شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حول استفتاء ((الجزيرة)) (1)
استفتاء الجزيرة الذي وزعته منجماً، ثم جعلته عاماً مجتمعاً في عدد ربيع الأول من هذا العام: هل تسمح لي أن أدعه جانباً وأضرب عنه صفحاً، ولو مؤقتاً، ثم سأجيبك عما حدث في عام 1348هـ تزيد أو تنقص قليلاً... قد يكون في هذه القصة ما يعني الجواب عما استفتيت عنه، أو قد يكون فيه ما يصور لك أيامنا الغر وآناءنا الزهر قبل ما يزيد على اثنين وثلاثين عاماً، وبالتحديد قبل أن نحيط علماً بشيء تعدد أسماؤه من بنزين إلى بترول إلى نفط... إلى ما نقرؤه في الكتب والصحف، أو يبلغ أسماعنا من بعيد...
في تلكم الأيام أيها الرجل، كنت أبلغ من العمر نحو خمسة عشر عاماً، وقد تزيد عاماً.. فإن لي مولدين -إن لم تعلم:
المولد الأول عندما بنى والدي علي بن سرحان يرحمه الله داره بالمعابدة في موقع الحديقة التي تجاور القصر الملكي شمالاً بشرق.. لقد بناها عام 1331هـ، وقال: إني ولدت بعدها بسنة وعدة شهور، وعندما دخلت مدرسة الفلاح بالقشاشية في تلك الأيام استصغرني مديرها -عبد الله حمدوه- فأمر بتسجيلي في مواليد عام 1334.. وهذا استطراد لم يكن له أي داع، ولكن هكذا كان...
في قريب من تلك السنين أمر إمام المسلمين جلالة الملك الراحل -عبد العزيز- تغمده الله برحمته وأجزل مثوبته، جهة مختصة فوكلت رسوم الإبل والبغال والخيل والحمير والسمن إلى والدي يرحمه الله تعهداً يتسلم به ثم يحاسب تلك الجهة المختصة يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً، فلم أعد أذكر...
وكان جلالة الإمام الخالد الذكر عبد العزيز يركب لصلاة الجمعة في كردوس من الخيل من قصر السقاف بالمعابدة إلى الحرم المكي، ولم يكن هذا الكردوس ليزيد بحال عن أربعين فارساً، كان أحياناً يتقدمهم، وطوراً يتوسطهم على شكل هلالي، وهو في وسطهم مثل نقطة الدائرة لا يتقدمه أحد، وهم في المؤخرة على هيئة جناح طائر، وعلى الضفافين عن يمين وشمال وجلالته رحمه الله يتكوكب في وسطهم، إلا أن جمحت به فرسه أو حصانه وكانا من أصائل الخيل العربية، فإذا هو يشذ أمامهم، وإذا هم وراءه مثل أسطار الكتاب متوالين، منتظمين وراء بعض في انسجام تام..
أنا أعرف أني شططت عن الموضوع، ولكن تلك الصورة لم تختلط في خلدي كبقية الصور التي امَّحت وامّزجت، حتى لقد أصبح متعذراً على كل امرىء أن يميز صورة عن صورة..
في تلكم السنين التي أصبحت عشراتها عندي تعادل المئين كنت أقوم بخدمة والدي في "ماقفة" يعني سوق الإبل، وكان يتوسط الشارع الممتد من الجعفرية، وينتهي في ريع الحجون، وكان يكتظ أيما اكتظاظ، ولكنا مع هذا الازدحام الفائق المثال على غاية الطمأنينة، فما كان هناك شيء اسمه سيارات.. فأما ما يسمى بنزيناً فلا نعرفه، وأما الكاز فنوقده في فوانيسنا وأتاريكنا ودوافيرنا وما إليها، وبعد ذلك فلم يكن ليهمنا أي اهتمام..
أيامها سقاها الله وبل الغمام، كانت أياماً أيما أيام، في الصباح الباكر وفي الضحى وقبل الظهر، وبعده، والعصر، وما بعده إلى ما بعد المغرب، كنت أيها الرجل لا ترى إلا حملات -أحملات- أهل القصيم والوشم والعارض وغيرهم، فقد ترى كل يوم في البكور أو في الأصيل، عشرات تتلوها عشرات من الإبل تحمل الطاف الزل -السجاجيد- العربي، ثم الفارسي في مختلف أنواعه، ثم تجد شكول المشالح -البشوت- من كويتية إلى أحسائية وغيرها من -أبو شهر- أمثال أبو يدى الدورق، والبزوني، والمطلق، والطلاع، والبدوي، والشمالي، والحساوي من خفاف وثقال، مع العبي -جمع عباءة- وهي التي تسمى سعدونية، وقد اختلط أبيضها بأسودها..
وفي نفس اليوم -والنفس يلهث- فهذه حملة أكثر من مائة من الإبل عليها روايا السمن البري الأصيل، كل راوية لا يحمل منها الجمل أكثر من اثنتين، وفي ما عداها ينهض بنحو أربع..
وبينما نحن كذلك في غاية الرخاء والدهشة من هذه النعمة المتواترة إذا نحن بقطعان الغنم العربية -لا السواكيت ولا البربرية- هذه غنم نجد، وتسمى "النجد" ألوانها سود، وفي عظم خلقتها، ما يشبه أن تكون عجولاً هولندية، ثم بعدها بقليل هذه قطعان بالمئات من غنم الحرة، ثم هذه غنم الجنوب من شهرانية وميدية ورفيدية.
ثم هذه الخيل الأصائل تجلب إلى مكة من بنات الحمداني والصويتي والصقلاوي إلى آخر ما هنالك في أنساب الخيول العراب الأصائل..
وتلحق بتلكم قافلة في غاية الفراهة من الحمير الأحساء البيض العتاق التي تشبه الخيول في كثير من سماتها وثباتها وسبقها.
ثم ماذا..؟
ثم كنا نركب أقدامنا من مكان إلى آخر من أعلى المعابدة إلى مقر وزارة المالية بأجياد، لا نتذمر من تعب، ولا نشكو من نصب.
وكانت الإبل من أوراك وعمانيات وغيرها.. والخيل من شتى أعراقها الأصيلة تجلو صدأ النواظر بين غدو ورواح في ضيق من الطريق أو انفساح..
كنا كذلك فما عدا هنا مما بدا هنالك..؟
زد على ذلك تلك البسط.. كانت تسمى في الحجاز "شملة" وتجمع على "شمال"، وفي نجد تسمى "ساحة"، وجمعها "ساحات".. كانت لحمتها وسداها من أصواف الأغنام التي تصبغ بشتيت من الألوان..
أما الآن.. فلا تجد إلا أكلحة مصر، وبسط الهند..
دع استفتاءك جانباً يا سيدي، وخذ معك القراء لترجعوا إلى قراءة المقال من أوله، ولتعرفوا من بعد ذلك أن ما حدث بعد كل هذا.. إن كان نقمة فهو من عند أنفسنا، وإن كان نعمة.. فهو نعمة لأفراد معدودين، لا تقاس أصفارهم بالملايين..
ألسنا اليوم نستورد كل شيء من الخارج.. حتى الأشياء التي اشتهرنا بتصديرها..؟ حتى الضروريات من لباب المعيشة..؟
وعليك أنت أو على القارىء أن يجيب عن السؤال، بلا داع إلى تعسف أو استعجال..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :294  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 181 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان الشامي

[الأعمال الكاملة: 1992]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج