اصطلح الناس منذ القدم على أن في رأس الإنسان أو في قلبه [شيئاً](2) اسمه العقل يكبح جماح الطغيان ويرد عوادي الشرور ويزهق تعسف الباطل.
وقد كنت أؤمن بهذا العقل إلى حد ما، ولكن الدنيا هذه يحدث فيها دائماً أشياء تزلزل هذا الإيمان أو تكاد تمحوه محواً تاماً.
ومن هذه الأشياء تصويت الدول بضرورة تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وهو أمر لا يخالف طبائع الأشياء فحسب، ولكنه يجرد الأشياء حتى من.. طبائعها.
وقد يكون من مزايا العاقل أن يكون كريماً مضيافاً دفاق البشاشة يؤوي كل مشرد مطارد في بيته، ويطعمه، ويغدق عليه من أفضاله، ويخفف من بلواه، ويصيخ إلى شكواه، ولكن هناك من يذهب في العقل والكرم إلى أبعد من هذا المدى المحدود بحيث لا تتصور مهما كنت خيالياً متطرفاً تلك الآفاق العالية التي يحلق فيها عقله وكرمه العجيبان. إن هذا العاقل الكريم يوصد أبوابه في وجه المشرد البائس، ثم ينظر في كل ناحية، حتى يبصر بيتاً بعيداً تبوأ فيه ساكنه منذ ألفي عام تقريباً، فيأتي إليه ويقول له -في لهجة حاسمة صارمة- أخل بيتك يا هذا، ودع هذا المشرد يسكن فيه!
وقد تضحك، بل تستلقي على قفاك من الضحك ظناً منك أن عاقلنا الكريم يريد أن يركب صاحب البيت بالتندر والدعابة، ولكن سرعان ما تغيض ضحكتك في حلقك عندما تتأكد أنه لا يقصد إلاّ الجد الذي ما بعده من جد.
وقد يسيء ظنك بالعقل، وتهبط ثقتك في العقلاء بعد ارتفاع، وتجزم بأن العقل أداة للتسلية والاسترواح، أكثر من أن يكون حلاَّلاً للمعضلات، فراجاً للكرب، منيراً للدياجير، مفتاحاً لكل مبهم مستغلق.. على أن هذا لن يغير من الأمر شيئاً، فإن صاحب الدار عليه أن يفصل في قضيته بنفسه، بعقل أو بجهل مهما كلفه الأمر، وكل الطرق -كما يقال- توصل إلى روما..! أو لا توصل، فإن عليه أن يوطن نفسه على المكروه، ويتحمل النتيجة مهما كانت.
وليست السياسة -كما يخال الناس- ضرباً من المهارة والحنكة والحصافة والتجارب الطويلة، ولكنها أصبحت في هذا الزمن الملتوي مضماراً جديباً تتبارى فيه خيول الزيف والظلم والخداع الهزيل.