شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حسين سرحان.. يتكلم بعد صمت طويل:
نصيح في الصم ونخاطب البكم ونتحرك أمام العمي
فما الجدوى من كثرة الكلام.. وما كانت النتيجة (1) ؟
حوار: كمال كيلاني
عرفت شعراء كثيرين خرجوا من برزخ الشعر، وغطهم "شيء ما" في الصمت.. ولكني لم أعرف شاعراً بكثرة صمت "حسين سرحان"، وسكوته...
سكت عن قول الشعر... منذ أكثر من عشر سنوات.. ولم يسمح لأحد قط أن يسأله لماذا سكت.. وحسين سرحان، من شعراء الرعيل الأول في المملكة العربية السعودية.. ومن الشعراء القلائل الذين تحمل أشعارهم فكراً وصوراً وموسيقى...
أمضى زمناً من حياته متنقلاً في ربوع البادية ومراتعها.. وبدت سمات تلك الصحراء بارزة في شعره، وفي صدق تعبيره، وفي أسلوبه.. كما انعكست صخورها على صمته الحالي...
وعندما رغبت في إجراء مقابلة معه.. قال عدد من الأدباء والكتّاب:
- "مستحيل أن يتكلم... فلقد تسابق كثيرون من قبلك.. ولم يفلحوا في إخراجه عن صمته"..
قلت ضاحكاً:
- "عندما لا نريد المستحيل فإننا لا نريد شيئاً!".
وسافرت إلى مكة أكثر من مرة.. وفي كل مرة كان يفتح لي بابه.. فأدخل وأجدني أمام مئة باب مغلق...
قال باقتضاب:
- "إن الساعة التي أجدني فيها مستغرقاً في القراءة، تساوي عندي كل ما في الدنيا.. وما من شيء يعزلني عن القراءة إلاّ ما يشبه النوم، ومقابلة الأصدقاء، أو الخروج من الدار إلى أي ناحية أخرى -والقراءة هي اليوم لذتي الوحيدة".
قلت:
- "ألاّ يستثيرك شيء إلى الكلام"؟!
قال بلهجة غير المكترث:
- "أكثر أنواع الكلام ضروب مضحكة من الأحلام الهاذرة، والأكاذيب السخيفة التي تصبح كالفقاقيع، تعود من حيث أتت كأن لم تكن.. والأحاديث العامة مثلاً بين جميع الناس لا تتطرق إلاّ إلى الأحوال المعيشية.. والسؤال عن الصحة.. ومن أين جئت.. وأين أنت ذاهب.. فأنت ترى أن مثل هذه الأحاديث لا غناء فيها ولا فائدة منها!".
قلت:
- "إذا أردت ألاّ تموت أزهار بستانك، فافتح بستانك"!
قال في لهجة تحمل تيه الشعراء:
- "قلت لك أنا مجرد قارئ... ولا شيء غير ذلك".. واقتضى الأمر شيئاً من الحدة.. فالمحار إذا لم نجرحه.. فإنه لا يعطينا اللؤلؤ... قلت:
- "لنا أن نسأل لماذا توقف حسين سرحان منذ أكثر من عشر سنوات..؟ هل لأنه لا يستطيع أن يفتح فمه على بضعة أبيات تحمل معنى، أو رؤية، أو نفحة إنسانية؟".
قال بعد أن نظر إلي طويلاً:
- "إن هناك أسباباً عديدة لصمت الشاعر والكاتب والأديب"..
قلت:
- "عندما يتوقف الشعراء والأدباء ويلزمون الصمت.. فإنهم يحذون حذو المخلوقات الصدفية.. يؤثرون البقاء في قواقعهم الصلبة الآمنة"..
واختلفت عشرات التعابير على وجهه، وقال بصوت مضطرب:
- "منذ مدة طويلة آثرت الانزواء.. بعد مئات المقالات، ومئات القصائد.. منذ أكثر من خمسين سنة وأنا أعطي.. أعطيت "أجنحة بلا ريش".. و "الطائر الغريب".. و "في الأدب والحرب".. قدمت كل ما أستطيع.. وليس عندي ما يستحق التقديم"...
"أنا الآن أبلغ من عمري التاسعة والستين... ماذا كسبت بعد غبار معارك نصف قرن..؟ يا لها من خيبة قاسية!".
قلت:
- "لا أحد يفهم أنك أعطيت كل شيء.. عليك أن تعطي أيضاً... أعط هذه "الخيبة القاسية" فهي عالمك الآن، إذا شئت.. ومهمة الشاعر تقديم عالمه للآخرين!".
وانفجر.. قائلاً:
- "أي آخرين..؟ إنا نصيح في الصم الذين لا يسمعون، ونخاطب البكم الذين لا ينطقون، ونتحرك أمام العمي الذين لا يبصرون... ما الجدوى من كثرة الكلام؟ لقد طفق العرب أكثر من نصف قرن يتكلمون.. وصاحوا وناحوا.. فماذا كانت النتيجة؟ وحتى لو أُعيدت الأسطوانة بنفس الكلام السالف.. وبنفس الصوت المجلجل.. فإن النهاية هي النهاية دون أدنى تغيير".
قلت:
- "لا فائدة؟!".
قال:
- "ليس من الممكن أن تخاطب المدفع القوي بأبيات من الشعر.. وليس من الممكن أن تخاطب القنبلة الذرية بمقالة نثرية ممتعة جميلة"..
قلت:
- "إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب... يا لنا من مزيفي نقود"!
وراح يحدق في، وقد بدا عليه شيء من الاستغراب لحظة ثم قال:
- "الناس يظنون أن الصمت سكون تام مطبق، وليس ذلك بصحيح، فإن الصمت كلام مستتر لا يديره ولا يسمعه إلاّ صاحبه.. وعندما تسكن جوارح المرء وتسترخي مفاصله ويصبح في مثل التهويمة المغيبة، تنضو النفس غلائلها، وتكشف حجابها، وتأخذ في استعادة ما مضى عليها، وتأمل ما يستقبلها، وتذهب كل مذهب في البحث والتنقيب والتذكر والتفكر والاستعداد.. والذي يسمونه صمت القبور لا يوجد إلاّ في القبور نفسها.. فإن الإنسان المتحرك الذي يعيش الحياة بكل لأوائها ومتاعبها، لا يمكن أن يظل صامتاً وشقاء الدنيا وبلاؤها يقتحم نفسه ويفقأ عينيه.. فكيف له بالصمت..؟ وأين السبيل إلى الصمت بعد هذا كله؟!".
قلت:
- "ولكن تفكير الكاتب أو الشاعر الأصيل، لا يتحدد إلاّ من عملية الكتابة أو التعبير اللفظي.. وإذا لم تتعانق عنده "الفكرة" و "العبارة"، يعني ضمناً أن ضمير الكاتب أو الشاعر في أزمة"...
فأجاب قائلاً:
- "إن الشاعر الذي يقيم من ضميره الأدبي رقيباً على ما يكتب أو ما لا يكتب، هو مفكر أمين مخلص يشعر بفداحة مسؤوليته.. إن شهوة الكلام عند كثير من الشعراء أشد من شهوة الطعام والشراب.. ولا يهم إن كان الكلام نافعاً أم لم يكن".
وأرسل بصره عبر النافذة وهو ينظر إلى الشارع الطويل المعبد على البطحاء.. وأمامه مسجد.. يتوسط وادي إبراهيم عليه السلام.. وتركته يمضي في صمته الرصين لحظات، ثم سألته قائلاً:
- "ماذا يستوحي الأديب المكي.. من وادي إبراهيم؟!".
التفت إلي، وقال:
- "إن وادي إبراهيم منذ أن زفت.. لم تعد تجري فيه السيول... فقد وضعت للسيول سدوداً ما وراء المكان الذي يسمى اليوم "العدل" في أعلى مكة... ومن هناك تنصرف السيول يمنة ويسرة.. ولا تدخل وادي إبراهيم"..
وسكت لحظات أردف بعدها:
- "مئات ومئات من الأفكار، وأنصافها، وأرباعها، وأجزاء أجزائها، تدور وتدور، وتتفرق وتتجمع وتختلط وتسكن، ثم تضطرب.. وذكريات وأحاديث نفسي، منها ما يتصل حتى يتم فصوله، ومنها ما ينقطع قبل ذلك.. في لحظات الصمت هذه، اضطربت نفسي وقلبي بتيارات كثيرة من المشاعر والعواطف والإحساسات، والأفكار، والذكريات..
فكرت في العرب والمسلمين وتتابع النكبات عليهم، وقفزت إلى ذهني عبارة "غثاء السيل".. التي جاءت في حديث نبوي مشهور..
واستعرضت "مصادر التاريخ" فعجبت من أمور لو جرى فيها القلم بشيء هيّن من التحقيق الدقيق، لانقلب البياض سواداً ولعاد السواد بياضاً في أغلب الحالات.. ورأيت كذلك مذبحة عالمية لليهود، أدري متى يحين حينها على التحقيق، ولكني على أجزم اليقين من وقوعها ولو بعد مائة عام!
وذكرت الموت، وأنا أذكره دائماً ودائماً، فاستعجلته.. والله على ما أقول وكيل، إني أعيش في حندس من الليل في هذه الحياة، أمد يدي هنا وهناك وأنا في مكاني، فما تقع على شيء يصلح للاستعمال والاستهلاك إلاّ دفعته إلى موضعه من جسمي ونفسي.. فإن لم أجد شيئاً وضعت رأسي بين ركبتي، وغططت.. إن هزتني فكرة -مهما كانت- قلت ارجعي إلى مكانك ونامي.. فلست بخير مني على أي حال"...
ولم يتركني حسين سرحان قبل أن يقول لي:
- "أرجو ألا تفعل بي كما فعل أستاذنا الكبير حمد الجاسر.. أنا أمضيت قسماً من شبابي في بعض ربوع البادية حول مكة والطائف.. والقسم الآخر في الحضارة بمحلة "المعابدة" بمكة المكرمة.. وفيها أخذت دراستي الأولى في الكتاتيب الأولية، وبعدها في مدرسة الفلاح بمكة.. درست فيها نحو سنتين.. ثم خرجت منها دون أن آخذ أية شهادة... ودرست على نفسي بالقراءة المدمنة في الكتب والصحف.. وأذكر أن أول ما قرأت من كتب كتاب "جواهر الأدب" لأحمد الهاشمي.. وهو كتاب مشهور قبل أكثر من نصف قرن.. وقد أعيد طبعه عشرات المرات".
وكنت يومئذ مشتركاً في مجلة "البلاغ" الأسبوعي و "اللطائف المصورة" وكانتا تصدران في مصر..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :225  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 152 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.