شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الجهاد
الدكتور أحمد الحوفي
منذ أول يوم ظهر فيه الإسلام كان عليه أن يواجه التحدي.. ويتلقى العدوان:
ولقد كان "رسولنا الأعظم محمد -صلوات الله وسلامه عليه- أول من واجه هذا التحدي؟ وتلقى هذا العدوان! واجه كل ذلك بمنتهى الشجاعة والبطولة.. وببراعة قيادة ليس لها مثيل:
وبسبب هذا التحدي وهذا التصدي.. كان لا بد أن يصبح الجهاد فريضة في الإسلام!
وكان لزاماً -تبعاً لذلك- أن يكون المسلمون أهلاً للقيام دائماً بما يفرضه الجهاد عليهم من واجبات والتزامات.. ومن صبر وثبات.. وتحمل للتضحيات.. وإعداد للقوة بكل ما يستطيعون".
والواقع أن المسلمين في هذا العصر؟ هم أشد الأمم حاجة إلى مواصلة الجهاد.. لأنهم كانوا وما يزالون أكثر الأمم تعرضاً للضغينة والكيد.. وتعرضاً للتآمر والهجوم.. على اعتبارهم العدو المشترك لكل شريعة باطلة.. ومذهب منحل.. وعلى اعتبار أن الإسلام يقف حجر عثرة ضد الظلم والبغي والطغيان!
ولا ننسى.. اليهودية بطبيعة الحال.. والتي هي أشد الأعداء عداوة -في القديم والحديث- للإسلام والمسلمين! فالمسلمون -إذن- هم اليوم في حاجة ماسة وملحة إلى البذل من أجل الجهاد...
وعندما نقول الجهاد.. وعندما يدعو الناس إلى الجهاد فإنما يعنون به الجهاد الفعلي والذي يحقق الهدف.. وتكون ثمرته تحرير فلسطين والقدس.. وإخراج المحتلين من كل بلد محتل.
* * *
إن الكتاب الذي نقدمه اليوم -وهو للأستاذ الدكتور أحمد محمد الحوفي عضو مجمع اللغة العربية بمصر والباحث المعروف- فيه حديث مستفيض يدور حول الجهاد ومعناه وحكمه.. ووسائله وأهدافه.. وفيه حديث عن الحض على التسلح.. وعن جزاء المجاهدين.. وعن الرفق والسماحة في الحرب الإسلامية.. إلى غير ذلك من موضوعات تتصل بالجهاد والمجاهدين..
والمؤلف الفاضل نفسه يعرف لنا كتابه بقوله:
هذه الدراسة موضوعها الجهاد: وحكمه والحض عليه.. ووسائله وأهدافه وجزاؤه، وعقوبة المنافقين، وتقريع الجبناء.. وعدد النصر من شجاعة وتسلح، واستعانة بالله.. وتوضيح كثير من القضايا المتصلة بالجهاد والمجاهدين، وفي ختامها لمحات إلى صور من الجهاد في أحقاب شتى من القديم والحديث...
فلعلّها تذكر المسلمين بأن أسلافهم الأبطال لم يكونوا يعتمدون على سيوفهم وقسيهم ورماحهم وخيولهم بقدر اعتمادهم على إيمان قلوبهم.. وشجاعة قلوبهم، وشوقهم إلى الاستشهاد في سبيل الله.
ولعلّها تهديهم إلى أن عدد الحرب كلها مغلولة القوى.. مغلولة الأثر.. إذ لم يؤازرها إيمان وطيد بالله، وإخلاص عظيم للوطن.. وإيثار للاستشهاد على الحياة..
* * *
وماذا ينتظر المسلمون بعد أن اعتدى الصهاينة على ديارهم.. وطمعوا في مقدساتهم.. وشردوا الأهلين من وطنهم.. وقتلوا الرجال والنساء والأطفال.. واغتصبوا الأموال.. وانتهكوا الحرمات؟؟
- ماذا يرتقب المسلمون بعد أن اقترف الصهاينة جريمتهم الدنيئة، فحرقوا المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالث الحرمين.. ومسرى خاتم الأنبياء.
- أيتوقعون أن يرتحل الصهاينة، وهم يقيمون إقامة من لا يريد الرواح؟
- أم ينتظرون أن يقنع الصهاينة ومطامعهم تتوافد كما يتوافد الذباب في المستنقع والبراح؟
لا.. لا..
فما السبيل؟؟
وهل من سبيل أمام المسلمين غير الجهاد؟
وهل من أمل في غير الحرص على الاستشهاد؟
إن الذين يريدون تنحية محاربتنا للصهاينة عن معنى الجهاد واهمون.
.. لأن الصهاينة -وهم المعتدون- يندفعون إلى العدوان بنداء عن دين مزعوم.. مكذوب على الله.. فأولى بنا نحن المدافعين أن نسارع إلى الدفاع بهتاف من الدين الصحيح الذي ارتضاه الله.
* * *
ليس أجدى علينا في هذه المحنة التي نصطلي بلظاها من أن نفيء إلى ديننا نعتصم بقواه.. وننهض بما يوجبه علينا من علم وعمل وانتصار بالله، ونصر لله..
فلنرجع إلى الإسلام لنتعرف حقيقة الجهاد ومعناه.. ولندرك حكمه العام.. وحكمه في هذا الوقت العصيب الذي نحيا فيه.
* * *
لطالما شهد التاريخ حروباً شنتها أمة على أمة مبعثها الإذلال بالقوة.. والغرور بالسطوة.. وغايتها السيطرة والاستعلاء.. والاستئثار بالسلطان.. واحتكار خيرات الناس..
فهل هذه الحروب جهاد؟؟
وكثيراً ما شهد التاريخ حروباً أشعلها مشركون بالله على قوم مؤمنين بالله.. ليصرفوهم عن العقيدة الصحيحة.. إلى الوثنية والشرك والضلال.. فهل هذه الحروب جهاد؟
كلا.. إن هذه وتلك حروب باغية يبرأ منها الجهاد؟
أما الحروب التي تقاوم الحروب الباغية وتصد، لتحمي العقيدة الصحيحة والدين القويم.. والوطن.. والعرض.. والمال.. والحياة.. فهي الجهاد وإذن فالجهاد والحرب كلمتان تلتقيان وتفترقان، فالحرب أهم من الجهاد، لأنها قد تكون جهاداً.. وقد تكون بغياً وعدواناً..
* * *
..... ومعنى هذا أن الجهاد حرب في سبيل الله، فهي إذن حرب محترمة مشروعة للذود عن الدين.. أو للدفاع عن الوطن... وما يتصل بالدين والوطن.. من أموال وأرواح، وأعراض وأخلاق ولهذا كان الجهاد حرباً شريفة البواعث.. نبيلة الأغراض.. سامية الأهداف..
- فالغزوات النبوية جهاد!
- ومحاربة أبي بكر للمرتدين جهاد!
- ومقاتلة عمر للروم والفرس جهاد!
- ومناضلة المسلمين للتتار جهاد!
- ومكافحة مصر للحملات الصليبية جهاد!
- وثورات مصر على الاحتلال الفرنسي والبريطاني جهاد!
- ومناضلة ليبيا لإيطاليا جهاد! والجزائر لفرنسا جهاد!
- وهكذا كل حرب يشنها المسلمون للدفاع عن دينهم ووطنهم جهاد!
- والحرب التي ينهض بها العرب اليوم لتخليص وطنهم من أوضار العدوان الإسرائيلي جهاد.. وأي جهاد!
وللجهاد أحكام تختلف باختلاف الدواعي والملابسات..
- فهو تارة مفروض على المسلمين جميعاً لا يسقط عن بعضهم إذا نهض الآخرون..
- وهو حيناً مفروض عليهم فرض كفاية.. يقوم به بعضهم فيسقط عن الباقين..
فما حكم الجهاد اليوم؟
- ما حكمه وإسرائيل تبغي فساداً في فلسطين، وتعبث شراً في بيت القدس أولى القبلتين، وثالث الحرمين، وتنزل بالمسلمين هناك أبشع ما سمع به التاريخ من وحشية وتنكيل، وانتهاك للحرمات وتطرد الأهلين الأصلاء الأبرياء من ديارهم، وتنتهب ثرواتهم، وتحشد في السجون والمعتقلات عشرات الألوف من الأبرياء، وتقتل الرجال والصبيان والشيوخ والنساء؟
- ما حكمه وإسرائيل تطغى على قطع عزيزة من الوطن العربي الإسلامي في مصر وسوريا والأردن؟!
- ما حكمه وإسرائيل تتطلع في جشع مسعور إلى أن تستولي على شمالي الحجاز إلى مدينة الرسول، عليه الصلاة والسلام؟
- ما حكمه وإسرائيل تراوح المسلمين والعرب وتفاديهم بعدوان مسلح تؤازره دول معادية للعرب والإسلام، وبينهم وبين العرب والمسلمين أحن وثارات؟
- ما حكمه وقد أحرقت إسرائيل المسجد الأقصى.. فكشفت عن خبث طويتها، ودنس ميتها، وشرها الذي تبيته للإسلام والمسلمين..؟
أهو فرض عين على أهل فلسطين؟ نعم.. إنه فرض عين عليهم جميعاً! ولكنهم عجزوا عن صد إسرائيل..
فصار فرض عين على جيرانهم في الأردن وسورية ولبنان والعراق ومصر.. فإذا كان هؤلاء قد ضعفت قوتهم أن تهزم القوى الدولية التي تمد إسرائيل وتساندها فقد صار الجهاد فرض عين على المسلمين جميعاً.. من الباكستان شرقاً.. إلى المغرب غرباً.. ومن البحر الأبيض المتوسط شمالاً إلى السودان جنوباً..
الجهاد اليوم فرض عين
- .... الجهاد اليوم فرض عين!
- فرض عين على الدول الإسلامية!
- وفرض عين على الجيوش الإسلامية
- وفرض عين على كل فرد يستطيع أن يساهم فيه بجهد يساعد على النصر ويمحو وصمة الهزيمة.. ويرد الحقوق إلى ذويها، ويعلي كلمة الله، سواء أكان الذي ينهض به نائياً عن فلسطين، أم دانياً من نواحيها.
* * *
الحض على الجهاد..
في القرآن الكريم آيات كثيرة تأمر بالجهاد أمراً، وتحض عليه حضاً، فقد أمر الله تعالى بالجهاد كل قادر إليه، فمن استطاعه بنفسه فليجاهد بنفسه... ومن لم يستطعه إلاّ بماله فليبذل ماله.. ومن استطاعه بهما معاً فعليه أن يسترخص حياته وماله.. ثم بين سبحانه وتعالى أن هذا هو الخير الذي يعلمه، إن كان المسلمون لا يعلمونه قال تعالى: انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة: 41).
فمن الخفاف؟ ومن الثقال؟
- أهم المسارعون إلى الخروج حماسة.. والمتثاقلون عن مشقة؟
- أهم الأغنياء والفقراء؟
- أهم الشبان والشيوخ؟
- أهم الذين ليس لهم عيال، والذين لهم عيال؟
- أهم الرجال والفرسان؟
- أهم السابقون إلى الحرب كالطلائع واللاحقون بهم من الجيش كله؟
كل هذا صحيح، والمعنى أنهم أمروا جميعاً، أي انفروا سواء خفت عليكم الحركة أم ثقلت..
* * *
... ولقد ضرب المسلمون الأولون أروع المثل في تلبية هذا الأمر الكريم..
وحسبنا أن نذكر أبا ذر الغفاري أبطأ به بعيره في غزوة تبوك، فحمل متاعه على ظهره، واقتفى أثر رسول الله ماشياً.. فقال الرسول لما رأى سواده من بعيد: كن أبا ذر! فقال الناس: هو يا رسول الله أبو ذر.. فقال الرسول: "رحم الله أبا ذر.. يمشي وحده.. ويموت وحده.. ويبعث وحده"..
وكان بعض السلف الصالح يجدون في الجهاد سعادة نفوسهم.. وزلفى إلى ربهم.. مع أنهم معفون من أعباء الجهاد، فقد قرأ أبو طلحة سورة براءة فلما أتى على هذه الآية قال: "أي بني جهزوني، جهزوني.. فقالوا له: يرحمك الله، قد غزوت مع رسول الله حتى مات.. ومع أبي بكر حتى مات.. ومع عمر حتى مات.. فنحن نغزوا عنك!.
قال: لا، جهزوني.. فغزا في البحر حتى مات"..
وخرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه.. فقيل له: إنك عليل.. فقال: "استنفر الله الخفيف والثقيل.. فإن لم يمكني الحرب.. كثرت السواد.. وحفظت المتاع!".
فانظر إلى أبي طلحة -وقد غزا مع رسول الله وخليفتيه الأولين- يصر على أن يصل جهاده ما دام حياً.. ثم يموت مجاهداً..
وانظر إلى سعيد بن المسيب وهو يخرج إلى الجهاد ومعتزماً أنه إن عجز عن القتال.. فلن يعجز عن إرهاب العدو بكثرة العدد.. ولن يعجز عن مساعدة المقاتلين على حفظ أمتعتهم!
وسائل الجهاد..
الجهاد في سبيل الله لإعزاز دينه، والدفاع عن الحقوق التي أمر بصيانتها، ولحماية الوطن والعرض والمال ولنجدة المستضعفين من الرجال والنساء والولدان.. هذا الجهاد ضروب وأنواع يؤازر بعضها بعضاً.. ليتحقق النصر المنشود.
1- المحاربة بالنفس:
أول ما يتبادر إلى الذهن من ضروب الجهاد هو المحاربة في ميدان الحرب إذ يلتقي الجمعان، فيقدم المسلم إقدام البطل الذي لا يعبأ بالحياة.. لأنه يشتري آخرته بدنياه.. مطمئناً إلى رعاية الخالق، وإلى نصر الله.
2- الحراسة والمرابطة:
ومن أنواعه: حراسة الجنود، والمرابطة في الثغور والحدود، واستطلاع خطط الأعداء.. قال تعالى: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (آل عمران: 200)..
... وقد ورد الحض على الحراسة والمرابطة والتنويه بالثواب العظيم الذي يناله الحارس والمرابط في كثير من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، مثل قوله:
- رباط يوم في سبيل الله أفضل من ألف يوم فيما سواه فليرابط امرؤ كيف يشاء.. هل بلغت؟ قالوا: نعم؛ قال اللَّهم اشهد (المسند).
- رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً في سبيل الله كان له أجر مجاهد إلى يوم القيامة (كنز العمال)..
3- المال:
تقتضي الحرب أموالاً، لإعداد الأسلحة والرواحل والزاد، ووسائل النصر، وهذه الأموال تختلف باختلاف الحروب والعصور والحاجات..
فقد كانت الحروب القديمة تحتاج إلى خيل وإبل وسيوف ورماح وقسي ودروع، ثم جعلت الأسلحة تتطور حتى صارت في الحرب الحديثة تعتمد على الدبابات والسيارات والطيارات والمدافع، والصواريخ والغواصات وما شاكلها.. وهذه الأسلحة على اختلافها محتاجة إلى مال!
... ولا شك أن أحوال الناس متفاوتة.. فمنهم من يقدر على الجهاد بالمال والنفس.. ومنهم من يقدر على الجهاد بالنفس وحدها لصحة بدنه ويعجز عن الخروج لفقره، ومنهم من يعجز عن الخروج بنفسه ويقدر على الجهاد بماله..
فيصبح لهذا الأخير أن يجهز بماله من يخرج بنفسه، فيكون الخارج مجاهداً بالنفس، والقاعد مجاهداً بالمال، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضاً.
والحرب محتاجة إلى المقال
كانت الحرب وما زالت محتاجة إلى المقال سواء كان خطابة أم كتابة أم شعراً.. لإشعال حماسة المحاربين وتثبيت أقدامهم، وإعزاز حقهم، وتبشيرهم بالنصر، وتقدير جهودهم وجهادهم، وتبصيرهم بما يثمره فوزهم من حفاظ على دينهم، وحماية لوطنهم وأموالهم وأعراضهم. ولا ينفك هذا ونظائره بالحملات على الأعداء بالكشف عن باطلهم.. وتبيان طغيانهم وعداوتهم وإضعاف قوتهم.. واجتذاب الآخرين إلى التخلي عن نصرتهم، فإن شاءوا ناصروا الحق، وإن شاءوا لزموا موقف الحيدة.
ومن هنا لم يكن بد للحرب من سلاح قوي يغذي أسلحتها الأخرى ويقويها وينميها.
وإذا كان هذا السلاح قد تمثل فيما مضى في الخطبة والقصيدة والرسالة، فإنه قد زاد عليها في العصر الحديث وفي الوقت الحاضر وسائل أخرى، كالصحافة والإذاعة والقصة والمسرحية وغيرها..
فالذين ينهضون بهذا العمل مخلصين لكسب النصر مجاهدون في سبيل الله.
وقد أشاد النبي صلى الله عليه وسلم بفضل الجهاد باللسان فقال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".. "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه"..
ووسائل أخرى
هل الجهاد مقصور على تلك الوسائل من مشاركة بالنفس، أو بذل للمال، أو مرابطة بالثغر، أو مقاومة باللسان؟ أليست هذه من وسائل النصر، لإعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه، وحماية الوطن وأهليه؟ بلى، والقياس يقتضي أن يلحق بها ما يعززها ويقويها..
- فمن الجهاد أن يخترع العلماء الأسلحة.. وأن يشترك الصناع في صناعتها، لأنها عدة المحاربين التي يستعينون بها على المقاومة والدفاع والانتصار..
- ومن الجهاد أن يقوم المهندسون والعمال بتمهيد الطرق للجيش، وإقامة الجسور، وإنشاء الخنادق والحصون، ومن الجهاد أن يرافق الأطباء المقاتلين، ليطيبوهم وليضمدوا جراحهم..
- ومن الجهاد أن يرعى المسلمون أسر الشهداء والمحاربين، رعاية خالصة لله.. فيها الحنان والإخاء والمساواة..
وهكذا تتعدد أنواع الجهاد، وبخاصة في هذا العصر الذي تنهض فيه الدولة والجيش بأعباء الحرب، ولكنها لا تستغني عن جهود الشعب أفراداً أو جماعات..
الحض على الشجاعة في القتال
هل يغني السلاح البتار عن الشجاعة؟ وهل تجدي كثرة العدد، والقلوب خاوية من الشجاعة؟
لا.. فالشجاعة أقوى سلاح للمجاهد.. كثيراً ما تعوض قلة العُدد ونقص العَدد، لأن الشجاع يقتحم المخاطر.. ويتعالى على النكول والفرار..
* * *
1- لهذا أمر القرآن الكريم بالثبات الباسل الذي لا يرهب ولا يميد..
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ (الصف: 4).
وقال تعالى: يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الأنفال: 45).
2- وأمر المسلمين بالمهارة في تسديد الطعنات، وتصويب الضربات، فعليهم أن يثبتوا في الميدان وأن يقصدوا مقاتل أعدائهم قصداً.
قال تعالى: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا (محمد: 4).
أما الكفار الذين ذكرتهم الآية فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فهم في رأي ابن عباس المشركون عبدة الأوثان... أو هم كل من خالف الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة كما ذكر الماوردي.
والحق أن الآية عامة تشمل كل من يحاربهم المسلمون من أعداء دينهم، ولا مسوغ لتخصيصها بنوع من هؤلاء..
- وأنها لتنطبق أيما انطباق على الصهيونية التي اضطرت المسلمين إلى محاربتها، إذ طغت على أهل فلسطين من مسلمين ومسيحيين، وبغت هناك بغياً لا يرتضيه دين ولا قانون، ولا خلق كريم، وسلبت الأموال. وقتلت الرجال والنساء والأطفال، وشردت مئات الألوف من الأسر التي كانت آمنة في ديارها.. وهددت العرب والمسلمين جميعاً.. ثم حاربتهم مرات.. واعتدت على بيت المقدس عدواناً أفزع المسلمين والنصارى..
فعلى كل مجاهد أن يستبسل في حربهم ويستقتل في طردهم، ليكشف عن دينه الغمة، وليطهر وطنه من الوصمة.. وليسترد حقوقه المسلوبة، ويثأر لكرامته المزدراة..
النصر من الله..
أمر الله عباده المؤمنين أن يعدوا للدفاع عن دينهم وعن أنفسهم ما يستطيعون من قوة.. وأمرهم أن يجاهدوا في سبيل الله من صد عن سبيل الله.. ولا يدخروا وسعاً ولا طاقة في هذا الجهاد..
ووعد المجاهدين أجراً من لدنه عظيماً لا يعلم مقداره سواه، وأوعد المنافقين عذاباً أليماً يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا جاه، وقرع الكسالى.. ووبخ الجبناء.. وأنذرهم أن استحبوا على الجهاد الحياة..
ولكن السلاح والحماسة والشجاعة وعدد الحرب كلها قديمها وحديثها مغلولة القوى، مسلوبة القدرة طائشة الأهداف إذا لم يؤازرها نصر من الله فليقبل المسلمون على الجهاد.. وبأيديهم سلاح لا يفل.. وفي دمائهم حماسة لا تفتر.. وفي عقولهم فكر سديد وتدبير محكم.. وفي قلوبهم يقين لا يتزعزع بأن النصر ليس مرده إلى سلاحهم وشجاعتهم وتدبيرهم فحسب.. بل مرده إلى هذا.. وإلى عون الله وتوفيقه وتأييده..
وهم إذا يقدمون على المعارك بهذه العقيدة السامية يزدادون قوة إلى قوتهم لأنهم يلتمسون التأييد من ربهم الذي يجاهدون في سبيله لإعزاز دينه ونصرة حقه..
ولا شك أن هذه العقيدة تقي المسلمين داء طالما حاق بسابقيهم وبلاحقيهم فدمرهم تدميراً وهو الغرور الباغي.. والزهو الطاغي والاعتداء المبيد..
وشتان بين مسلم يسارع إلى الحرب مستعداً لها.. موقناً بأن معه قوة الله تسانده وتوفقه وتؤيده، وبين آخر يندفع إلى الحرب معتداً بقوته وحدها.. مزهواً بما حمل من عتاد وسلاح، وبما دبر من وسائل الكفاح!
جزاء الجهاد
اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون في الأرض خير وشر.. وحق وباطل.. وعدل وظلم.. وتوحيد وشرك.. وأن يصطدم هذا وذاك.. ما دام الناس يحيون على هذه الأرض..
فلم يكن بد من الجهاد لنصرة التوحيد والخير والحق والعدل.. ولم يكن بد لأصحاب العقيدة السماوية الصحيحة من أن يلاحوا دونها.. وأن يفتدوها بأرواحهم ودمائهم وأموالهم، سواء كان العدوان مصوباً إلى العقيدة نفسها.. أم موجهاً إلى وطنها ومقرها.. أم واقعاً بأهلها وأنصارها..
لهذا فرض الله الجهاد، وحض عليه.. ولهذا كان للجهاد جزاء عظيم متنوع.
أولاً: الثواب الإلهي..
المؤمن الحقيقي هو الذي يجعل من نفسه حصناً لدينه.. ويفتدي دينه بحياته وبماله.. قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (الحجرات: 15). فهم الذين آمنوا وصدقوا ولم يشكوا.. ثم حققوا ذلك بجهادهم وبأعمالهم الصالحة.
* * *
ومن البديهي أنه سبحانه وتعالى غني عن الجهاد وعن المجاهدين، لأن ثمرات الجهاد لهم وحدهم ومعاطب الاستكانة والضعف عليهم وحدهم وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (العنكبوت: 6)..
* * *
ومن أنواع جزاء المجاهدين: الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين، يذوقون فيها من ألوان النعيم ما لم تره عين.. ولم تسمع به أذن... ولم يخطر على قلب بشر.. وينعمون فيها برحمة من الله ورضوان.. هذه الجنة هي النزل الذي وعد الله به المجاهدين في سبيله، وأنه لمنجز وعده، ومحقق عهده..
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة: 111).
أما الأحاديث في هذا المعنى فكثيرة منها انتدب الله -عز وجل- لمن خرج في سبيله -لا يخرج إلاّ جهاداً في سبيلي وإيماناً بي، وتصديقاً برسولي- فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أوغنيمة "مسند أحمد".
ومن أنواع الجزاء: الرضوان.. وحسب المجاهدين أنهم في ظلال من رحمة الله ورضوانه.. وأنهم في الدرجة العليا التي أعدها لهم ووعدهم بها.
* * *
وجزاء الشهداء، أولئك الذين يغضبون لدينهم أن يعتدي عليه أعداؤهم والذين يثورون لوطنهم أن يغتصبه خصومهم.. والذين يهيجون لعرضهم أن يثلمه غاصب.. والذين يحمون مالهم من أن يسلبه سالب.. والذين يهبون للذود عن أرواحهم والدفاع عن حياتهم.. أولئك هم الشهداء الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، "كنز العمال".
فما جزاؤهم؟
لقد وعدهم الله تعالى -ووعده الصدق- أن يغفر لهم ما سلف...
وأن يدخلهم الجنة.. قال تعالى.. فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (آل عمران: 195).
السعادة النفسية..
أولئك الشجعان الغير على دينهم وعلى وطنهم وعلى أعراضهم وأموالهم وحرياتهم وكرامتهم، الذين يجاهدون بأنفسهم وبمالهم فينتصرون على أعدائهم يجدون في أعماق نفوسهم سعادة لا تعدلها سعادة إذ نهضوا بما افترضه عليهم الله تعالى فأدوا للدين حقه، وصانوا للوطن حياته وكرامته وحموا كل ما تجب عليهم حمايته، فعاشوا في ديارهم مرفوعة رؤوسهم، خفاقة أعلامهم، أعزة نفوسهم، مرهوباً ذمارهم، مطمئنين على حرية بنيهم، وحرية ذراريهم، فإن تخلف النصر عنهم مدة لم يستسلموا ولم ييأسوا.. بل استأنفوا الجهاد وهم أشد حماسة.. وأقوى عدة.. وأعظم خبرة حتى يؤيدهم الله بنصر حاسم مبين..
أما الضعاف الذين يؤثرون الخفض على الدعة.. والسلامة على الجهاد.. فإنهم يستبدلون خبيثاً بطيب.. وذلاً بعز.. وحرية بعبودية.. وفقراً بثراء.. وموتاً بحياة.. ثم ينشأ بنوهم في هذا الهوان، ويتمادى بهم الزمن.. فيحسبون أن حياتهم هي الحياة.. حتى يقيض الله لهم من يوقظهم عن الغفلة، ويقيمهم من الرقاد.. ويصيح فيهم صيحة الجهاد!
* * *
على أن المجاهدين يتبوأون مكانة علية في مجتمعهم لأنهم ذادوا عن مقدساته وعن حرماته.. وجادوا بحياتهم وبمالهم وجهودهم.. لا يبغون من أحد جزاء ولا شكوراً...
* * *
ولم تزل الأمم كلها تكرم أبطالها وترفع أقدار رجالها المجاهدين.. فتحتفي بهم أحياء وتباهي بهم أمواتاً.. وتخلد ذكراهم بوسائل شتى ليتخذ من السلف قدوته المثلى.. وعظته الكبرى..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :559  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 15 من 56
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.