الشامية فإذا برفيق دربه (العيوني) يظهر لنا فجأة ليقول: لقد دفن مع المريعاني اليوم كثير من إنشاد اليماني الذي لا يعرفه سواه، واليوم وقد ودعت (مكة) واحدًا من آخر رواة التاريخ الاجتماعي، وأبرز حداة الإنشاد الذي كانت ترتفع به الأصوات الشجية في (جياد) و(القشاشية) و(سوق الليل) و(الشعب) و(المسفلة) ومن أكرم من عرفت في حقبة تقترب من الأربعين عامًا- خلقًا، وسلوكًا، وورعًا وتقوى، اليوم مع رحيل (العيوني) يُدفن ما تبقى من ذلك الإنشاد والرواية الاجتماعية المرتكزة على حافظة قوية وفصاحة عرف بها ذلك الجيل الذي تفتحت أعين رجاله على مرأى البيت الذي تنزل حوله الرحمات وتبطن الإيمان الفطري نفوسًا منهم وقلوبًا وانعكس على وجوههم وضاءة ونورًا.
آخر الكلام:
روى مؤرّخ مكّة أبي عبدالله الفاكهي أبياتًا للشاعر المكي كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي رواية عن الزبير بن أبي بكر وفي أبياته تلك يرثي صحبه الذين فارقوه، ويصور مشاعره إزاءهم فيقول منتحبًا:
عَيني جُودي بَعَبْرةٍ أسرابِ
بدموعٍ كثيرةِ التّسكابِ
إنّ أهل الحصابِ قد تركُوني
موزّعًا مولعًا بأهلِ الخَرابِ
كمْ بذاكَ الحُجُونِ مِن حيّ صدقٍ
مِنْ كُهولٍ أعفّةٍ وشَبابِ
سَكنوا الجزعَ جزعَ بيتِ أبي
موسى إلى النَّخلِ مِن صفيِّ السيابِ
أهلُ دارٍ تتابعوا للمَنايا
ما عَلى الدَّهرِ بَعْدهُم مِن عِتابِ
فارقُوني وقَدْ علمتُ يقينًا
ما لِمَنْ ذاقَ مِيتةً مِن إِيابِ
أحْزنتْنِي حُمولهم يومَ ولُّوا
مِن بِلادي وآذنُوا بالذِّهابِ
 
 
 
طباعة
 القراءات :242  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 51 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.