شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مصير المدنية الحاضرة على ضوء
العلم والتاريخ (1)
سؤال معقد، وعسى أن يكون الجواب عليه أشد تعقيداً، ولكني راضٍ -بلساني على الأقل وإن بدأ قلبي يتذمر- بإطاعة مجلة المنهل وإشباع فضولها الأدبي اللذيذ، بفضول مثله وإن يكن أقل منه لذة!
إن هذه المدنية الحاضرة تبدأ من عصر النهضة في إيطاليا أو تبدأ من الثورة الفرنسية، أو تبدأ من ثورة "كرومويل" في إنكلترا، أو عند اكتشاف سر البخار وتذليله، أو الكهرباء واستعمالها، فلست أدري بالضبط متى بدأت هذه العجوز الشوهاء الحيزبون تتخذ الأصباغ والطلاء وأدوات التبرج، لتعود كما خيل إليها غادة كعابا، ومع ذلك فإني أود -أنا وحدي إن لم يكن معي أحد- لو زالت هذه المدنية بأسرع مما جاءت.
أقسم بخير ما يقسم به إنسان، أني من شدة برمي بها ومقتي لها، لكأن الذي أوجدتها وحملت وزرها فمتى أطرحها عن ظهري؟ ليت شعري..
هذه المدنية إن لم تزل بطبيعتها كما زالت المدنيات السابقة، فينبغي للناس، بل يتحتم عليهم جميعاً أن يزيلوها، ويطَّهروا من شرورها الموبقة، وأن يبدعوا لهم مدنية عالية تبني دعائمها الأساسية على القيم الروحية والمعنوية، وتتألف عناصرها من خير ما ارتقى إليه وفطر عليه الإنسان من الخلق والصدق والنبل والعدل والصراحة، لا لأجل أن يلبسها متى أراد، ويخلعها متى شاء كما يفعل إنسان هذه المدنية الكيذبان، ولكن يلبسها في السراء والضراء، وفي المنشط والمكره، وفي كل حال، وعلى كل حال.
إن إنسان هذه المدنية مارد انطلق من قمقمه، فانطلقت معه كل الشرور والآثام والمظالم والمعاصي، وقد ركبت فيه غريزته شر تركيب؛ فهو يريد التسلط ويحب الاستبداد ويتشهى الاستعلاء، وجرت الأثرة والأنانية في عروقه مجرى دمائه.
الذين كانوا يخوفوننا من استبداد الطغاة منهم، هم الذين استبدوا بنا اليوم وقد كانوا يطلبون منا أن نناصرهم لاسترداد حرياتنا المهددة، فلما ناصرناهم عليهم وأدوا حرياتنا ونحن قيام ننظر، وقد رأينا بأعيننا إخلاف جبارين بعد إسلاف، وعلوج مستعمرين بعد إجلاف، فأي أمر انصلح؟ وأية حالة طابت؟
إن قيمة الإنسان "السياسي" اليوم، هي قيمة ما ترعاه دولته من ملايين الأفراد وما تحتله حكومته من عشرات البلدان وما يطاع من أمر بلاده وما لا يطاع، وليست قيمته في إخلاصه لبني البشرية، وصدق خدمته للإنسانية وعمله على إسعادها ورفاهها، فإذا كانت هذه هي قيمة الرجل "السياسي" الممتاز فما قيمة الإنسان العادي على وجه العموم؟ أليس الفرد العادي عبداً ذليلاً يفعل به سادته المحدثون (المتمدنون) اليوم شر ما يعمله "الرومان" القدماء قبل ألفي عام وزيادة؟
وماذا نقول عن العلم الحديث الذي بلغ الذروة؟ إن الوسائل التي تسير الباخرة والطائرة في السّلم هي الوسائل التي تستعمل للتدمير والعدوان؛ فالبخار والكهرباء والطاقة الذرية، شرها أعظم من خيرها، وضرها أضعاف نفعها...
فلأول مرة انبثقت "الذرة" كانت نذير شؤم وخراب، وقد أبادت مدينتين بسكانهما الأبرياء من شيوخ ونساء وأطفال وغيرهم، ولم تستعمل حتى الآن في شيء صالح أو نافع.. وهم لا يريدون تدمير الأرض فقط، ولكنهم ضلة لأحلامهم، يريدون أيضاً الوصول إلى القمر حتى يتم استعماره ودماره، فهل من كفر وعصيان يفوق هذا الكفر والعصيان؟ ولكن الله جل جلاله لن يبلغهم ما يريدون.
هذه المدنية تحمل جراثيم فنائها في عناصرها الأساسية، وستدمر نفسها بنفسها كلما طغى العقل أو العلم، وتوهم أنه لا حد له يقف عنده أو ينتهي إليه.
مصير هذه المدنية الزوال المحتوم. وإني لأستعجله أبرح استعجال، ولكن الله سبحانه يقول: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ (2) فحمداً حمداً يا نافخ الروح ويا مانح الحياة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :205  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 178 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد عبد الصمد فدا

[سابق عصره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج