شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الموت (1)
منذ أعوام طوال وأنا لا ينقطع تفكيري في الموت لحظة واحدة، أفكر فيه بين الأكل والشرب، وبين الحركة والسكون، وخلال النوم واليقظة، وأحلم به أيضاً.. وعند السرور والحزن.. ولست أدري على التحقيق ما الباعث الصحيح على هذا التفكير المتواصل العجيب؟ وأغرب ما فيه أني أفكر في الموت على غير رهبة منه، ولا برم به، ولا أريد أن أخدع القرّاء فأقول إني أريده أو أستعجله، وإن كان ذلك يحدث أحياناً.. أحياناً كثيرة!!
كم ذهب عنك من الأقارب والخلطاء، وتركوك وحدك مهموماً منغصاً، ثم تغبر أيام فإذا أنت قد أنسيتهم فكأنهم ما كانوا.. إلاّ في فترات متباعدة من الذكريات ما تكاد تبين حتى تختفي!
وهناك قوم نعرفهم معرفة روح تعجب بروح، وإن كنا لم نرهم ولم ندرك عهدهم؛ فكم من هنيهة تأتي عليك فتتمنى لو كانوا معك ليستمتعوا بشيء معين.
وتقرأ الجندول أو الكرنك، وهما قصيدتان جيدتان، قد ألقيتا في أداء جميل شيق، فتشتهي لو أن هارون الرشيد يصغي إليها كما تصغي إليها.
وتفوز بطعام نفيس ذي أفاويه وألوان، أفلا تتذكر ابن الرومي بالله عليك؟
وتقرأ الفقرة البليغة والمقطوعة من الشعر الجزلة الرائعة؛ فأين الجاحظ والتوحيدي لو كانا يسمعان!
وترى المطية النجيبة والجواد الأصيل المطهم، ودع عنك ما استحدث من وسائل النقل؛ فاذكر إذاً أبا الطيب المتنبي.
ولن تحظى برغيبة مأمولة، نادرة إن كنت لماح الذكاء إلا وهي مقترنة في ذهنك بطيف عظيم من عظماء تاريخك كان يهوى ذلك الشيء ويهيم به حباً ويشد إليه الرحال!
ابتلعت الأرض أبناءها، وطوتهم في أحشائها إلى حين ستنكشف عنه الغيوب إذا قال الله كلمته المحتومة.
ولست أدري أين قرأت أن اليابسة ربع المعمورة بالنسبة إلى أرباع ثلاثة تغمرها المياه على وجه الأرض؟ فإن صح ذلك، فإن هذا الربع الضئيل المتفرق هنا وهناك يرتفع في الهول والفظاعة والرعب إلى حد لا يبلغه الخيال ولا يدركه التصور.
لقد ازدرد هذا الحيز الضيق عشرات الآلاف من الملايين المملينة من عهد آدم إلى اليوم، ومع ذلك فانظر إلى وجه الأرض تجده مستوياً هادئاً سمحاً كأن لم يكن هناك شيء، وما تزال الأرض خلال ذلك كله تعج بالجنان المونقة والخمائل الوارفة، وتطلع الألوان الملونة من الرياحين والورود والخضار والفواكه والأرواح الملتفة والغابات الكثيفة، فيا لأجسادنا من سماد طيب مبارك ميمون النقيبة..!
وفي اليوم الذي يموت فيه عظيم من العظماء النافعين، يولد عشرات من الأطفال البله الذين لا ينفعون، ويعيش فوق سراة هذا الأديم طوائف بعد طوائف من البهائم والزواحف والوحوش، وفي نفس اللحظة تفقص بويضات الذباب والبعوض عن ملايين لا حصر لها، وتضع العقارب والأفاعي والخنافس حمولها المتعاقبة، فما أحقر شأن هذا الإنسان إلاّ من هدى الله ورفع من شأنه!
والدنيا ما تفتأ عجاجة ثجاجة، وما ينفك الناس في شغل شاغل بأمور دنياهم هذا يستزيد في قناطيره المقنطرة، وعشرات يجرون وراء اللقمة الواحدة، ولا يكاد يخطر الموت على بال أحدهم إلاّ بمقدار ما تخطر العزوبة في ذهن العريس ليلة زفافه إلى زوجه.
وقد أتذكر الموت في أهوان من أمره، وهو ولا ريب أهوان العاجز من واقع يرتقبه ولا طاقة له به ولا مفر منه. ولكن النفس الإنسانية مولعة دائماً بالتهوين مما يدحرها ويسلبها طاقتها ويستنفد منها حيويتها، حتى تفاجأ على غرة، فإذا المصير مفروغ منه بأهون سبيل.
وماذا يأخذ الإنسان إلى عالمه الآخر؟ يا له من مسكين، أذرع محدودة من القماش كأنه يتستر بها عن الحجارة والتراب، وسيجد أمامه وفوداً باهرة من الدود تستقبله أروع استقبال، وسيطنُّ اسمه بعده قليلاً، وقد تبقى ذكراه أكثر من القليل، ثم يسحب النسيان ذيله على كل شيء.
سبيل المالك والمملوك، والغني والصعلوك، والمرفه المترف، والخشن الجاف، والمجفو والمقبول، والسالب والمسلوب، فآهٍ عليك من دنيا!
وواعجباً لك من تراب لا تشبع له معدة منداحة، ولا يبل له حلق واسع.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :452  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 132 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الرابع - ما نشر عن إصداراتها في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج