شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سلام وكلام (4) (1)
بالرغم من كثرة الأشياء التي [قيلت] (2) وهولها، فإن الأشياء التي لم تقل ولا يمكن أن تقال أكثر وأهول ولا يعد من الأشياء التي قيلت.
ماذا يحيك في النفوس، ماذا يجول في البال، ماذا يدور في الخلد، ما الذي يختلج في الفؤاد؟ أشياء تفوق مدى التصور، أشياء تتجاوز نطاق الخيال، أشياء تروع وتذهل، ومعالي وسفاسف، وأطهار وأوضار.
تتحدث النفس الإنسانية بمفارقات ومتناقضات لا يمكن أن يحيط بها حسبان، ترتفع بها الأخلاد، وتنخفض بها الأذهان، وهي على اختلافها واتفاقها وروعتها أو ركاكتها تعيي كل تعبير، وتنفلت على كل بيان.
والذهن البشري زئبقي رجراج، بينا هو يفكر في الأرض إذا هو متصل بأعالي السماء، وبينما هو معتدل وسط، إذا هو متطرف إلى أقصى الشمال! بل إنه سريع الانفلات، فبينما هو يوسوس في الأعماق إذا هو يرتفع إلى أعلى الآفاق!
ومن حسن حظ البشرية أن ما كل ما يخطر في البال يقال، ولا كل ما يقال يكتب، ولا كل ما يكتب ينشر، وإلا لانتشر على أناس وباء وفساد كأرجال الجراد!
فقد ترى أن أهم الأشياء التي تقع لا يمكن أن يعبر عنها، ومنها ما لا يجوز أن يصرح به، بل إن منها ما لا يليق أن تحدث به نفسك، فضلاً عن أن تفعله، وهو المستحيل الاحتمال!
ولست أدري أين يقع التصور والتخيل من ذهن الإنسان أو من قلبه، ولا حتى من رأسه أو من رجله، ولكني أدري أنه يقع بأبسط أداة في أسخف أسلوب، وبأقل تخيل بأخف كلفة!
ودع كل هذا.. فلو أن كل ما قيل أو تحدثت به النفس قد سطَّره القلم -وهذا في ذاته مستحيل- إذاً لأصبحت الأرض مستنقعاً وخيماً، ولو جرت حوله الأنهار والترع، كما كان يقول المرحوم مصطفى الرافعي إمام العربية في هذا العصر.
بل إن من آيات الله سبحانه وتعالى أن الإنسان مهما كان، لا يمكنه أن يقوم بأهون أمر بمفرده على حدة.. إلاّ إذا كان مستعيناً بجهة أو متعلقاً بناحية، أو متصلاً بقدرة خارجة عن نطاقه.. أما إذا كان وحده، فإنه أخيب من أن يصنع شيئاً ولو لنفسه فضلاً عن سواه!
عالم أو عيلم زخار في قلب الإنسان يتحدث بكل ما يجوز وما لا يجوز، ويهرف بالممكن وغير الممكن، ويأتي بالنقائض فيحلها محل الحقائق، ويلعب بالذهن تصعيداً وتصويباً، ويتقلب الخلد بكل ذلك علواً وسفلاً! ومع ذلك فإنه الإنسان، وهو بذلك كائناً ما كان! لا يدل إلاّ على أنه إنسان، مهما كان!
وهذه البضعة التي هي القلب، والتي توزع الدم، والتي تفعم بشتى العواطف وتضطرب بمختلف الإحساسات، والتي هي بمقاس صغير لا يزيد عن (الفتر) ويظل يتأرجح يميناً وشمالاً ولا يستقر لحظة.. هذا الشيء كم ذا من المعاني والأشياء التي تجول فيه، وماذا من المدهشات والنقائض التي يزخر بها ويفيضها على أنواعها؟
بضعة ضئيلة صغيرة تمج العالم الأكبر وتسع أمثاله، ولا تضيق بالأشكال منه على أي حال ولا حتى بأجزائها..
فلو يكتب الإِنسان كل ما تحدث به هذا القلب وكل ما جال فيه وحاك وخطر على البال الذي هو قسم منه ماذا؟ لامتلأت الأرض، وحتى الفضاء -هذراً وهراء لا معنى له ولا خير فيه.. ولأصبح العالم رجساً من الأرجاس، ثم لعاد ناراً ولا كجهنم؟!
ولكن الله الحكيم المتعالي كبح ذاك الجماح، وقصَّر من ذلك العنان، وأشعر الأنفس عجزها الخالد، وأثقل في القلوب ريثها الملازم، وسبحانه عما يصفون.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :220  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.