شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الدنيا عجائب (1)
يقول شاعر قديم:
ولكنها الأيام قد صرن كلها
عجائبَ حتى ليس فيها عجائبُ (2)
وقد صدق هذا الشاعر، وإن لم يدرك عمق صدقه وخلوده في هذا البيت النادر.
فكل شيء في الدنيا -تفه أو عظم، ودق أم جل- عجيب، وهو في الوقت نفسه، ليس بعجيب، وهكذا تنتهي المتناقضات إلى مؤتلفات، مع صحة عكس ذلك.
وأعجب ما في الدنيا، هي الدنيا نفسها بما فيها من أفراح وأتراح وأعراض وجواهر، ولكنها أصبحت غير عجيبة، لأنها تضرب منا مواقع الألفة والعادة والامتزاج، ولو بطل مفعول هذه الأشياء فينا، وارتفع تأثرنا بها، لكان كل إنسان منا حقيقاً أن يلتاث عقله، وتهلع نفسه، وتجحظ عيناه من فرط التحديق في هذه العجائب الجمّة المتوالية التي لا تنقطع.
وقبل أن يعجب الإنسان -مع شدة احترامي لحضرته- من عجائب الدنيا، كان الأجدر به أن يعجب من نفسه أولاً؛ فإنه هو العالم الأكبر كما يقول قدماء الفلاسفة، وكل شيء في هذه الدنيا مسخر لجنابه.. أفسح الله جنابه، وأكظ وطابه، ولكنه لعظم غروره وحماقته لا يعجب مما هو قريب إليه ملتصق به، فما يفتأ يدور بحملاقيه، وينفض بهما كل مكان في الأرض أو في السماء فما تقوده عيناه إلاّ إلى الأبعد الأبعد، وإذا هو يملأ الفضاء بصراخه وصخبه، وإذا هو يحجل من رجل على رجل كأنه يُلذع بمثل النار، وعيناه تكادان تنشقان إلى ألف عين، وإذا هو يقول:
انظروا يا للعجب، ما ألمع هذا الكوكب، أو ما أوسع هذه البيداء إلى آخر عجائبه التي لا يعجب حضرته إلاّ لها.
إن الإنسان كالهدهد الذي يرى الماء في أعماق الأرض ولا يرى الشبكة حتى تتدور عليه خيوطها وتتكور!
فالذرة أعجوبة العجائب عندما ينظر إليها الطفل لأول مرة، حتى إذا كبر وبلغ أشده، فلا السماء بأفلاكها، ولا الأرض بأثقالها بمسترعية نظره.
ونترك الماديات، لنكر بالطرف على المعنويات من قيم وأخلاق وعادات، فلا نجد أي تفاوت هنا أو هناك، فكل ما كان متفقاً عليه، فهو مألوف مستحسن، وكل ما كان منبوذاً فهو عجيب مستهجن، والتعجب هنا من الشيء لا ينبغي حدوثه، بل لعلّه يحدث مع ذلك بصفة استمرارية مدهشة.
كانت الكواكب تزهر في طفولة الدنيا، وتُهريق أضواءها الدرية في مرح وأريحية، لأن شعور الكواكب حينذاك، يشبه شعور الجوهر الكريم الغالي الذي يجد نفسه بلا عناء قبل أن يتجشم البحث عنها، فقد كانت السماوات والأرضون خضراء الأفانين موشاة الأفواف، متألقة الرفارف إذ أحكمت صنعها يد الخلاق العظيم الذي سوَّاها.. وكانت الحياة كلها صافية صفاء الليلة القمراء الزهراء على طرائق الرمال الملساء في جوانب بيداء واسعة..
ونهض قابيل فقتل أخاه هابيل، أول حادثة قتل وقعت في التاريخ، وكادت أن تهتز لها السماوات والأرض. كانت حادثة مستنكرة مرذولة حتى من الجمادات، وأبت الأرض أن تسيغ دماء القتيل أو تمتصها، وكانت حديث الكائنات جمعاء وموضع دهشتها واستغرابها، وعلمت الكواكب بعد حين أنها حتم عليها أن تنير عالماً لا يمكن أن يعيش إلاّ في غيابات الظلام.
أما بعد ذلك فما قتل الفرد إلى جانب قتل الألوف والملايين وتدمير المدن وتجويع الشعوب وسومهم ألوان القتل المادي والمعنوي.
فلو رجعنا بالأخلاق المقبولة والمرذولة القهقرى إلى أصولها البعيدة في كهوف التاريخ القديمة لعرفنا كثيراً من العلل في تحريم البعض وتحليل البعض، ولميزنا الفوارق الكثيرة بل ما يجوز منها وما لا يجوز، وما يطيب عند قوم ويخبث عند آخرين، ولا نقطع العجب بعد ذلك من أمور جمة لا ينتهي عجبنا منها!
فقد تعجب من إنسان يرميك بوصمة اشتهر بها، ولكنك لو أمعنت النظر في الأمر لبطل عجبك جداً، وكان خليقاً بك أن تعتبر القضية عادية صحيحة لا غبار عليها ولا تثريب فيها، فإن كل إنسان تسوؤه في نفسه خليقة مزرية تسره في نفس الوقت أن تكون في غيره، فإن لم تكن فيه حقاً، فليقذفه بها! وعلم السرائر عند رب العالمين.. كلا لا عجب في هذه الدنيا! ومع ذلك فالدنيا عجائب.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :701  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 129 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج