شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الثقافة الإسلامية من بعض زواياها
بأقلام مجموعة من الكتّاب المسلمين
هذه طائفة من الفصول شارك في تقديمها بعض الباحثين الأفاضل.. في باكستان والهند.. وجلّهم من كبار رجال التربية وأساتذة الجامعات هناك.
ويعود الفضل في إعداد هذه الفصول إلى الأمانة العامة لمؤتمر العالم الإسلامي في كراتشي.. فهي التي سعت إلى الحصول عليها ونشرتها في هذا الكتاب.
والواقع أن أمثال هذه البحوث والدراسات، في موضوع هام كهذا الموضوع، متعدد الجوانب إنما تأتي أهميتها -وخاصة في هذه الآونة- من حيث إنها تعتبر "أفصح رد" ضد (المفتريات) وضد محاولات التضليل والتشويه.. والتي ما زالت تثار -وباستمرار ضد كل ما هو إسلامي، وفي أكثر من ميدان.. مفتريات.. وشبهات.. ومحاولات تضليل وتشويه يواجهها الإسلام منذ القدم، ومن شرق ومن غرب.. وما من شك في أنها في هذا العصر وفي هذه الفترة بالذات تبدو أشد ضراوة.. بعد أن اتسعت الجبهات، وتكاثر الخصوم وأتباعهم، وأصبح في كل واد لهم أثر.. ولئن سبق للكثيرين من الباحثين العرب وغير العرب إسهام ملحوظ في هذا المجال: مجال الثقافة الإسلامية وما يتصل بها.. إلاّ أن الفصول الواردة في هذا الكتاب لها ميزتها.. وهي أنها تناولت الموضوع من زوايا مختلفة.. وبأقلام متعددة، وبأسلوب له سماته ومعطياته من ناحيته الفكرية..
في مقدمته للكتاب يقول السيد إنعام الله خان، الأمين العام لمؤتمر العالم الإسلامي:
"الإسلام عقيدة وثقافة في وقت واحد" والثقافة الإسلامية تنتشر وتتسع بالدرجة نفسها التي تنتشر بها الإنسانية وتتسع.. وليس في ملكوت الله، بحسب تعاليم الإسلام أقوام (مختارون) أو (محببون) إلى الله، فالتقوى وحدها هي التي تجعل الإنسان مكرماً عند الله.. وهذا الإنسان قد يكون أسود البشرة، أو أصفر أو أسمر أو أبيض، وقد يكون فلاحاً أو أميراً، كما أنه ليس بالثقافة الإسلامية أي تمييز قائم على العرق أو اللون أو الطبقة، فالإسلام ينظر إلى الناس جميعاً على أنهم أعضاء في أسرة إنسانية كبيرة واحدة.
لقد كان أول ما أوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: اقْرَأْ (العلق: 1).. ولذلك فإنه ليس عجيباً أن يلح الإسلام ويصر على أن الجماعة الإنسانية لا تستطيع أن تفلح وتنجح وهي سادرة في الجهل والظلام.. بل تحتاج إلى النور والمعرفة قواماً لها وسنداً على الحياة.. والمسلمون الأوائل إنما حافظوا على الصفة العقلانية البسيطة للإسلام.. فطلبوا العلم حيثما استطاعوا الحصول عليه.. ونتيجة لذلك نجحوا "صالحين شرفاء" ووهبوا الحصافة فلا عجب إذن إذا أصبحوا قادة الفكر في جميع أرجاء العالم المفكر، ووضعوا القواعد والمقاييس كيما يتبعها الخير ويتقيد بها. في تلك الأيام المجيدة لم يكن الإسلام قد ضيق وهبط به إلى مستوى الشيع والطوائف.. بل ظل قوة تقدمية تشع نوراً ومعرفة.
ومما يؤسف له أن المسلمين عندما توانوا في طلبهم العلم والمعرفة، وفي تقصيهم العلوم الطبيعية.. بدأ يلفهم الجهل شيئاً فشيئاً.. ودون أن يشعروا وبدأوا عرضة لشعور من الكبرياء الزائفة والاضمحلال.. لقد ظل المسلمون حملة مشاعل الحضارة والثقافة طالما اتبعوا مبادئ الإسلام النبيلة السامية، وعاشوا عيشة كبار المجاهدين الساعين إلى نيل العلم والمعرفة، والمكافحين في سبيل الحرية والإنسانية، والتقدم الإنساني والسلام العالمي.
إلى أن يقول: "لقد آن للمسلمين أن يفكروا في أمورهم وأن يبحثوا في ضمائرهم وأن يبذلوا الجهود الصادقة في سبيل العودة من جديد إلى دين النبي الكريم".. إن توجيه الفكر الإسلامي من جديد على ضوء تعاليم الإسلام النقية الفطرية هو ما نحتاج إليه في ساعاتنا هذه.. ولا بد لنا من إزالة ما علق بالذهن من الشوائب، كما علينا أن نزيل ما تراكم عليه بفعل الزمن.. وأن ننحي جانباً جميع العناصر الغريبة الضارة.. ومتى فعلنا ذلك فإننا سنرى عندئذ الصورة الأصلية بجميع بريقها وظرفها، إن الإسلام يجب أن ينقذ من أعماق الإهمال والجهل، ويجب أن يخلص من عبوديته الأجنبية.. وما لم يتحقق كل ذلك فإننا لن نستطيع أن نعيد تنظيم حياتنا من جديد حسب متطلبات الإسلام ثم يقول: إن الثقافة الإسلامية ليست ثقافة شرقية ولا ثقافة غربية، بل إن لها صفة عالمية عامة.. فما هي إذن الصفة المركبة للثقافة الإسلامية؟ إن الصفحات التالية تقدم جواباً عن هذا السؤال..
فقد حاولنا الحصول على آراء بعض العلماء المسلمين البارزين في هذا الموضوع وجمعناها بين دفتي هذا الكتاب:
حول الثقافة الإسلامية يتساءل كاتب الفصل الذي يحمل هذا العنوان، الدكتور محمود حسين وهو من رجال التربية المعروفين ووزير سابق للتربية في باكستان يقول:
هناك سؤالان يتبادران إلى الأذهان بادئ ذي بدء.. الأول: هل هناك شيء اسمه الثقافة الإسلامية؟ وثانيهما إذا كان الجواب عن السؤال الأول إيجابياً ما هي هذه الثقافة؟
إن هناك من الكتاب من شك في وجود الثقافة الإسلامية!! وهؤلاء الكتّاب التزموا موقفاً من موقفين. بعضهم أنكروا بل سخروا وبعضهم الآخر رأوا أن ما يعتبر ثقافة إسلامية ليست في الحقيقة سوى ثقافة يونانية أو رومانية أو مصرية أو إيرانية أو هندوسية، والمثل النموذجي للفريق الأول هو: "البانديت جواهر لال نهرو" الذي يقول في سيرة حياته: "لقد حاولت جاهداً أن أفهم ما هي هذه الثقافة الإسلامية.. ولكني أعترف بأني لم أفلح".. إلى آخر ما يقول..
يقول كاتب الفصل: لم نكن طبعاً لنلتفت إلى هذا القول لولا أنه صادر عن فيلسوف الهند ورجل دولتها، عن الرجل الذي يصادف أيضاً أنه من المؤرخين.. لقد قال قولاً عجباً في الحق وأن من العسير علينا أن نتصور كيف لا يستطيع المرء أن يجد في تاريخ الإسلام الذي يمتد إلى أربعة عشر قرناً أو نحو ذلك أيما صفة مميزة في عالم المعتقدات أو العلوم أو الفنون أو طريقة الحياة ولعلّه لمثل هؤلاء يقول القرآن الكريم.. لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا (الأعراف: 179)..
أما المدرسة الأخرى التي ينتمي إليها بعض المستشرقين فتنكر على الثقافة الإسلامية أن تكون قد جاءت بأي شيء جديد تقريباً سواء من حيث جوهرها وتركيبها الأساسي.. ومن بين هؤلاء الدكتور (صن) الذي ربما كان الشخص الذي قام بأكثر من أي فرد آخر سواه في عصرنا لتعليم الدراسات الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية، إنه وأمثاله قد أوردوا النظرية القائلة بأن العرب المسلمين عندما استولوا على الهلال الخصيب وأرض فارس ومصر احتكوا بأمم عرفت بثقافتها القديمة الشائخة.. كذلك يؤكد هؤلاء أن العرب المسلمين لم يكن لهم تراث ثقافي خاص يستطيعون أن ينسبوه لأنفسهم لا في ميدان الفن ولا في مضمار العمارة أو الفلسفة أو الطب أو العلم أو الأدب أو الحكم، ولكن كانت لهم قدرة مدهشة على العلم والاكتساب.. وهكذا هضموا وأخرجوا من جديد التراث العقلي لرعاياهم الجدد.. وإذن فإن ما ندعوه بالحضارة الإسلامية هو في نظر هؤلاء الكتّاب تلك الفنون والعلوم "الآرامية والإيرانية" التي طورها العرب أولاً، وتبعهم في ذلك من بعد، غيرهم من المسلمين في أجزاء مختلفة من العالم..
هؤلاء الكتّاب قد أساءوا على ما يبدو فهم المعنى الصحيح للثقافة الإسلامية وفشلوا في أن يقدروا روح الإسلام تقديراً صحيحاً سليماً.. ذلك أنه ليس هناك أيما سبب يدعوهم إلى أن يقللوا عامدين من أهميتها.. يبدو أنهم أخطأوا في التمييز بين التأثير.. والمصدر.. فالصحيح الذي لا شك فيه أن الثقافة الإسلامية قد تأثرت في كثير من وجوهها ونواحيها بالثقافات الأخرى التي احتكت بها، ولكن هناك شيئاً أساسياً يجب ألاّ يغفل أو يهمل.. إذ إن الثقافة هي نتاج دين عالمي كالإسلام لم يكن باستطاعتها أن تتجاهل الأفضل والأطيب في الثقافات الأخرى، والحق أن الثقافة الإسلامية قد اعتزت بهذا، ولكنها إذا كانت تتألف من أفكار ومثل عليا، وقيم اجتماعية وأدبية أدت إلى نقل مجتمع من حالة بدائية إلى صعيد من الوجود أرفع وأسمى.. فإن الذي لا شك فيه أن الثقافة الإسلامية تكون حينئذ (ثقافة أصيلة).. أصيلة بمعنى أنها لا تدين بوجودها لا للتراث اليوناني والروماني ولا للتراث الثقافي الإيراني. إن دعائم الثقافة الإسلامية تقوم على دين الإسلام المتجسم هو نفسه في القرآن الكريم، وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعاليمه..
لقد كان الإسلام وما يزال المصدر الرئيسي للإلهام بالنسبة إلى المنجزات الثقافية المختلفة التي حققتها الشعوب الإسلامية.. فالدين الإسلامي هو الذي صاغ الثقافة الإسلامية أكثر من أي شيء آخر سواه.. وليس في تعاليم الإسلام تعليم أساسي أكثر من مفهوم (التوحيد) والذي لا ريب فيه أن عبادة الله، والله وحده، هي فرض عظيم، فبالخضوع لله.. والاعتراف بوحدانيته تستطيع الإنسانية أن تحرر نفسها من الخضوع لكل شيء آخر.. وبسبب من التوحيد فإن الثقافة الإسلامية خلافاً لمعظم الحضارات الأخرى لا تعترف بفروق العرق واللون والبلد.. كما أنها لا تقيم أيما اعتبار خاص لأيما زي.. وأيما لون من ألوان الطعام.. والمجتمع من الناحية الثقافية يمكن أن يفهم جيداً على ضوء معتقداتهم حدود الله.. ولم يخالف روح الإسلام! وإن ما قدمه المسلمون في ميادين العلم والفن.. وفي بناء المدينة المادية يمكن أن يفهم على ضوء معتقداتهم الأساسية.. وموقفهم من الحياة نفسها.. والحقيقة القائلة بأنهم ظلوا قادة العلم في هذه الميادين زمناً طويلاً هي حقيقة تاريخية أخذ علماء الغرب يدركونها ويقرون بها شيئاً فشيئاً..
وهذا فصل يكتبه دكتور محمد مارمادوك بيكتهول.. وهو مستشرق بريطاني اعتنق الإسلام وأدى خدمات جليلة لقضايا الإسلام حينما كان رئيساً لتحرير مجلة "الثقافة الإسلامية".. بحيدر أباد ودكن.. يقول: تختلف الثقافة الإسلامية عن غيرها من الثقافات في أنها لا يمكن أن تكون إطلاقاً هدف الفرد المثقف وغايته، لأن هدفها كما هو محدد بوضوح ليس تهذيب الفرد أو الجماعة.. بل الجنس البشري بأكمله.. إلى أن يقول ومع ذلك فإن الإسلام كدين يشجع الإنسان على بذل جهده في سبيل تحسين ذاته وترقية الإنسانية عامة بأكثر مما يشجعه على ذلك أي دين آخر.. وهو منذ أن أصبح دولة في العالم أعطى من النتائج الثقافية ما يمكن مقارنته بالنتائج التي أعطتها سائر الأديان والحضارات والفلسفات مجتمعة.. وأنا لا أعني بالثقافة الإسلامية.. تلك الثقافة التي يبلغها في أي وقت قوم يقرون بالإسلام، مهما كانت مصادر هذه الثقافة بل أعني بها ذلك الضرب من الثقافة التي يأمر بها الدين الذي جعل من التقدم الإنساني غايته الواضحة العلنية.
في أيام الإسلام المجيدة لم يكن هناك أي فرق بين التعليم الدنيوي والتعليم الديني، بل إن التعليم كله كان يقع ضمن النطاق الديني، يقول أحد الكتّاب الأوروبيين المحدثين: "من أمجاد الإسلام أنه ساوى بين تعليم القرآن والحديث والفقه، وبين تعليم سائر العلوم في المساجد.. كانت المحاضرات تلقى في المسجد، في الكيمياء والفيزياء وعلم النبات والطب وعلم الفلك.. إلى جانب المحاضرات الدينية ذلك أن المسجد أو الجامع كان "جامعة الإسلام" في تلك العصور المجيدة.. وقد استحق اسم الجامعة لأنه كان يتقبل في رحابه كل معارف العصر، ومن أي قطر أو صقع.. وهذا التوحيد لجميع ضروب التعليم هو الذي أعطى قدماء الكتّاب والمؤلفين المسلمين تلك الصفة الخاصة التي لا بد أن قد لاحظها فيهم كل من قرأ لهم.. صفة الرزانة والرصانة الهادئة التي تتميز بها العقول الجامعة.. ثم يتابع الكاتب بحثه.. إلى أن يقول إن الإسلام يقدم نظاماً سياسياً واجتماعياً كاملاً كبديل عن الاشتراكية والفاشية والنقابية والبلشفية وكل المذاهب الأخرى التي تقوم بديلاً عن نظام يهدد بالسقوط، إن نظام الإسلام يعد بالسلام والاستقرار حيث نجد اليوم نزاع الطبقات والأمم على غير طائل، ولا شك في أنه من الحماقة أن يرفض أي فرد حتى دراسة فوائد مثل هذا النظام ومضاره لا لشيء إلاّ لأنه نظام قائم على التفكير بالله.. ونظام يقول بأنه إنما جاء به رسول من عند الله.. وهذا لعمري منتهى التمسك بالكفر والإلحاد"..
وحول هذا المعنى يقول دكتور أ. رؤوف وهو مربٍ معروف:
لقد أعطى الإسلام حضارة ثورية إلى أبعد الحدود.. وثقافة ديناميكية إلى أبعد الحدود..
الثقافة الإسلامية هي الاسم الذي يطلق على الحضارة الخلاقة التي حافظت على نموها وتطورها على مر الزمن تحت التأثير الملح، والنفوذ الدائم لتعاليم الإسلام..
إنها تنبع من تعاليم الإسلام، وسلسلة الأنبياء المسلمين من آدم.. إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهي تدل على ذلك الاتجاه الثوري للعقل الذي هو نتاج المبادئ الإسلامية الأساسية: الإيمان بوحدانية الخالق.. وكرامة الإنسان.. ووحدة الإنسانية كلها والمساواة بينها. ومن الناحية السياسية فإن هذه الثقافة هي ثقافة إسلامية بمعنى أنها ازدهرت في الإسلام كدين ودولة.
ولقد لعبت الثقافة الإسلامية دوراً كبيراً في تطوير الإنسانية بأسرها. ولقد أصبحت الثقافة الإسلامية والعلوم الإسلامية ذات أهمية تاريخية بارزة للإنسانية كلها.. فقد حفظت المعارف التي اكتسبتها الحضارات السابقة وسلمت إلى الحضارات التالية.. وأضيفت إليها إسهامات جديدة أصيلة ولعبت الأكاديميات والمكتبات التي أنشئت في كل مكان دورها البارز في هذا التطور هذا العنصر العالمي العام في الثقافة الإسلامية المبكرة لم يفقد أبداً في الأزمنة المتأخرة.. وهو ما يزال يشكل تراث الحضارة الإسلامية الحاضرة..
لا بد لنا من إعطاء وصف موجز لبعض المعالم المميزة للثقافة الإسلامية، إذا أردنا أن نقدر تقديراً صحيحاً روح هذه القوة الفذّة ومضامينها.. وفيما يلي بعض هذه المعالم المميزة البارزة.
1- وحدانية الله: إن مبدأ التوحيد الإسلامي، ووحدة الإنسان وكرامته، والمساواة بينه وبين أخيه الإنسان، يشكل أساس هذه الثقافة.
2- السلام المتين الدائم: تشدد الثقافة الإسلامية على وجوب نشر سلام متين ودائم في جميع أرجاء العالم، كما تضع الأسس العلمية لهذا السلام على نحو ملموس.
3- التفكير الخلاّق المشع: تفترض الثقافة الإسلامية مسبقاً التحرر من جميع أنواع الحقد والتحامل. وتعد بالتفكير الخلاّق المشع.. وتدعو إلى نظرة محكمة مسؤولة وموزونة للحياة عامة وجميع مشاكلها المتنوعة.
4- المراقبة المحكمة للطبيعة: توصي الثقافة الإسلامية بمراقبة الظواهر الطبيعية ورصدها بطريقة محكمة.. وباكتشاف القوانين التي تتحكم بها. وبتقدير هذه القوانين وفهمهما.
5- التحرر والديناميكية: الثقافة الإسلامية في روحها متحررة جداً.. وديناميكية جداً.. وهي تشمل جميع العناصر الخلاقة في جميع الثقافات السابقة وتوفر في الوقت نفسه مدى كاملاً لتطويرات أخرى.
إن المعالم المميزة للثقافة الإسلامية قد مكنت هذه الثقافة من أن تلعب دوراً خلاقاً وحاسماً إلى أبعد الحدود في تاريخ الحضارة الإنسانية.. وقد بلغت إسهامات المسلمين في العلم والأدب ذروتها في العصور الوسطى..
الثقافة الإسلامية هي تجسيد لمعظم المثل العليا الملهمة. ونحن نرى من المفيد أن نذكر باختصار بعض هذه المثل العليا: السياسية والاجتماعية والعقلية التي ترفع الثقافة الإسلامية لواءها.
أ- المثل الأعلى السياسي: يشتمل من الناحية السياسية على إيجاد مجتمع سليم منظم يهتدي بقوانين ومؤسسات محددة واضحة.
ب- المثل الأعلى الاجتماعي: يركز الانتباه على تطوير نمط حياتي ونظام اجتماعي لا يعترف إطلاقاً بأي تمييز في الجنس واللون والوضع المالي أو غير ذلك.. بل إن الإسلام بدلاً من ذلك يعطي الاعتبار الأسمى للفضائل الأخلاقية، والصفات الحسنة للخلق والشخصية..
ج- المثل الأعلى العقلي: في عالم العقل يحظى حب العلم والتعليم بأوفر نصيب من التشديد والتوكيد حتى إن مداد العالم.. يعتبر أكثر قدسية من دم الشهيد.. إن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.. والقرآن الكريم الممتلئة كل صفحة من صفحاته بإطراء العلم والمعرفة.. يذهب إلى حد إنه يأمر النبي الكريم (ص) بأن يطلب دائماً المزيد من العلم..
د- المثل الأعلى الأخلاقي: يحتل الإيمان بالأعمال الفاضلة محور الآداب الإسلامية. وهذه الآداب تعطي أسمى الأولوية للقيم الأخلاقية العامة واعتبارات تطوير الخلق والسلوك.. يقول القرآن الكريم إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات: 13).
وفي تاريخ الحضارة شواهد غزيرة على الحقيقة القائلة بأن التقدير المتبصر والتطبيق المناسب في الوقت المناسب لهذه المثل العليا.. قد لعبا دوراً حاسماً في تطوير الثقافة الإسلامية والحضارة الإنسانيتين.. والواقع أنهما كانا وما يزالان مسؤولين عن تغيير مجرى التاريخ الإنساني بأكمله.. وحتى يومنا هذا ما زالت هذه المثل العليا للثقافة الإسلامية تشكل مصدراً دائماً للإلهام المباشر بالنسبة إلى ثلاثة أرباع سكان الأرض، وبالنسبة إلى أقوام كثيرين على نحو مباشر..
تتميز الثقافة الإسلامية بشعور ديناميكي من الاعتدال.. يقول القرآن: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا (البقرة: 143)..
والإسلام يدعو إلى روح الاعتدال في الحياة اليومية.. ويحذر بعنف من كل شكل من أشكال الصلابة والقسوة.. وجميع المذاهب المتطرفة..
الثقافة الموفقة: بينما تشدد معظم ثقافات العالم عل ناحية من نواحي الحياة على حساب الأخرى فإن الثقافة الإسلامية تتحاشى كل تطرف كهذا إنها تلائم بين النواحي المادية والنواحي الروحية للشخصية الإنسانية وتوفق بين متطلبات الشخصية الإنسانية وتوفق بين متطلبات الواقع ومتطلبات المثل العليا.
والثقافة الإسلامية تحاول تحقيق أفضل انسجام ممكن بين الفردية والجماعية، فلقد نظم الإسلام العلاقة بين الفرد والمجتمع بحيث لا تصاب الشخصية أو الفرد بأي تصغير أو تحقير أو ذوبان شأنهما في الأنظمة الاجتماعية الفاشية أو الشيوعية.. كما أن الفرد لا يسمح له بتجاوز حدوده إلى درجة يصبح معها ضاراً بالمجتمع كما يحدث في الديموقراطيات الغربية..
إن الغرض من حياة الفرد في الإسلام هو الغرض نفسه من حياة المجتمع.. أي تنفيذ القانون الإلهي، واكتساب رضا الخالق.. من هذه الزاوية يمكن القول إن الثقافة الإسلامية هي الثقافة الوسطى بين الثقافات كلها.
إن العديد من أعقد مشاكل العالم الغربي المعاصر، ينبع من بعض المبادئ والأنظمة الحياتية المتطرفة.. والثقافة الإسلامية بتقديمها أسلوباً علمياً معتدلاً، يوفق إلى أبعد الحدود بين جميع هذه المبادئ والأنظمة.. إنما تفرض نفسها كحل لمشاكل الإنسانية وتعقيداتها، جدير بالثقة والاعتماد.. ومن زاوية أخرى يتناول الكاتب المعروف دكتور م.ز. صديقي، موضوع الثقافة الإسلامية وماذا تعني.. فيقول:
إن التعبيرين "الثقافة" و "الحضارة" كثيراً ما يستعملهما حتى العلماء على نحو مبهم.. وكثيراً ما يستعملونهما أيضاً كمرادفين لا يختلفان في المعنى.. ولكني أعتقد أن لكل منهما معنى واضحاً يختلف عن معنى الآخر.. فالثقافة تعني (التطور العقلي) بينما تدل الحضارة على مرحلة متقدمة من مراحل التطور الاجتماعي.. وإذن فإن الثقافة تدل على حالة عقلية بينما يتضمن معنى الحضارة شكلاً مادياً، وإذن فإن الثقافة الإسلامية -حسبما استطعت أن أفهمها- تدل على اتجاه عقلي خاص ينشأ عن التعاليم الإسلامية الأساسية: الإيمان بوحدانية الله وبكرامة الإنسان وبوحدة الإنسانية..
إلى أن يقول:
ولكن تعبير "الثقافة الإسلامية" يستعمل أيضاً بمعنى المنجزات الجماعية في مختلف ميادين الأدب والعلم التي تمت برعاية المسلمين.
ويمضي الكاتب في بيان المنجزات الثقافية في ميادين الأدب والعلم في ظل الإسلام وما شاركت فيه الأمم المختلفة في هذا المجال..
ويقول الدكتور م. صفير معصومي الأستاذ في المعهد المركزي للأبحاث العلمية الإسلامية في كراتشي: إن العالم اليوم يقلد الغرب في كل ناحية من نواحي الحياة وكل مظهر من مظاهرها، ولكن الحالة لم تكن كذلك حتى منذ قرن مضى.. فحتى القرن السابع عشر كان الإسلام ما يزال محتفظاً بتأثيره ونفوذه على جزء كبير من العالم المتحضر..
إن الغرب ليفخر اليوم -وبحق- برقيه وتقدمه اللذين لم تعرف الإنسانية تقدماً مثله في حياتها، ولكنه ينسى أحيانا أنه مدين للإسلام.. ولقد كانت هناك وما تزال محاولة مستمرة من جانب بعض المستشرقين القلائل للحط من قدر المسلمين الذين كانوا فيما مضى أسياداً للأمم الغربية. والحقيقة المعترف بها هي أن "غرب اليوم" ما كان ليكون كما هو عليه اليوم بالتأكيد لو لم يكن هناك مسلمون وعرب.. تؤيد ذلك وتدعمه سنة التطور.. ليست الغاية ولا الهدف من هذا البحث احتقار الغرب، كما أنها ليست مدح المسلمين وإطراءهم، بل الغاية هي لفت انتباه المسلمين إلى مقدار المهانة والجهل والتأخر الذي تردوا فيه خلال القرون القليلة الأخيرة..
ومهما كانت أسباب انحطاط المسلمين فإن المؤكد أن إطراحهم لأول وصية من وصايا الإسلام: اقْرَأْ و وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (طه: 114) قد كان السبب الرئيسي الأول في سقوطهم في مهاوي الجهل والخراب.
ثم يقول الكاتب: إن تأثيرات الثقافة الإسلامية في أوروبا وغيرها من أجزاء العالم أكثر من أن تعد في هذه المقالة القصيرة..
لقد اعترف بعض العلماء الأوروبيين المحبين للحقيقة أن الإسلام في الواقع قد بدل "بربرية الشعوب المحلية في أوروبا" إلى علم وثقافة.. وإلى حضارة الغرب اليوم، فالأمم الغربية التي لم تهتم قط بالنظافة وحفظ الصحة، والتي ظلت قذرة جسدياً وجاهلة عقلياً.. والتي سكنت الأكواخ والخلايا المظلمة.. وتبدلت تبدلاً كلياً عندما جاءها نور الإسلام من الزاوية الجنوبية الغربية من القارة.. لقد تعلمت من المسلمين الزراعة والإنعاش الاجتماعي والمبادئ الاقتصادية وفنون الحرب وأسلحتها.
ولقد كان للغة العربية تأثير عظيم في اللغات الأوروبية.. فالكلمات العربية المستعارة كثيرة في اللغات الأوروبية في حين أن الكلمات الغربية المستعارة في اللغة العربية ليست كثيرة جداً..
وبعد: فإن في هذه المجموعة من البحوث بحوثاً أخرى طريفة لا تقل أهمية.. منها بحث يحمل عنوان "ما قدمه الإسلام للحضارة" وبحوث بعنوان "الثقافة الإسلامية" منشؤها ونموها وصفتها والثقافة الإسلامية والإسلام والثقافة وغيرها وغيرها.. مما لم نتعرض له نظراً لضيق المجال..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :611  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 13 من 56
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج