شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من قضايا البعث الحضاري
الدكتور عون الشريف قاسم
صراع -كما نعلم- تاريخه قديم!
صراع حقود.. لم يشهد له التاريخ مثيلاً بين أي دين ودين.. ومع ما كان بين اليهودية والنصرانية من عداء مستحكم.. جر إلى الكثير من المآسي.. والكثير من الضحايا.. إلاّ أنه عداء لا يذكر أمام عداء النصرانية للإسلام!
صراع رهيب له ماضٍ وحاضر.. أما حاضره فهو ما نشهده اليوم في أكثر من مكان.. وأما ماضيه فهو ما تحدثت عنه صحائف التاريخ!
حقاً.. ليس في الأمر جديد.. إن ما يجري اليوم على مرأى ومسمع من الدنيا.. لا يختلف في كثير أو قليل عما ظل يجري بالأمس خلال مئات من السنين من أحداث وخطوب.. نتيجة هذا الحقد الأسود من جانب الصليب بشكل خاص ضد كل ما يحمل كلمة إسلام!
مؤلف هذا الكتاب وهو يعالج في فصوله العديدة أهم قضايا هذا الصراع التاريخي مقارناً بين ماضيه وحاضره.. معللاً لأسبابه ودواعيه.. لا يفوته أن يشير إلى حقيقة أن إسرائيل ما هي إلاّ صنيعة للغرب، الغرب المسيحي.. وأن هذا الغرب إذ يرى نفسه مندفعاً اليوم للأخذ بعناصر اليهود.. متناسياً خصومتهم القديمة عبر التاريخ.. فإنما كان ذلك لأن عداءه للإسلام أقوى وأشد.. ولأنه -من ناحية أخرى- منذ انتهى دور الاستعمار العسكري الغربي -بعد أن لم يبق له مبرر في منطق العصر.. كان لا بد لهذا الغرب من أن تبقى له "ركيزة" أو رأس حربة كما يقولون.. ومن ثم وجدت إسرائيل!
وللمؤلف الفاضل آراء نيرة في هذه الفصول.. نعتقد أنها جديرة بالتأمل فلنستمع إليه:
يقول في المقدمة:
يعيش المثقف في مثل مجتمعنا العربي والأفريقي والإسلامي أزمة العصر مزدوجة، فهو يواجه على المستوى الإنساني العام أزمة الحضارة المعاصرة ويصطلي بنارها.. وهو يواجه كأحد أفراد العالم الثالث أزمات مجتمعه المتخلف الذي يسعى جاهداً للتخلص من مظاهر التخلف إلى جانب سعيه للتخلص من مظاهر التسلط الناجمة عن سيطرة الرجل الغربي على شعوب العالم منذ بداية هذا القرن.
ومعركة تأكيد الذات الذي تخوضها مثل هذه المجتمعات على المستوى الفكري والحضاري لا تنفصل عن معركتها لتأكيد الذات على المستوى السياسي والقومي.. وتأكيد الذات على المستويين لا يكون إلاّ بانتفاء السلبيات والمعوقات التي تحول دون نمو الشخصية الحضارية نمواً يتصل فيه حاضر الناس بماضيهم وصولاً بمستقبلهم المشرق.
وفيما يلي من فصول.. معالجة لبعض قضايا البعث الحضاري لأمتنا على المستويين الفكري والقومي، وهي فصول على وقوفها مستقلة، يربط بينها خيط فكري واحد هو: هموم المثقف الذي يتمزق بين إنسانيته من جانب.. وبين معطيات بيئته في كل أبعادها القريبة والبعيدة من جانب آخر.
وهي لا تقدم حلولاً جاهزة بقدر ما تثير أسئلة، آمل أن تشحذ همم المثقفين وعقولهم لمزيد من البحث والدراسة والله الموفق.
الإنسان المعاصر.. وأزمة الحضارة
قضايا العالم الكبرى التي يعيشها إنسان العصر الحديث أزمات وحروباً وأمراضاً وتفسخاً ويأساً ليست في حقيقتها إلاّ أمراضاً ظاهرية لعلّة أعظم خطراً، وأعمق جذوراً، وينبع خطر علة العلل هذه من أنها تمس صميم الإنسان كإنسان.. وتستهدف جوهره الأصيل ككائن عاقل، يقف في قمة الهرم التطوري للكائنات المعروفة حتى الآن.. يتابع المؤلف حديثه ثم يضيف:
هل نقول إن هذا ثمن التطور، وإن علينا جميعاً كبشر أن ندفع ثمنه استعماراً وتنكيلاً وقتلاً في طريق مسيرتنا نحو الفردوس الموعود؟ فالشعوب المستضعفة ستقاوم وتنتصر وتلحق بركب التقدم.. وفي نهاية المطاف سنركب كلنا نحن البشر -على سرج واحد على قدم المساواة في مجال التقدم والرقي؟ إن ما يحدث في عالم اليوم لا يبرر هذا التفاؤل.. ولا يشير إلى أن الإنسانية وهي تسلك ما تسلكه اليوم سينتهي بها المطاف إلى هذه النهاية السعيدة.
ويتابع المؤلف حديثه في إسهاب حول هذا الموضوع ثم يتساءل:
هل يكفي أن نقول إن كل القضايا المثارة نتيجة حتمية لتعفن النظام الرأسمالي الغربي الذي يهدف إلى الربح والمزيد من الربح.. وإن أدى ذلك إلى تدمير أقدس مقدسات الإنسان: إنسانيته.. أم أن ما حدث هناك أمر ملازم لتطور الحضارة الصناعية حيثما كانت؟ وكل هذه الفوضى العارمة نتيجة حتمية لتغير القيم والمفاهيم بتغير وسائل الإنتاج والعلاقات الاجتماعية في المجتمع الصناعي؟
"هل نقول إن التطور غير المتكافئ في محيط الإنسان المادي بالقياس إلى تطوره الروحي والعقلي هو الذي أحدث هذه الهزة العنيفة في موازين الإنسان الأخلاقية وقيمه الأساسية؟ وأنه خلال العصور كلما جدت مثل ظروف الرفاهية التي يعيشها إنسان العصر حدثت مثل هذه الهزة.. ولذلك اقترن الثراء والسلطة دائماً بالفساد.. الفراغ والشباب والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة!" وفي مثل هذه الظروف يجد الحيوان فينا فرصة الإشباع.. فيجور على الإنسان فينا.. فيكون الإسراف في الشهوات والمتع.. ويحدث التطرف.. وينجم عن ذلك التمزق فالانهيار.. فيضطر الإنسان اضطراراً إلى الرجعة إلى ميزان التعادل القديم ليكبح جماح شهواته وعواطفه، ويؤكد عنصر الإنسان فيه الذي هو دائماً وسط بين نقطتي التطرف.
ولكن هذا الكلام لا يعني أن ميزان التعادل هذا الذي هو وسط بين حدي الإفراط والتفريط هو أمر جاهز يسهل الرجوع إليه في كل حين.
إلى أن يقول: ومن هنا كانت قضية الإنسان في العصر الحديث تهمنا وتهم مجتمعنا لأننا على الدرب سائرون.. وقد تفيدنا العبرة، وإن فضل الإنسان دائماً الدخول في التجربة.
بعث التراث
وفي فصل من فصول الكتاب وتحت هذا العنوان يقول:
إذا كان الفضل الحقيقي هو ما شهد به الأعداء فإن شخصية الأمة الحقيقية هي أيضاً تلك التي يتجنبها أعداؤها، ويسعون جاهدين لتجريدها من عناصر القوة فيها.
إلى أن يقول:
لقد فطن الاستعمار الغربي منذ الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر الميلادي إلى سر قوة العرب، وسر قوة المسلمين، فسعى إلى إبطالها عن طريق الفكر.. حين عجز عن إبطالها عن طريق القوة.. فركّز دراساته على النعرات العرقية والقومية وسعى إلى إقناع كثير من شعوب العالم الإسلامي بأن سر عظمتها الحقيقية ليس في الإسلام وإنما هو في ماضيها الذي طغى عليه الإسلام.. وقد رأينا في بداية هذا القرن العشرين الحمى التي اجتاحت كثيراً من مناطق العالم الإسلامي تحت تأثير هذه الدعوات، فرأينا الدعوة إلى الفرعونية في مصر تقوى وتصحبها دعوة إلى الاتجاه شمالاً إلى البحر الأبيض المتوسط وأوروبا بدلاً من الاتجاه نحو العرب!
ورأينا الدعوة إلى الفينيقية في لبنان وسورية.. والدعوة إلى القرطاجينية في تونس، والبربرية في المغرب العربي.. والطورانية في تركيا والساسانية البهلوية في إيران.
وحرب الاستعمار الغربي على العرب والإسلام لم تقف عند هذا الحد بل امتدت لتشمل مواقع جديدة في أفريقية، منها إقامة الحواجز المفتعلة بين شمال القارة وجنوبها، والتركيز في كل كتاباته على إفريقية جنوب الصحراء كنقيض لأفريقية شمال الصحراء على أساس أن العرب عنصر غريب على أفريقية ناسياً أو متناسياً أن ما يقرب من سبعين بالمائة من العرب إفريقيون بحكم الموقع والتاريخ والثقافة أيضاً.. وشن إلى ذلك حرباً صليبية على الإسلام والمسلمين، ونقل إلى كثير من المثقفين الأفريقيين الذين تلقوا تعليمهم على أيدي المبشرين كل أحقاد الرجل الأبيض المسيحي على الرجل العربي المسلم.. وهذا يفسر إلى حد كبير موقف كثير من إخواننا الأفارقة حيال قضايا العرب وارتباط بعضهم بإسرائيل.
وحرب المستعمرين للإسلام والعروبة في أفريقية باب يطول الحديث عنه وسنوليه عنايتنا يوماً إن شاء الله.
* * *
وقد كفلت القوة المادية لأمم الغرب وما أتيح لها من تسلط على كثير من أمم العالم: القدرة على فرض ثقافاتها على هذه الأمم، وكان شرط فرض هذه الثقافات: إماتة الثقافات الموروثة.. هكذا سعى الفرنسيون إلى محو شخصية الجزائري والعربي عامة في شمال أفريقية وفرنسته، وكذلك فعلوا بالإفريقيين الذين استعمروهم.. وهكذا فعل الإنكليز والبلجيك والألمان والإيطاليون والهولنديون.. وأخيراً الأمريكيون، وكل هؤلاء الأقوام، وإن اختلفوا في أساليب فرض ثقافاتهم على الشعوب التي خضعت لهم، يلتقون في الإيمان بسمو ثقافة الرجل الغربي المسيحية.. ذات الجذور اليونانية اللاتينية، وقدرتها الفائقة على كل ما عداها من ثقافات الشعوب غير الأوروبية.
والآن وقد انحسر مد الاستعمار الغربي المباشر، واستردت كثير من شعوب العالم حريتها واستعادت قدرتها على التفكير المستقل.. فقد بدأت تتكشف أمامها كثير من الخدع الاستعمارية التي كان المستعمرون يموهونها من أجل فرض استعمارهم على القوم في كل أبعاده المادية والثقافية.. وغاية الاستعمار في كل ذلك المحافظة على مصالحه.. فهو وإن لم يستطع الإبقاء على هذه المصالح بالقوة العسكرية كما كان يفعل من قبل.. فهو قد صاغ كثيراً من المثقفين على شاكلته ممن يتعاطفون معه ويرون أن مصدر ثقافتهم وكعبتهم التي إليها يحجون تقع هناك في ديار الغرب.. ولذلك لا عجب أن وجد كثير من المستعمرين لدهشتهم أن ما حاولوا فرضه بالقوة على كثير من الشعوب خاصة من أفريقية وآسيا لم يتم إنجازه إلاّ بعد أن خرجوا واستلم مقاليد الحكم مواطنون تشبعوا بما أراده الاستعمار.. فقاموا بحكم ثقافتهم بدور الحارس الأمين على مصالح أوطانهم الروحية والفكرية في بلاد الغرب!!
ثم ينهي المؤلف حديثه في هذا الفصل قائلاً:
إن تحدي الحضارة الذي يواجهنا في كل مرفق من مرافق حياتنا الاجتماعية والفكرية كفيل بأن يقدح في نفوسنا شرارة الوعي الحضاري وقد فعل منذ حين.. وكل هذا الذي نشهده على مسرح حياتنا محاولات لربط الماضي بالحاضر للسير في سبيل المستقبل.. ولكننا لن نبلغ الأصالة والإبداع إلاّ إذا اكتشفنا في أنفسنا روح الدفع الحضاري الكامن. وأجرينا في عقولنا وقلوبنا التغييرات اللازمة لإحداث التحول الحضاري، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ (الرعد: 11).
الأدب في معركة الحضارة
يقول في هذا الفصل: "وسبيل الآداب نقل تجربة الإنسان في كل أبعادها عن طريق الكلمة.. ومنهجها للوصول إلى المعرفة الشعورية لا يختلف عن منهج العلوم في سبيل الوصول للمعرفة العقلية.. فهو منهج يعتمد على المشاهدة والملاحظة والمقارنة واكتشاف أوجه الشبه بين الظواهر المتنافرة، والخروج من كل ذلك بصورة تحدث في نفس الإنسان قدراً كبيراً من التركيز الشعوري والتوحيد العاطفي ينجم عنه التوازن النفسي".
والأدب الحق إن أحسن التعبير والتصوير: محاولة جادة لسبر أغوار النفس والسيطرة على جامحها بغرض تنظيم التنافر الداخلي.. وإحداث الانسجام بين العواطف المتناحرة عن طريق إشباع أكبر قدر منها بحيث لا يجور جانب منها على جانب.
ولا يفعل ذلك كل أدب.. إذ الأدب التافه يثير أتفه العواطف وأكثرها سطحية.. ويجعلها تطغى على غيرها.. ومن هنا كان النجاح الشكلي لأدب الجنس الفاضح وما إليه.. أما الأدب الصادق العميق فيحرك أعمق المشاعر.. وينظم أكبر قدر من العواطف.. فيحدث الانسجام الداخلي، ويتم التوحيد فكما تنظم العلوم الطبيعية مظاهر الطبيعة المتنافرة في شكل قوانين ونظريات تحدث الانسجام في عقل الإنسان.. تفعل الآداب هذه الفعلة في روح الإنسان وعاطفته، وبذلك يتم الانسجام بين الطبيعة والإنسان.. وبين عنصري الإنسان: عقله وعاطفته!
فالآداب معرفة.. غايتها توسيع دائرة الحياة الشعورية.. وإثراؤها عن طريق تصوير تجارب الآخرين الشعورية.. وإنجازاتهم الروحية بحيث يتمكن الإنسان من مضاعفة تجارية مئات المرات على قدر اطلاعه وثقافته.. ومن هنا كان للآداب دور في معركة الحضارة لا يقل عن دور العلوم.. فهما صنوان.. وهما رافدا المعرفة.. وهما في نهاية المطاف خلاصة إنجاز الإنسان على الأرض أي حضارته.
ما أشبه الليلة بالبارحة
لم يكن يهود أوروبا الذين احتلوا قطعة من وطننا العربي وأقاموا دولة أجنبية في جنب العالم العربي عام 1948 هم أول موجة من موجات الغزو الأوروبي المنظم على شعوب الشرق عامة والعالم العربي الإسلامي خاصة.. وإذا كان حوض البحر الأبيض قد اعتبر وسط العالم القديم بحق.. فإن شرقيه يقوم مقام القلب النابض لهذا العالم، ومن هنا كان الصراع من أجل السيطرة على هذه المنطقة الخطيرة هو شغل العالم القديم الشاغل.. وحلم شعوبه ودوله المتعاقبة من فينيقيين وكنعانيين وعبرانيين وآشوريين ومصريين وأغاريق ورومان.
وظلت المنطقة عبر التاريخ مباءة للغزاة والفاتحين.. وبوابة كبيرة تنفذ منها جحافلهم نحو شرق وغرب.. وهذا التوسط جعل منها مركزاً للثقل في ميزان القوى بين الشرق والغرب.. فمنذ عهد الإسكندر الأكبر والمنطقة محط الأنظار للغرب الصاعد.. تتعاورها شعوبه بالغزو تارة.. وبالتدخل عن طريق الدين تارات خاصة بعد ظهور المسيحية.. وقد كان أكبر غزو منظم تعرضت له المنطقة قبل الموجة الأخيرة في مطلع هذا القرن، هو الغزو الصليبي الذي تم في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي.
وقد هيأ الله للمسلمين طريق الخلاص على أيدي الأيوبيين الذين استطاعوا ضمّ شمال العراق إلى مصر وبذلك حصروا العدو من شمال وجنوب وشرق.. وكان ظهور عماد الدين زنكي أتابك الموصل (1127-1146م) بداية انحسار مد اللاتين لصالح المسلمين.. والذي بلغ نهايته بصلاح الدين الذي انتزع بيت المقدس من الصليبيين عام 1187 بعد موقعة حطين الضارية.. ولكن الأوروبيين كانوا قد تمكنوا من الأرض وتوطدت أقدامهم أعادوا الكرة وسقطت بيت المقدس في أيديهم من جراء الإمدادات القوية التي دفعت بها أوروبا لمناصرة دويلاتها العميلة في الشرق.. ثم حصلت المصالحة بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد فرجعت بيت المقدس إلى أيدي المسلمين عام 1192 -وبعد موت صلاح الدين واستشراء الخلاف بين أبناء أيوب رجعت معظم المدن التي استردها المسلمون إلى الفرنجة.. واستمرت الحرب سجالاً بين الجانبين وببروز الظاهر بيبرس (1260-1277) إلى الميدان تتابعت مجموعة صامدة من الأمراء أبلت بلاءً حسناً في تقويض نفوذ الإفرنج كان آخرهم الملك الأشرف خليل (1290-1292) الذي حطم آخر معاقل العدو في عكا.. ودمر استحكاماته على المدن الساحلية.. وبذلك وضع حداً للنفوذ الأوروبي المباشر على الشرق العربي لمدى أكثر من ستة قرون.
* * *
لقد كانت هذه الفترة من أكثف المراحل ظلاماً في حياة العرب والمسلمين.. إذ تحكم فيهم العدو الخارجي، وفتح أبوابهم على مصاريعها للتوغل الأجنبي.. واستغل أساليب كل الغدر والخيانة والتآمر لتحطيم إرادتهم، وبث بذور الشقاق والخلاف بينهم لتثبيت أقدامه.. وكان من أخطر ما قام به العدو الصليبي في هذه الفترة هو تعاونه المكشوف مع قوات (التتر) التي أجهزت على الحضارة الإسلامية.. وأغرقت العالم الإسلامي في بحر من الدم والنار.. ودمرت العراق تدميراً ما يزال يعاني منه حتى الآن، فيما يذكر (توينبي) فقد ذكرت المصادر الأوروبية أن الصليبيين كانوا ساعداً قوياً لهؤلاء (التتر) في هجومهم الشامل على الخلافة العباسية.. وتدميرهم للعاصمة بغداد عام 1358م وكان المبشرون الأوروبيون يقومون بدور الوسيط بين ملوك أوروبا وبين خانات التتر.. واستغلوا العواطف الإنسانية لتدمير الإنسان، فقد كانت زوجة هولاكو قائد التتر مسيحية، فأمرت بتعذيب المسلمين في مشارف الشام، ونهب ممتلكاتهم.. "والتاريخ يعيد نفسه اليوم في لبنان".
وتروي المصادر أن المسيحيين كانوا يرقصون طرباً وهم يشاهدون مناظر التعذيب والتشفي من المسلمين.. وكان انتقام هؤلاء رهيباً حين اندحر التتار!!
لقد دفع العرب من أنفسهم ومن تاريخهم الكثير قبل أن يقضوا على تلك الموجة الطاغية من المد الاستعماري الأوروبي.. وتصرفت بهم الأقدار ردحاً من الزمان فترت خلالها الجذوة الصليبية في أوروبا.. تشعل مكانها ناراً عامة أذكتها الثورة التجارية ثم الصناعية في القرون الثلاثة الأخيرة، وعاد أمل أوروبا القديم في السيطرة على الشرق إلى الحياة من جديد، وكان الخطر هذه المرة ذا شعبتين، إن أفلتت الضحية من إحداهما فلن تفلت من الأخرى: الاستعمار الأوروبي المسيحي والاستعمار الأوروبي الصهيوني.
ودخلت المنطقة من جديد في دائرة النفوذ القديمة.. وتقسمها أحفاد الفرنجة وريتشارد قلب الأسد.. إذ إن المنطقة قسمت بعد الحرب العالمية الأولى إلى منطقتين فرنسية وإنجليزية!! وبذلك استعاد الغرب ما فقده منذ ستة قرون.
وكان الجنرال اللنبي ممثلاً لروح أوروبا حين قال بعد أن دخل بيت المقدس:
الآن انتهت الحرب الصليبية
وكانت قولة اللنبي فاتحة لعهد جديد!
عهد جديد من التوغل الغربي تمثل في الشعبة الثانية للخطر الغربي الذي اتخذ من الصهيونية رداء ودرعاً لحماية مصالحه.. وضمان استمرار بقائه في منطقة الشرق الغنية.. إذ الصهيونية حركة قومية أوروبية مثلها في ذلك مثل كل الحركات القومية الضيقة التي أنتجتها ظروف أوروبا الصناعية الرأسمالية المنطلقة إلى الأسواق ومناطق النفوذ..
وكان حلم اليهود في السيطرة على فلسطين امتداداً للرغبة القديمة في السيطرة على مفتاح العالم القديم هذا.. وشعر الغربيون بإمكانية الاستفادة من السرطان الصهيوني من ناحيتين: التخلص أولاً من مضايقات اليهود للمجتمعات الأوروبية.. ثم تسليطه على عدوهم التقليدي في الشرق وبذلك يضمنون استمرار سيطرتهم على منطقة الشرق الأوسط.
وهكذا خلقت دولة إسرائيل من عدم كما قامت الدويلات اللاتينية -إسرائيل الأخرى- من قبل.
لقد كان عدد اليهود المقيمين في فلسطين أيام وعد بلفور حوالي 88 ألف.. تدخل فيهم أمواج الهجرة التي دخلت فلسطين خلسة في أواخر القرن الماضي من روسيا وغيرها.. وكان عدد العرب أصحاب الأرض يربو على المليون.. وكما حدث في الماضي سارت الأمور في العصر الحاضر.. وكما توالت الجيوش الصليبية الغازية من قبل توالت جيوش الصهاينة تحتل الأرض العربية شبراً.. شبراً بمساعدة المستعمرين الإنجليز. ثم الأمريكان من بعد.
وقامت دولة مستوردة جذورها خارج الأرض العربية، وتستمد الوحي والعون من خارج حدودها.. ويعيد التاريخ نفسه، وتسقط القدس بعد سبعمائة وثمانين عاماً بالتمام من خلاصها على يد صلاح الدين (1187-1967) في يد العدو الدخيل.
وتقوم إسرائيل الجديدة بما قامت به "إسرائيل الصليبية" القديمة من دق الإسفين بين شرق العالم العربي وشماله وجنوبه وغربه، من تمكين للعدو الغربي للسيطرة على اقتصاديات العالم العربي وشل حركة التقدم في أوصاله: من تفتيت لوحدة العرب، وتشجيع للحركات المضادة في جسم العالم العربي.
* * *
- ترى هل ينجح الغرب -عن طريق ابنته وربيبته إسرائيل الجديدة- في مسعاه الذي فشل فيه على مدى التاريخ؟
- هل تستطيع دولة مصطنعة البقاء، وقد زرعت زرعاً بسكانها المليونين والنصف وأموالها وكل مرافق الحياة فيها في أرض غريبة؟
- هل تبقى الجزيرة الصغيرة التي تستمد كل عناصر بقائها من وراء البحار في هذا المحيط العام من البشر الذين يجاوزون المائة مليون؟!
لقد قامت إسرائيل من قبل ثم وهنت ودالت لأنها ظالمة والظلم لا يدوم. وليس هناك أدنى سبب يجعل من إسرائيل الجديدة -والتي قامت على نفس الأساليب القديمة- مثالاً شاذاً، لا يخضع لمنطق التاريخ.. ومنطق الحق، الذي يدوم حكمه إلى يوم الساعة.
في مواجهة المصير
إن أعظم تبعات جيلنا الوفاء لأمتنا بالإخلاص لمبادئها والدفاع عن كيانها.. وأمتنا التي نتحدث عنها ليست دولة بعينها ذات حدود سياسية مرسومة.. إن الذين يقيسون أمة العرب بهذه النظم السياسية التي تظهر لتختفي وتتصارع فيما بينها ثم تدول لم يسبروا جوهر حقيقتها.. وأولئك الذين يحكمون عليها بكل هذا العرض الزائل من مذاهب وأفكار وممالك وإمارات.. لا يدركون مغزى قوله تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (المؤمنون: 52).
والحديث عن وحدة العرب ليس حديث عاطفة تختلف باختلاف من تتسلط عليه، بل هو حديث الوعي الذي ثقفه استقراء الماضي.. ولقنه درس الحاضر.. وكل ذلك يوحي بأن تحديات الماضي ومخاطر الحاضر لا تستهدف قطراً بعينه من هذه الأقطار العربية دون الآخر.. بل الخطر يواجه المنطقة بأسرها.. والعدو لا يقنع بأرض اجتزأها من جنب العالم العربي ليقبع فيها وينعم بالاستقرار داخل حدودها.. لا: ليست تلك نظرة العدو.. والذين يظنون بأن الحل السلمي لقضية فلسطين سيوقف زحف العدو.. واهمون.. والذين يعتقدون أن الأمر في فلسطين لا يعنيهم أشد وهماً.. وأبعد ضلالاً.. فالسرطان حين يصيب جزءاً من الجسم لا يوقفه وهم الواهمين، ولا يصد سريانه ضلال الضالين! والعدو ينظر إلى منطقة العالم العربي جميعاً في شقيها الآسيوي والإفريقي نظرة موحدة وهو يغذي في نفوس العرب روح التفرقة والولاء للإقليمية ليفت في عضدهم.. فيسهل عليه من بعد ذلك مواجهة كل قطر على حدة كما فعل بنا من قبل.
أن وحدة العرب ليست سفسطة عقلية يتبجح بالحديث عنها (تجار الكلام) بل هي معركة مصير مهدد وعدو داهم.. لا بد للناس أن يتكاتفوا وأن يقفوا أمامه موقف رجل واحد. مثلما فعل العرب من قبل مع البيزنطيين.. ومثلما فعلوا مع التتر.. ومثلما فعلوا مع الصليبيين.
إن الغرب عدو تقليدي لليهودية وليس أخطر على الأوروبي المسيحي من اليهودي، واللاسامية التي يسترزق منها اليهود الآن. ويشهرونها في وجه كل من لا يناصر عدوانهم.. ولكن كراهية الغرب للعرب.. وعداءه التقليدي للمسلمين يفوق كراهيته لليهودي الأوروبي الذي هو على أسوأ الفروض جزء لا يتجزأ من الحضارة الأوروبية والعقلية الغربية.
إذن الصهيونية موجة أخرى من موجات العدوان الغربي على الشرق، وإسرائيل مثلها مثل الدويلات اللاتينية قاعدة غربية من قواعد النفوذ الغربي.. غرضها غرض سابقاتها: التمكين للاستعمار من احتلال المنطقة، وتحطيم شخصيتها، واستعبادها، وبسط نفوذه عن طريقها على الشرق والغرب.. ومن هنا كان وهم الواهمين في العالم العربي الذين يظنون أنهم بمأمن من استشراء الداء إن وقفوا بعيداً عن المعركة.
إن حلم إسرائيل الكبرى في السيطرة على المنطقة ما بين النيل والفرات.. هو نفسه حلم الاستعمار حين ذكر في مشروع الهلال الخصيب.. ومشروع حلف بغداد.. ثم مشروع الحلف المركزي، وما إلى ذلك من أحابيل المستعمرين.
إن إسرائيل إن تأمنت حدودها.. وقبل العرب وجودها.. انتهى أمرهم بدداً.. لأن الغرب كله وراءها.. وهو إن وجد الفرصة دخل بكل ما يملكه من وسائل العلم والاقتصاد مسيطراً عن طريق إسرائيل على كل الأسواق العربية.. وأقامها حرباً على كل بذور الصناعة والتقدم في الدول العربية المتقدمة بحيث تكون كل البلاد العربية تحت سيطرته.. وعميلاً تابعاً له.. واليهود ليسوا في حاجة للجيوش لتحقيق حلمهم متى ما ضمنوا السلامة وتأمين الحدود والصلح.. فهم عن طريق الزحف الاقتصادي والتقدم العلمي يستطيعون السيطرة التامة على المنطقة وإقامة العملاء في كل دولة عربية بحيث تصبح كل الدول العربية خاضعة لهم وللغرب من ورائهم. فالأمر أمر صراع بين قوميتين لا بقاء لإحداهما مع بقاء الأخرى.. فأما سيطرة اليهود من النيل إلى الفرات.. وأما إزالة دولة العدوان من الوجود!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :642  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 21 من 56
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثامن - في مرآة الشعر العربي - قصائد ألقيت في حفل التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج