شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة لسعادة الأستاذ عابد خزندار ))
الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي واحد من القلائل من غير هذا البلد الذين خدموا أدبنا، وكرسوا جزءاً غالياً من وقتهم وحياتهم لدراسته، وهؤلاء مع الأسف يعدون على أصابع اليد الواحدة. أذكر منهم الأساتذة عبد العزيز شرف، وبكري شيخ أمين، ومحمد صالح الشنطي، وعلي جواد الطاهر، والأخير ألّف موسوعة من جزأين عن الأدب السعودي، وقد وافته المنية قبل شهر، وولى خبر وفاته كالطيف، دون أن يذكره أحد إلا القليل النادر كالأستاذ محمد رضا نصر الله. مع أن هذا الرجل العظيم كان يستحق أن ينال جائزة الملك فيصل للنقد الأدبي عرفاناً بجميله وفضله، على أن هذه البادرة لم تأت منا، وأتت، ويا للمفارقة، من الإمارات العربية حيث منح - فيما أذكر - جائزة سلطان العويس للنقد الأدبي.
ولهذا فجميل جداً من الأخ عبد المقصود خوجه أن يبادر بتكريم الدكتور خفاجي قبل فوات الأجل، كعادتنا في تقدير الرجال الذي لا يحدث إلا عندما يخطفهم الموت، كما حدث للرائد الشيخ محمد علي مغربي، الذي لم نتذكره إلا بعد أن وافاه الأجل، بل أن أحد كبار الأدباء في بلادنا - هذا من وجهة النظر الرسميّة على الأقل - هاجمه وتهجّم عليه قبل أسبوعين من وفاته فشكراً للأستاذ عبد المقصود، ولو أن الدكتور خفاجي غني عن التكريم، وجدير به في نفس الوقت. غني عنه لتواضعه الجم. ولأنه لم يسع في حياته قط إلى عرفان أو تكريم، بل تطلع فقط إلى خدمة اللغة العربية والأدب العربي دون أن ينتظر عرفاناً من أحد، وجدير بالتكريم لأن مثل هذا الرجل العظيم يجب أن يكرّم حتى لو خدشنا تواضعه، ولهذا بادرت وأسرعت في المجيء بدون دعوة لأسهم في التكريم مردداً قول المتنبي:
لا خيل عنـدك تهديهـا ولا مـال
فليسعـد النطق إن لم تسعد الحال
ومال هنا رغم أنها معطوفة على خيل المنصوبة، رفعت على الموضع، باعتبار أن موضع لا مع خيل موضعا أبتداء، ومن شواهد سيبويه في هذا الصدد:
هذا لعمركم الصغار بعينه
لا أمّ لي كان ذاك ولا أب
وخبر لا مال، ولا أب محذوف. هذا ما أحسبه، والدكتور خفاجي عالم نحوي جليل، وبوسعه أن يصحح لي هذه المعلومة، فأنا لا أعدو أن أكون تلميذاً له. وهو قد حقق وشرح كتاب "جامع الدروس العربية" للغلاييني، وهو من أعظم كتب النحو. وقد أقدمت إحدى دور النشر اللبنانية على سرقته، ونشرته دون أن ينال الدكتور خفاجي جزاء على ذلك، ومع الأسف فإنَّ الدار اللبنانية أقدمت على سرقة كشّاف الشواهد كما جاء في الطبعة المصرية دون أن تبذل اليسير من العناء في ذلك، إذ أن عدد صفحات الطبعة اللبنانية يختلف عن عدد صفحات الطبعة المصرية، ولهذا إذا أردت أن تبحث عن شاهد في الطبعة اللبنانية لا تجد في الصفحة المشار إليها في الكشف، أي حشف وسوء كيل، وويل للمطففّين.
والدكتور خفاجي حقّق وألّف ما ينيف على مائتي كتاب، وأشرف على إعداد مثل هذا العدد من رسائل الدكتوراة والماجستير، وله بجانب ذلك نشاط اجتماعي وثقافي مدون فهو يرأس رابطة الأدب الحديث، ويشرف على تحرير مجلة الحضارة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في صفحة الأهرام الأدبية، وقد كنت عند أستاذنا عبد الله عبد الجبار وسألته: من أين للدكتور خفاجي هذا الزمن الفسيح والعالم الرحب بحيث استطاع أن يحقق هذا الإنجاز، ولم أخرج منه بجواب مقنع اللهم إلا أن إنجاز شيخنا يصل إلى مرتبة الإعجاز.
وقد عرفت شيخنا الجليل قبل ما ينيف على أربعين عاماً، لا خير لي من أن أذكر ذلك فعمري الآن ثلاثة وستين عاماً، وعزائي ما قاله الشاعر السوري خير الدين الزركلي:
قالوا كـبرت فقلـت شابـت لمّتى
وعليّ مـن أثـر الشباب إهـاب
ليس الصبـا إلا بلهنيـة الصبـا
أمـّا السنين فمـا لهنّ حسـاب
 
ولو أنني أردد أيضاً قول الشاعر، وهو عبد الله بن قيس الرقيات.
بكر العواذل في الصباح
يلمنني وألومهن
ويقلن شيب قد علاك
وقد كبرت فقلت إنّه
 
وأنه تعني نعم، وقد قيل إن "هذان" في الآية إِنْ هَذَانِ لَسَحِرَانِ رفعت لأن أنّ في الآية تعني نعم، وقال غيرهم أن هذان مبنيّة على الرفع في لغة من قال:
أنّ أبــاها وأبــا أباهــا
بلغــا فـي المجـد غايتاهـا
 
وقد رأيت الدكتور خفاجي أول ما رأيته في دار الأستاذ عبد الله عبد الجبار الذي كانت تُعقد فيها في أمسية كل يوم ندوة يحضرها لفيف من المفكرين والشعراء السعوديين والعرب مثل حمزة شحاتة والغلالي والقصبجي وعبد الله خطيب، ومصطفى السحرتي ومحمود أبو رية، والدكتور خفاجي، وشعراء شبان مثل فوزي العنتيل والفيتوري، وكان النقاش فيها مفتوحاً على كل التيارات، وهادئاً في نفس الوقت يحترم فيه الواحد منهم رأى الآخر، وكان أهم هذه التيارات الوافدة أو الجديدة هو شعر التفعيلة، وانقسمنا آنذاك (عام 1952) في ندوة الأستاذ عبد الله إلى معسكرين يتخندق في أحدهما معسكر المحافظين على الشعر العمودي حمزة شحاتة والغلالي وأنا، أي محسوبكم (أرجو أن لا ترفعوا حواجبكم) ويقف في المعسكر الآخر الدكتور خفاجي والسحرتي وعبد الله عبد الجبار على أساس أن لا نرفض كل جديد لمجرد أنه جديد وخروج على النمط التقليدي، وبالنسبة لي فلم أكن أستحسن شعر التفعيلة لأن ذائقيّ ولدت وغمست على الشعر العمودي خاصة بحر الطويل الذي كنت، ولا زلت، أعتبره أجمل بحور العربي وأعظمه، وبالذات عند امرىء القيس في معلقته: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن، وعند طرفة في معلقة: لخولة أطلال ببرقة شهر، والمتنبىء في القصيدة التي يقول فيها:
منى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى
وإّلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
وصفى الدين الحلّى المتوفى في منتصف القرن الثامن الهجري - هذا إذا لم تخنى الذاكرة، والذاكرة خؤون:
طويل له بين البحور فضائل
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعل
أي أنه أفضل البحور، وهذا البحر بالذات - مثل السريع والمنسرح - لا يستعمل مجزؤاً، ولهذا يستعصي على شعراء التفعيلة، الذين لجأوا بدلاً من ذلك إلى البحور التي تقبل التجزئة مثل الرجز: مستفعلن مستفعلن مستفعلن، والمتقارب: فعولن فعولن فعولن والمتدارك أو المحدث: فاعلن فاعلن فاعلن، وكنت أكره هذه البحور لاقترابها من النثرية وخاصة بحر الرجز، ويكفي دلالة على ذلك أن ألفية ابن مالك نظمت على وزن هذا البحر:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
وأسم فعل ثم حرف الكلم
مستفعلن مستفعلن مستفعلن، وهذا البحر لاقترابه من النثرية وطواعيته للنظم سمي بحمار الشعر.
على أنني استثني من هذا البحر هذين البيتين اللذين ينتميان إلى الرجز المنهوك، واللذان أعجب بهما أي إعجاب، وهما لدريد بن الصمّة، واللذان ينتميان إلى الرجز المنهوك أي مستفعلن مستفعلن وحسب:
يا ليتني
فيها جذع
أخبّ فيها
وأضع
الجذع هو الشاب الحدث، والخبب والإيضاع نوعان من السير السريع.
وكان شعر التفعيلة أيامها مستهجناً من كبار النقاد وبالذات العقاد الذي كان رئيساً للجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة، وكان يحيل قصائد التفعيلة التي ترد إليه إلى لجنة النثر، وكان النقاد يتندرون على بيتي صلاح عبد الصبور:
وشربت شاياً في الطريق
ورتقت نعلي
مع أنني أعتبرها الآن أبياتاً رائعة تصف معاناة الشاعر من السجن اليومي أو الراهن وكدّه في سبيل الحصول على لقمة رخيصة للعيش.
وأنا في هذه الأيام أردد أبيات السيّاب الرائعة الخالدة التي أحفظها عن ظهر قلب مع أنّه يقال أن شعر التفعيلة لا يحفظ.
مطر..
مطر..
أتعلمين أيَّ حزن يبعث المطر؟
وكيف تنشج المزاريب إذا أنهمر؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
مطر…
مطر..
وفي العراق جوع
ويا للمناقضة !
 
على أن السيّاب يستمد فكرته من التراث، فقد وردت كلمة التراث بقيمة سلبية في جميع المواضع في القرآن الكريم:
وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذرين، وقد تكررت هذه الآية، إذ جاءت في سورة الشعراء، وسورة النمل.
وإذا كنت استحسن شعر التفعيلة الآن، فالفضل في ذلك يعود إلى الدكتور خفاجي ومصطفى السحرتي.
لا أريد أن أطيل عليكم، وقد أطلت، فقد قلت إن الدكتور خفاجي خدم الأدب السعودي، إذ اشترك الأستاذ عبد الله عبد الجبار في تأليف "قصة الأدب في الحجاز"، وألف مع الدكتور عبد العزيز شرف كتاباً عن العواد قمت بنشره، وقد كتب الدكتور خفاجي مقالاً عن كتابي "معنى المعنى وحقيقة الحقيقة" وهو عن تطبيق السميوطيقا على الشعر الجاهلي، ولا أغالي إذا قلت إنّه الوحيد الذي فهم الكتاب مع أن نقاداً حداثيين كباراً لم يفهموه، أذكر منهم الدكتور جورج طرابيشي.
أخبرني الدكتور خفاجي قبل ثلاثة أعوام أنه كان يشرف على رسالة للماجستير أو الدكتوراه عن حمزة شحاتة، ولا أعرف إذا كانت الرسالة قد أنتهت أم لا، وعلى أية حال فأنا على استعداد لنشرها على حسابي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1467  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 55 من 146
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .