شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تجربة مرة (1)
مخالطة سائقي السيارات -ولا سيما الصغيرة منها- والتعرف إليهم ومصاحبتهم، هي التجارة التي لن تبور، بعد تقوى الله. وعلى السواء إن كنت في بلدك أو على سفر وشيك، أو في مشوار طويل، فما عليك إلاّ أن تحرك إصبعك إلى أحدهم، أو تمط فمك عرضاً -كأنك تبتسم له- فإذا السيارة قد انتقلت إلى ملكك ريثما تقضي بها وطرك، وتمضي فيها إلى غايتك..!
ولا ريب في أني مغبون جداً في كل تجاراتي التي أزاولها، ولكني عرفت صفوة من السائقين "أقول صفوة؟"، فاكتسبت بمعرفتهم تجارة لن تبور كما أسلفت الذكر، واعتبر نفسك صياداً كما يقول شطر بيت مشهور (2) ، ووطّن نفسك على مكروهها.. ولكنك ستظفر في النهاية بربح مبين.
وفي العام الماضي ذهبت إلى الطائف مع سائق سيارة صغيرة من طراز "ستودبيكر" من ذوات الواجهات الزجاجية، ولست أعرف كيف أتيح لمثلي أن يحظى بمثل هذا، لولا أني على صلة وثيقة بالسائق. وتحركنا بعد العصر وعندما تجاوزنا "العدل" ظهرت بوادر اختلال على السائق، فأرخى لها العنان -كما يقال في الدواب- وبالرغم من أن الطريق صالح إلى حد أن صلاحه لا يوصف، فقد خيّل إلي أني في أراجيح متقلبة، وكنت بين السائق وبين صديق آخر إلى يميني، ولم يكن في مؤخر السيارة أحد، ودار رأسي! لم يدر كما تدور الكواكب مثلاً على اتجاه دائري، ولكنه دار علواً وسفلاً، ولم يبق قيد شعرة من كل اتجاه إلاّ دار فيه كما تدور النحلة.
ونظرت إلى السائق، فألفيت حدقتيه قد برزتا من محجريهما، فقلت في نفسي: يا له من "جاحظ" جديد مرعب، ثم ارتدت عيني رغماً مني إلى عداد الكيلوات فوجدته يتأرجح بين التسعين والمائة، وهنا استقرت عيني عليه بلا إرادة، فما تكاد تغمض عنه. وأوجعني جنبي، فأردت أن أحكه فحككت جنب صاحبي الأيمن، ولو ازدادت الغلطة جانباً، أو تجاوزت حدها، فحككت جنب السائق، لأسرعنا بلا توان إلى.. الموت.
وما فتئت عيني مثبتة إلى العداد، وكلما رمت صرفها عن العداد، انجذبت إليه بقوة مغناطيسية عجيبة.
ورأيتني بعدئذ، أدَوّم وأحَوّم بين المقعد، وسقف السيارة، وأردت أن أتشبث بأحدهما، ولكني تشبثت عن غير قصد ولا معرفة "بالفرملة" (3) فإذا السيارة تصعد، حتى لخفت أن نعرج إلى الفضاء، ثم تهبط بعنف، وإذا إحدى عجلاتها قد فثأت غيظها وتبخر هواؤها..
الحمد لله..
قلتها كذلك عفواً، فإذا صديقي السائق يحملق فيّ بحنق عظيم ويقول:
ما لك؟ لماذا فعلت هذا؟
وعندما تأكدت أن الأرض موجودة، انحدرت إليها، وقلت له:
يا سيدي إن ذنوبي كثيرة، ولكني لا أحسب أن هناك ذنباً أستوجب عليه القتل في السيارة، وإذا كان ليس من الموت بد، فإن الموت على الأرض أمتع بلا ريب من الموت على صفائح الحديد المتحطمة بلا موجب لذلك!
وكنا قد أشرفنا على "الشرائع" ولكني أصبحت كتلة مضطربة من اللحم لا إحساس فيها ولا شعور وقلت لصديقيَّ كليهما:
الوداع!
وبلغت الشرائع على أقدامي ولم أرهما؛ واستأجرت في العودة لوري.. ووقفت بعدها عند حدي، فمالي وللركوب في خنافس السيارات الخطرة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :576  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 106 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .