شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في الأدب والحرب (1)
تمهيد
هذه خطرات كانت تجول بالنفس ويشتغل بها الذهن؛ لغلبة ذكر الحرب على الفكر، وغلبة ذكر الأدب أيضاً، وإن كان الأدب -في الواقع- لا يهم الناس أكثر مما تهمهم الحرب.
وقد آثرت أن أقيد شاردها وأصيد خاطرها -على حد تعبير ابن الجوزي (2) - وفضلت بعد ذلك أن أترسل فيها ترسلاً استطرادياً لا ضيق به ولا تكلف فيه، فذلك كما رأيت خير من تقييدها في قماقم العناوين وحبسها في أبواب وفصول قد تند عنها ولا تجتمع عليها.
وقد سن ذلك كتّابنا الأولون كالجاحظ وابن الجوزي، وسنها في الكتَّاب المحدثين الدكتور طه حسين وغيره.
وكل ما أستطيع أن أقول فيها: إنها كلمات ملقاة على عواهنها، فلم أترو كثيراً، ولم أتعمق في بحث الفكرة أو إدارة الرأي على شتى وجوهه واحتمالاته.
-1-
للبطولة معانٍ كثيرة منها اللغوي، ومنها الاصطلاحي، فهناك البطولة التي يتحدث عنها ويترجم لها "بلوتارخوس" في كتاب أبطاله، وهناك بطولة يتغنى بها ويمجدها "هوميروس" في إلياذته، وهاتان البطولتان متشابهتان، فقد كادتا أن تكونا خيالاً محضاً، بل كانتا كذلك على خير صورة، فما الخيال إن لم يكن في الصراع مع الآلهة والتنانين والشياطين وغير ذلك من إغراق وتهويل.
هذه البطولة لسنا منها بسبيل، وهناك بطولة تخرج من التاريخ وترجع إليه على نحو ما فعل "توماس كارلايل" في تراجم أبطاله، وهي بطولة حسنة تقوى بالتاريخ، وإن كان لا يعيبها ألا يتحدث التاريخ عنها، فهي بطولة إنسانية واقعية تدخل في نطاق الإمكان ولا تسمو عليه.
وللأدب العربي قسط كبير من هذا المثال الأخير، وله كذلك نصيب وافر من المثال الأول تجد خير نماذجه وأهولها في حرب البسوس وابن ذي يزن وعلي بن أبي طالب في فتح اليمن وأبي زيد الهلالي وما إلى ذلك من أماثيل وأساطير.
والبطولة -قبل ذلك وبعده- ليست بالموهبة التي لا تتأتى إلاّ بمعجزة، ولا يسلس عنانها إلاّ بعد إجهاد وتذليل.
وما أريد أن أتعسف في البحث والتحليل، فأفعل كما يفعل كثير من الكتَّاب والمؤرخين، فمن هؤلاء من يرفع البطل إلى درجة الإِله، ومثال ذلك قريب؛ فهذا لبيب الرياشي (3) يكتب عن النبوغ كتاباً متوسط الحجم فيرفع فيه نابليون بونابرت إلى ذرا آلهة الأولمب، ويسهب في وصف الدماغ وهيئته وكيفية استقراره في هدوئه واشتغاله بالتفكير، ومواده السنجابية والنخاعية والشوكية، وكيف يضطرب الجهاز العصبي، ومم تتكوّن خلايا المخ في رأس النابغة -أي البطل- فكل ذلك -ولا امتراء- ذهاب بالبطولة في غير مذاهبها، وخروج بها عن نطاقها المحدود، وحذلقة تسمج بقلم الكاتب، ولا تحسن في عين القارئ.
لا أريد أن أصغّر من شأن البطولة، ولكني أريد أن أقول إنها حميمة في الطبيعة الإِنسانية، فليست هي بنبوة لا تأتي إلاّ من السماء، ولا هي بالطلسم السحري الذي لا يأتي إلاّ من العفاريت والشياطين، وما أحسب أن إنساناً بالغاً ما بلغ من الجبن والهلع يخلو من قسط -ولو ضئيل- منها، فإن الجبان ليقاتل أشد قتال وأعنفه إذا اعتبط في ماله أو ولده أو استلب في أهله أو نفسه، وهو وإن لم يقاتل قتالاً إيجابياً، فلا أقل من أن يذهب إلى المحاكم ويجأر إلى الولاة، ويعدو هنا ويصرخ هناك ويذهل عن كل ما حوله، فلا يعنيه أي شيء ولا يحسب حساباً لكل شيء.
والإنسان مقيد بمكانه وزمانه حيث كان، فكم من بطل مات مغموراً مجهولاً، لأن الزمان لم يسمح له بإبراز بطولته، أو لأن مكانه كان أضيق من أن يتسع له أو لمثلها.
فجنكيزخان مثلاً يعد من أبطال التاريخ وجبابرة القرون، وقد كان زمانه ملائماً كل الملاءمة لخروجه، وكانت كل الممالك في عصره أشبه بدويلات إقطاعية تتراكض سراعاً إلى هوة التدهور والفناء، ولكنْ تصور جنكيزخان لو أنه خرج في عصر عمر بن الخطاب أو عصر هتلر وتشرشل -ماذا كان لمثله؟..
والزمان هو الذي يوجد البطولة والأبطال، فقد يتقدم الصفوف و [يرأسها] (4) بطل مجهول منشؤه مغمور مركزه ضعيف في معرفته وسعة نظره، ولكن الزمان يصلح له، ولا يصلح لسواه، وما نحن بحاجة إلى أن نأتي بالأمثال، وإن كانت سهلة المنال..
وهناك بطل ذو ملكة أصيلة واستعداد فطري، ولكن زمانه يشمس عليه فلا يؤاتيه، أو مكانه ينبو به ويزورُّ عنه فلا يجريه في مجاريه.
-2-
النابغة والعبقري والموهوب والمبرِّز والممتاز والبطل.. هذه كلها -في نظري- بمعنى واحد، فهي مترادفات سواء في اللفظ، سواء في المعنى، فما البطل إن لم يكن مبرزاً على أقرانه يشأوهم فلا يجارونه في ميدانه.
وقد أباح ذلك الكتَّاب المحدثون، وتداولوا الاستعمال، وتوسعوا في الاصطلاح، وهم على حق مبين، فالبطل هو البطل في الكرة، أو في السباحة، أو البلياردو، أو في الطيران، أو في الكتابة، أو في الشعر، أو في القيادة، أو في استراتيجية رسم الخطط، أو في غير ذلك من الأعمال التي يزاولها الإنسان فيحسن مزاولتها حتى يتفوق فيها، وقد يجوز أن يكون هناك أكثر من بطل واحد في عمل واحد سواء تشعب هذا العمل إلى فروع جزئية، أو لأن درجات البطولة فيه تتفاوت وتتراوح -على نسبة معروفة- بين الحسن فالأحسن فالأكثر إحساناً فالجامع لكل قصبات الإِحسان، ففي الطب -مثلاً- أبطال كثيرون، فهناك بطل في اكتشاف الأمصال ضد الجراثيم، وبطل في التحليل، وآخر في الجراحة، وغيره في نفاذ الفحص، ومثله في المعالجة إلى ما لا آخر له.
وقد كان هناك بطل في الفكاهة والمنادمة وحسن التخلص من المواقف الحرجة وهو أبو دلامة المعروف في الأدب العربي. وقد ود الأستاذ معروف الرصافي في ديوانه أن تكون الحرب في آخر الزمان على غرار جلاد بين أبي دلامة وقريع له اضطر إلى نزاله فنازله وتحدث إليه وأكل معه في ساحة المبارزة، ثم صرفه بحسن حديثه وحلاوة منطقه، وأخذ عليه عهداً ألاّ يبارز طيلة ذلك اليوم (5) ، وقصتهما مشهورة في كتب الأدب العربي، وذلك موقف نادر من مواقف الحرب، ويحسن أن يكون بين المتحاربين إذا مدت بينهم الموائد الشهية، وانقلب ميدان الصيال إلى حفلة قصف حافلة (6) .
وهناك بطل آخر في الجبن -وما له ألاّ يكون بطلاً في الجبن؟ ذلك هو حسان بن ثابت، فقد استنجدت به صحابية أن ينزل فيقتل مشركاً -أو يهودياً- ساورهم تحت الحصن، فقال: ليست لي به قوة، فنزلت الصحابية الباسلة إليه وهرست رأسه بعمود -أو حجر- وقالت لحسان: اذهب إليه فخذ سلبه فقد كفيته، قال: إني أخشى أن يكون به رمق فيفتك بي، فنزلت إليه ثانية واستلبته، فكانت أحق به، وليس عندي مرجع لهذه القصة، وإنما اختلستها من الذاكرة وهي مشهورة (7) .
وأحب أن يعلم القارئ الكريم أني أكتب وأنا أعزل من كل أداة تستعمل في البحث والمراجعة، فليس لهذا الكتاب مراجع أو مصادر، ولن يجد القارئ في آخره ثبتاً بها أو جدولاً لها، وليس بيدي إلاّ كتابان من اللغة هما: فقه اللغة للثعالبي، والمصباح المنير.
-3-
في قول مأثور إن كل فضيلة تتوسط بين رذيلتين، فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والكرم وسط بين البخل والإسراف، والبلاغة وسط بين العي والثرثرة، وهكذا، فالفضيلة -إذن- تقع في مكان ضيق يصعب تحديده بدقة، ولا تكاد تنخفض قليلاً حتى تعود رذيلة، ولا يوشك أن يرتفع بها صاحبها حتى تنعكس إلى رذيلة أيضاً.
وأرى أن هذا القول على صواب كبير؛ فإن الطبائع والأمزجة الإنسانية، وإن كانت أصيلة مستحكمة، إلاّ أنها لا يمكن أن تخلو من الشوب والخلط أبداً، وكما أنه لا يوجد شيء صراح خالص في المادة، فكذلك لا يمكن أن يوجد شيء من ذلك في المعنويات والروحيات.
والطبيعة الإنسانية من الصعب أن تحكم عليها حكماً دقيقاً أياً كانت فإنها تهدأ وتثور وتعتدل وتخور وتسمو وتسف وتصلح وتفسد، وتتقلب عليها كل الحالات الطارئة، وتكيفها تبعاً لأزمانها ومؤثراتها وأطوائها وأجوائها، وما هي الطبيعة الإنسانية؟ أليست هي كالعجينة الرخوة اللينة لا تكاد تتماسك من جانب حتى تتهايل من جانب آخر؟
إن الجبان الهلوع تمر به حالات شاذة يكاد يفترس فيها الأسود، وإن الشجاع المقدام تنتابه -أحياناً- نوبات لا يكاد فيها يقل نفسه من الفزع، وإن البخيل تهزه الأريحية -لعلّة ما- فتندى راحته بالعطاء الجزل، وتنبسط أساريره بالسماحة والبذل، وإن الجواد الكريم ستأتي عليه ساعات لا يكاد يبغي فيها بقطرة من ماء.
كل هذا واقع، وكل ذلك حق، ولا ملام ولا تثريب على من توسط ولا على من أفرط أو فرط، أليست الفضيلة وسطاً بين رذيلتين؟ فالجبن أقرب شيء إلى الشجاعة، والبخل جار قريب الدار من الكرم، ولن تكون عالماً فاضلاً إلاّ بعد أن تقضي زمناً في الجهل والغفلة، ولن تصبح سيداً إلاّ بعد أن تكون مسوداً، وأنت أيها الفاضل إن هبطت قليلاً كنت مفرطاً، وإن صعدت يسيراً جئت مفرطاً، فتوسط واختر إن كان لك في الأمر خيار، وإلاّ فدع كل شيء للأيام والأقدار.
إن مقاييس الأخلاق لا يزال فيها من الخلل والاضطراب والنقص الشيء الكثير، وليست هناك فضيلة اتفق عليها أو أخذ بها في كل العالم، فما نراه نحن فضيلة قد يكون رذيلة عند غيرنا، وما يراه غيرنا رذيلة قد يكون فضيلة عندنا، ومرجع هذا إلى اختلاف الأذواق وتباين الأمزجة والطباع وتفاوت طبقات المدارك والتفكير عند الأمم.
وما هذه الألفاظ إلاّ مصطلحات -فقط- لهذه المعاني، وهي [معانٍ] (8) عرضية زائلة لا تكاد تستقر حتى ترحل، ولا يكاد الذهن يلم بها حتى تفلت منه وتتعصى عليه، ففي هذه الألفاظ صور تقريبية لمعانيها، ولكنها لا تعطيك المعنى تاماً، لا تؤديه إليك أداءً واضحاً، فالصدق مثلاً يكون خيراً في بعض الأوقات، ولكنه يكون شراً في أوقات أخرى إذا جلبت به عذاباً على نفسك أو على غيرك.
والبطل -على هذا- إن أسف أصبح جباناً، وإن اندفع كان متهوراً، وقد عرف العرب ذلك من قديم، فقالوا: الشجاع من إذا رأى الخير في الإقدام أقدم، وإن رأى خيراً في الإحجام أحجم.
وقد أحجم كثير من أبطال التاريخ في مواقف الإِحجام، فما وصفوا بجبن أو هلع، وبخل كثير من الأجواد فما استطاع أن يصمهم أحد بأنهم كانوا شحاحاً، وصمت قوم من البلغاء في مواطن كثيرة، فما عدوا من ذوي العي والفهاهة.
قيل لبطل، ما الشجاعة؟ فقال: أعمد إلى الجبان فأضربه ضربة ينخلع لها قلب الشجاع.
فقلب الشجاع -إذن- ينخلع، إذا رأى الضربة التي تطير لها النفس شعاعاً.
وقيل لآخر -وأحسبه عنترة- كيف لك بهذه الفروسية؟ فقال للمتحدث إليه السائل له: هات ذراعك لأعضها، ثم أخذها فعضها فصرخ ذاك متألماً، قال عنترة هاك ذراعي فعض واجهد ما استطعت، فعض ثم عض ملياً، وتركها قائلاً: لقد تعبت، قال له عنترة: لو عضضت قليلاً لصرخت من الألم، فالشجاعة هي الصبر، الصبر الطويل.
نعم. الشجاعة هي الصبر، وما الشجاعة بلا صبر؟ وقد قال موسوليني في خطابه الأخير في أول السنة الميلادية 1943: إن الظافر في هذه الحرب هو الذي يستطيع أن يصبر ربع ساعة بعد عدوه، وقد سبق موسوليني من سبقه في المقال والفعال.
إن الإقدام على الموت ما هو -في الواقع- إلاّ طلب للحياة، كما أن الفرار منه طلب لها أيضاً، فالغاية واحدة، ولكن الوسيلتين مختلفتان، قال شاعر بطل:
قل للجبان إذا تأخر سَرْجُهُ
هل أنتَ من شَرَك المنية ناجي (9) ؟
وقال آخر:
تأخرتُ أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياةً مثل أن أتقدما (10)
وقد أشار إلى ذلك المتنبي العظيم الذي لا يكتفي بقشور المعاني، وإنما ينفذ إلى اللباب ويتغلغل إلى صميم الطبيعة الإنسانية، قال:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه
حريصاً عليها مستهاماً بها صبّا
فحبُ الجبانِ النفسَ أورده [البقا]
وحبُ الشجاعِ [الحرب] أورده الحربا (11)
ويختلف [الرزقان والفعل] واحد
إلى أن [ترى] إحسان هذا لذا ذنبا (12)
وللمتنبي بدائع وروائع في هذا الباب، والأدب العربي حافل أيضاً بالشيء الكثير منه.
-4-
في الحياة أباطيل كثيرة، أصبحت اليوم حقائق لا يتطرق الشك إليها، ولا يعلق بها، كما أن فيها حقائق صحيحة عادت الآن في عداد الخرافات والأساطير.
والعجب العجاب في أمر هذه الحياة أنها تسع كل شيء، ولا تضيق بأي شيء، فهي فسيحة الجوانب، واسعة البطن، رحيبة الآفاق، فالحسن والقبيح فيها يتفقان، وقلما يختلفان، والصحيح والزائف يقترنان وقلما يفترقان، وكل شيء تجد نقيضه على قاب قوس إليه لا ينبو به ولا يبترم منه، ولعلّ ذلك هو السر في دوام هذه الحياة واستمرارها، فهي حياة حية زاخرة كل شيء فيها يحيا: الصالح يحيا، والفاسد يحيا، والزمان يدور على كل ذلك بعجلته، فيأخذ ما يأخذ، ويدع ما يدع، وكأنما هو لا يأخذ ولا يدع.
وأحسب أنها لو لم تكن كذلك، لما كانت خليقة باسم الحياة، وهو اسم على مسماه ينطوي على كل شيء، ويتسع لكل مارق ماجن..
يذكر التاريخ من الجبابرة والفاتحين هانيبال، وبختنصر، والإسكندر، وعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وموسى بن نصير، وطارق بن زياد، وقتيبة بن مسلم، وعبد الرحمن الداخل، والمعتصم، وصلاح الدين، وتيمورلنك، وهولاكو، وجنكيز، وسليمان القانوني، ونابليون وغير هؤلاء ممن لا يدخلون تحت حصر.
لكن التاريخ لا يذكر الملايين من الأبطال الغطاريف الذين قام كل من هؤلاء على أكتافهم، وبأسيافهم فتحوا البلدان وبشجاعتهم دان لهم القاصي والداني وذلل الصعب ودنا البعيد، والذين لولاهم لما استطاع واحد من أولئك أن يتمتع بشهرة تخترق حجب التاريخ، ولا استطاع -قبل ذلك- أن يدير بلداً ويفتح إقليماً أو يهزم عدواً.
لا ريب أن القائد هو الروح المحرك لأولئك الجنود، فهو الذي يرسم الخطة ويدير الأمر، ويملك ناصية القيادة والتدبير، ولكنه يفعل كل ذلك، وهو قابع في سرادقه أو إيوانه أو عاصمته، والقوة التنفيذية هي أولئك الجنود الأبطال الذين ينفذون تلك الخطة تنفيذاً دقيقاً، ويلاقون في سبيل ذلك الأرزاء والأهوال، ويبيعون الأرواح بيع السماح، ويقدمون على النار والموت والكوارث في رباطة جأش وقوة شكيمة واستبسال نادر المثال حتى إذا تم ذلك كله، أو تم شيء منه لمع اسم القائد فجأة، وانطفأت أسماء أولئك الملايين من الأبطال المجهولين.
وأحسب أن ذلك هو السبب في بناء الأضرحة المختلفة في عواصم أوروبا اليوم للجندي المجهول، وهو تعويض خير ما فيه أنه يُذكّر باسم ذلك الجندي المجهول العاثر الحظ.
هذه أبطولة من أباطيل الحياة التي قلنا إنها أصبحت اليوم من الحقائق الخالدة يتحتم الإِيمان بها من دون أن ينتطح -في ذلك- عنزان.
وهذه الحياة معترك كبير، وتزاحم بالمناكب، وتدافع بالأيدي والأقدام وامتحان لكل المواهب والملكات؛ فمن ضغط وتحمل الضغط، وصدم، ولم يحفل الصدام وتقدم ولم يكترث ما أمامه -أشوكاً كان أم ورداً- شأى أوانه وبزّهم في المضمار، وكان السابق المجلي الذي لا يشق له غبار -كما يقولون- وإن لم يكن ذا صلاحية تامة واستحقاق للتقدم وتبريز في أي شيء، وإذا دنى الصالح للتقدم، وغلب عليه الكسل والتباطؤ، وكان أضعف من أن يتحمل صدماً أو كدماً، فهو السكيت في حلبة لا يبرز فيها إلاّ المغامرون المواظبون، والحياة نفسها أعظم وأوسع من أن تحفل بمن تقدم أو من تأخر، أو تأبه لغالب أو مغلوب، ذلك لأنها عجلة طاحنة تهضم كل شيء من خلاصات ومن فضلات بلا تمييز ولا استبقاء..
وكان خليقاً بحياة كهذه ألاّ يكترث الإنسان الحي فيها بكل شيء، وأن يأخذها على علاتها بلا تفكير ولا استقصاء، لولا أنه مرغم، يثيره كل ما حوله، وتحفزه الصغائر قبل الكبائر، على أن يحفل وأن يكترث وأن يحسب لها أوفى الحساب وأدقه، وأن يهتم بكل جليل منها ودقيق..
ولو صح لكل إنسان أن يعيش مثالياً خيالياً لرأى أن الحياة ليس فيها ما يستحق الجد والتفكير، والاهتمام، ويغسل يده من كل شيء، ودخل محراباً للصلاة، أو معبداً للاعتكاف، وكانت تلك خاتمة المطاف.
أخيراً
كتبت هذه الرسالة قبل 35 سنة أثناء الحرب العالمية الأخيرة، وأنا أقدمها إلى القارئ الكريم، كما كتبت دون تعديل أو تبديل أو حذف أو إضافة سوى هذه الكلمة أردت منها الإيضاح للقارئ الكريم أن هذه الرسالة ليست حديثة الكتابة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :515  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 102 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.