شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به معالي الدكتور أحمد الضبيب ))
- بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أخي الجليل الأستاذ عبد المقصود خوجه، أيها الحفل الكريم، أود أولاً أن أعبر عن شكري لك أيها الأخ الكريم على إتاحة هذه الأمسية الجميلة التي تتألق بوجود هذه النخبة الكريمة من رجال الأدب والثقافة، ورواد العلم والمعرفة، والتي تمثل حلقة من حلقات ذهبية دأبت نفسك السمحة وسجاياك النبيلة على أن تزين بها جيد الثقافة بين الحين والأخر، وأن تعقد فيها أواصر الحب بين المفكرين بتعريف بعضهم ببعض في زمن ضاقت فيه مساحة الحب بين الناس، واشتد فيه سعير المادة، وأصبح الشر هو الذي يتأبط الإنسان في مناطق كثيرة من العالم.. ولعل من نافلة الكلام القول أن بلادنا ولله الحمد في تآلفها وترابطها كانت وما زالت ولله الحمد موئل الخير ومناط الحب والصفاء أكثر من أي منطقة أخرى خارجها، ولكن الناظر في التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي مررنا بها لا يخطئ نظره الاختلاف الكبير بين ما كنا عليه وما نحن عليه الآن فيما يخص أنماط السلوك والممارسات الاجتماعية المختلفة خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية بين الناس بشكل عام وبين المثقفين والمفكرين بشكل خاص، ولعل أهم ما فقدناه من ممارساتنا القديمة المحببة تلك العفوية المطلقة وعدم التكلف الذي كان يطبع حياتنا بشكل عام فلست تأبه بزيارة صديق في أي وقت شئت، ولا قريبك أي زمن أردت، وفي المكان الذي تحدده، ثم أن الناس في السابق كانوا يتفقون كثيراً في برامجهم اليومية فلا يشذ بعضهم عن بعض إلا نادراً ولكون هذه البرامج اليومية موحدة ومعروفة كان اللقاء كثيراً ووفيراً فلا تكاد تنقطع عن صاحبك، ولا تكاد تختفي عن قريبك وإذا حدث ذلك جد الجميع في البحث عنك، واستقصاء سبب غيابك، لذلك زادت أسباب الاجتماع وبعدت أسباب التنابذ وحلت المشكلات في بداية حدوثها، وقُضي على العداوات في مهدها، وعاش معظم الناسِ إلا من شاء ربكَ في واحات من الحب والوئام، ولست أقول إن الناس كانوا ملائكة في ذلك العصر الحديث القديم، أو كانوا في مجتمع يخلو من المشكلات، ولكني أتحدث عن نسبة التواصل والتواد التي كانت بلا شك سائدة في المجتمع، أكثر من نسبتها في مجتمعنا المعاصر، ولعل من الغريب أن وسائل الاتصال والمواصلات التي قاربت بيننا وبين بلدان العالم المختلفة وجعلت العالم كما يقولون قرية واحدة قد باعدت بين أصدقائنا وأحبابنا، فالسيارة مكنتنا من السكن بعيداً عنهم، والهاتف ساعد على الاكتفاء بالسماع بدل اللقاء، والطائرة شجعتنا على أن نترك مرابع الطفولة، ومدارج الصبا لنعمل بعيداً عنها ولتكون لنا صداقات وعلاقات أخرى تحل محل علاقاتنا القديمة، كما شجعت كثيراً منا على السفر والترحال خارج البلاد حين نجد فرصة للانفكاك من عمل أو غيره.
في السابق كانت الصداقات جماعية، فصديق الأب صديق لأبنائه، صديق للعائلة جميعاً، كما أن الصداقات تتوارث بين العائلات المختلفة، أما الآن فإن الفردية والانعزال جعلتا لكل فرد من أفراد العائلة صداقاته الخاصة، والتي لا تتعداه غالباً إلى غيره، أما صداقات الأدباء والمفكرين مع بعضهم بعضاً فكانت أكثر ظهوراً من الآن، ويكفي أن نقول إن لقاءات روادنا من الأدباء والمثقفين كانت تتكاثر وتتكرر في المساجد والمقاهي والمراكيز التي عرفت منها مكة والمدينة وجدة الكثير، أما إذا اختلفت الديار، وبعدت الأقطار فإن البريد كان يتكفل بالربط بين هؤلاء الأُدباء في رسائل فريدة تجمع رقة الشعور إلى حلاوة الأسلوب وتمثل جنساً أدبياً راقياً طالما أبدع فيه المبدعون وتنافس فيه المتنافسون، لقد تسبب الهاتف فيما يبدو في قلة الاهتمام بالرسائل، ولعله قضى على الرسائل الأدبية بشكل خاص، غير أن الأمل أن تعود هذه الرسائل مجدداً بين أدباء المستقبل عبر الفاكس، أو الناسوخ كما يسميه مجمع اللغة العربية، والبريد الالكتروني، وما قد يستجد من وسائل التقنية في الاتصالات.
تلك أيها الأخ الكريم أفكار أثارتها في مخيلتي هذه الأمسية الجميلة التي نجدها نفحة من نفحات الماضي تهب علينا فتثير الكثير من الشجون وتشدنا إلى زماننا الرومانسي البريء الذي عشناه بكل أبعاده الجميلة والذي تحن إليه نفوسنا بما فيه من قيم ومواضعات نحن في أمس الحاجة إليها الآن.
أيها الأخوة الكرام: في حياة كل منا محطات معينة، تسهم في تكوين شخصيته وربط تجربته، وقطار الحياة بلا شك يمر بك على محطات صغيرة وأخرى كبيرة وتتفاوت استفادتك من هذه الوقفات بمقدار ما تقضيه فيها من زمن، أو تتزود فيها من معرفة، ولعل أول محطة في حياتي كان لها أثر كبير في تصوراتي المستقبلية هي تلك المحطة التي نزلت فيها وأنا طفل صغير، ولعلها بدأت قبل أن أعي شيئاً في الحياة، ولكنني عندما استحضر ما فيها بحسب ما يُروى لي عنها أجدها مزيجاً من الفرحة والرهبة، كان ذلك في مكة المكرمة، التي هي أول أرض مس جلدي ترابها، والتي قضيت فيها سنوات طفولتي المبكرة، يقال إنني عندما بلغت الأربعين يوماً نزلت بي والدتي إلى الحرم المكي الشريف مع بعض صويحباتها، وهناك طفن بي حول الكعبة المشرفة، وعندما انتهى طوافهن أخذني المطوف منهن ووضعني على عتبة باب الكعبة على الملتزم وبقيت برهة والمطوف يدعو وهن يرددن وراءه وأنا شاخص ببصري إلى الباب، لم أبك ولم أنغص عليهن متعتهن الروحية، ورجعت أمي إلى البيت وهي سعيدة، وبقيت مدة طويلة تكرر ما حدث على مسامعي، فتختلط في نفسي مشاعر الزهو والسعادة، بالرهبة والخشية، ولعل في ذلك أثراً في بعض تصرفاتي.
أما المحطة الثانية فكانت في المدينة المنورة، التي نشأت فيها وعشت فيها أحلى أيام الصبا، وتكونت فيها أفكاري الأولى عن الحياة والناس، كان والدي رحمه الله يرغب في أن أتعلم تعليماً شرعياً فأدخلني في المرحلة الابتدائية مدرسة العلوم الشرعية ولكن بعض أساتذتي أسبغ الله عليهم الرحمة كانوا من القسوة بحيث جعلوني أنفر منها، وأشكو إلى والدي عدم ارتياحي فيها، فكان أن نقلني إلى المدرسة الناصرية الابتدائية، وهناك وجدت طريقي في التعليم النظامي سهلاً ميسراً، لكن ما أن أنهيت المدرسة الإبتدائية حتى عادت فكرة التعليم الشرعي تلح على والدي، فكان أن وجهني إلى المعهد العلمي السعودي بدلاً من المدرسة الثانوية، وفي المعهد قضيت سنوات من أجمل سنوات الصبا، مليئة بالنشاط عبر برامج المسامرات الأدبية والمشاركات الثقافية، وتفتحت فيها ملكة شعرية كانت حصيلتها مجموعة من المحاولات التي ألقيت في حفلات المعهد في تلك الأيام ونشرت لي في تلك الفترة أول مشاركة في شكل نشيد وطني في جريدة البلاد السعودية.
لم تكن أيام المعهد السعودي تحصيلاً نظامياً بمناهج كنا نأخذها في المدرسة وحسب، ولكنها تعدت ذلك إلى قراءات واسعة لعمالقة الأدباء في تلك الأيام، طه حسين والعقاد وأحمد أمين والزيات والرافعي، وكانت الصحف السعودية والمجلات المصرية تصل إلى المدينة المنورة بانتظام فنتابعها خاصة ما كان منها متعلقاً بالثقافة والأدب، ومن آثار نشاطنا أن أصدرنا في المعهد مجلة تكتب باليد وزِّعت أعداد منها محدودة كما أتفقت مع زميلي عبد الرحمن الأنصاري ومحمد الصالح أن نجتمع دورياً لقراءة بعض الكتب الأدبية والتعليق عليها ومكاتبة مؤلفيها والتعرف عليهم ورصدنا ذلك في شكل اتفاق مكتوب.
ثم كانت محطة أخرى لها أثر كبير في حياتي وحياة جيلي، تلك هي مرحلة الدراسة في القاهرة، كلية الآداب، هناك خرجنا من بيئتنا الثقافية الضيقة نوعاً إلى بيئة أرحب، تشكلت فيها كثير من قناعاتنا الفكرية وتعرفنا فيها على كبار الأساتذة والأدباء، حضرنا فيها بعض دروس الدكتور طه حسين التي كان يلقيها يوم الأربعاء، وشاركنا في ندوة العقاد المنزلية، وحضرنا بعض اللقاءات الثقافية التي كانت تعج بها القاهرة، وتعلمنا مبادئ البحث العلمي وكيف نقوم به، كانت القاهرة محطة رائعة، لها أثر كبير في التأهيل والتدريب والتعامل مع الحياة بشكل عام.
وتأتي بعد ذلك محطة كان لها أكبر الأثر في حياتي، تلك هي مرحلة الابتعاث إلى بريطانيا التي لم تكن الحياة فيها ممتعة في تلك الأيام بالقدر الذي كانت في القاهرة، بسبب انكماش الانجليز وتفرقتهم العنصرية في ذلك الوقت، ولكني أفدت من هذه المحطة فوائد كثيرة، ففيها اطلعت على أمهات كتب التراث العربي، أغوص فيها بعمق، وقرأت كثيراً مما كتب عن قضايا الإسلام واللغة والأدب، ولعل أهم ما لفت نظري في هذه المرحلة هو سطوة المجلات العلمية المتخصصة، وما كان ينشر فيها من بحوث ودراسات، الأمر الذي لم يكن لنا به سابق عهد في شرقنا العربي، ولم تكن تلك القراءات باختيار، أو من أجل المتعة والتسلية، بل كانت في معظمها بإجبار من المشرف الذي لم يكن يرضيه شيء، وكان يطلب منا إلى جانب الإطلاع الأوفى على الموضوعات التي تتعلق بالبحث الإلمام بلغات أخرى ودراسة لغات سامية وأخرى غربية فكانت الدراسات المكثفة لبعض هذه اللغات مع محاولة إجادة بعضها، تعلمت في هذه المرحلة الانضباط العلمي، ومحاسبة النفس قبل أن يخط القلم ما يريد، والحذر من التعميم، وإطلاق الأحكام الجزافية، والالتزام الصارم بمناهج البحث العلمي منذ أن تبتدئ البحث وحتى تنتهي بقائمة المراجع، إذ لم يكن المشرف يقرأ البحث من أوله وإنما كان يبدأ بقائمة المراجع فإذا وجد خللاً في ترتيب الكتب والبحوث أوعزوها إلى مؤلفيها أو إهمالاً في ذكر سنوات الطبع والنشر أعاد إليك البحث بحجة ضعف الالتزام بالمنهج، وأن من ضيع هذه القاعدة من قواعد البحث العلمي، وهي أضعفها، فهو لما سواها أضيع، تلك هي محطات التأهيل وهي محطات تختلط فيها المتعة بالتعب ومشقة البحث بنشوة المعرفة، ولكنها بلا شك كانت ذات مردود لا ينسى، له أكبر الأثر في تكوين شخصية الإنسان، وفتح الطريق أمامه نحو آفاق أرحب في هذه الحياة.
أما محطات العمل فلست محدثكم عنها لطولها وتشعبها وقد كانت بدايتها عودة مجموعتنا من الغربة، مجموعة صغيرة من أساتذة كلية الآداب والعلوم، وكانت مجموعة الآداب مجموعة منسجمة طموحة شديدة الثقة بقدرة بلادنا على تحقيق الأفضل، وكان همنا تطوير البحث والمعرفة في جامعة الملك سعود، وجعل هذه الجامعة في مصاف الجامعات الكبرى في العالم، ونحمد الله أن حقق كل منا مع زملاء آخرين أتوا بعدنا هذا الطموح، ولم يختصر الأمر على الإسهامات العلمية لكل واحد وإنما شملت جهود هذه المجموعة على المستوى الفردي مجالات إدارية وتنظيمية ولائحية وبناء مراكز ومكتبات وإنشاء جمعيات علمية وكليات ومعاهد وما إلى ذلك، قام بها كل منا بحسب جهده وإسهامه وطموحه وقدراته وبحسب ما أوكل إليه من عمل وأتيح له من فرص، وهي أمور لا يتسع الحديث لها هذه الليلة.
وختاماً أشكر الإخوة الكرام الذين تفضلوا بالحديث عني في هذه الليلة، أولئك الذين أثنوا بما تحمله نفوسهم الطيبة وأفكارهم الجليلة الجميلة كالزميل الكبير الجليل الأستاذ د. منصور الحازمي، والأستاذ د. محمد الهدلق، وتلميذي الأستاذ د. حمزة المزيني، الذي كان يجمع بين المدح أو إخراج المدح بما يشبه الذم، والأستاذ الكبير الجليل الناقد والأستاذ الدكتور المعطاني الذي تكلم بلغة النقد ومصادمة النص، وأشكر أيضاً جميع الأخوة، الأستاذ الكبير الشاعر الجليل الأستاذ حسن عبد الله القرشي، وزميلي الكريم الأستاذ الدكتور محمود زيني الذي من محاسن هذه الاثنينية أن أراه هذه الليلة، والأستاذ الجليل أياد مدني الذي سعدت بصحبته في تركيا والذي قد أحدثكم عن مقالبه وعن ما يفعله بزملائه عندما يسافر معهم، وهو رجل خفيف الظل وكثير المرح، ولا زلت أحمل له من خلال هذه الرحلة الكثير من الإحترام والود والحب، وزميلي الكبير الأستاذ الدكتور الشعفي، الزميل المخلص الحبيب الذي رافقته أكثر من 37 عاماً ويبدو أنه كبر أكثر من اللازم ونسي سنتين على الأقل تسبق التخرج فقد رأيته أول ما رأيته في مكتبة جامعة القاهرة، وكان - على عادته - عفوياً جليلاً جميلاً، يأتي إليك ويقول من أنت ؟ وأين تسكن ؟ وماذا تفعل ؟ وكنت في قاعة من قاعات المكتبة أنظر في كتاب وإذا برجل على رأسي يقول من أنت ؟ قلت: أنا أحمد، قال: أنت سعودي ؟ قلت: نعم، أنا سعودي، قال: وأين تسكن ؟.. وما إلى ذلك من الأسئلة العفوية الجميلة التي تفيض بها روحه الجميلة، وأشكر مضيفنا الكبير الجليل الأستاذ عبد المقصود خوجه على إتاحة هذه الفرصة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :830  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 45 من 146
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.