شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تفسير الإسلام
الدكتورة لورا فاغليري
ترجمة: أحمد أمين عز العرب
في الكتاب الذي عرضنا له من قبل "شمس العرب تسطع على الغرب" (1) رأينا كيف أن مؤلفة الكتاب، المستشرقة الألمانية الدكتورة "زيغريد هونكه" لم يشب آراءها تعصب مما اعتاد الناس أن يلمسوه دائماً في أبحاث المستشرقين!
واليوم نعرض لكتاب آخر من هذا الطراز.. له شهرته هو الآخر في أوروبا، وفي دوائر المستشرقين على الخصوص.
إنه كتاب "تفسير الإسلام" للمستشرقة الإيطالية المعروفة الدكتورة "لورا فاغليري" والذي ظهرت له ترجمة أخرى في لبنان بعنوان "دفاع عن الإسلام".
والدكتورة فاغليري أستاذة بمعهد الدراسات الشرقية بميلانو، ويقول الأستاذ محمد عبد الله السمان عن المؤلفة في تقديمه لهذه الترجمة: إنها تختلف عن غيرها من الكتّاب الأجانب والمستشرقين في وضعها العدل والإنصاف نصب عينيها في مناقشتها للقيم الإسلامية، وفي تعمقها في دراستها..
وإنك لتحس وأنت تقرأها، كأنها عاشت مع الإسلام أمداً طويلاً، استوثقت من صلابة أسسه، وصفاء معينه، وضخامة معانيه، وأصالة أهدافه، فأخذت تكتب عنه كتابة واعية عميقة، ومتحمسة له تحمساً فيه قوة استمدت طاقتها من الإنصاف الذي يجب أن يكون رائد كل كاتب!
ولنستمع إلى المؤلفة "فاغليري" في الكلمة الموجزة التي صدرت بها كتابها حيث تقول:
عودة المسلمين إلى النبع النقي
"... إلى الكتاب المقدس -القرآن- الذي لم يصبه تحريف أبداً، لا في أيدي أصدقائه، ولا في أعدائه، سواء في ذلك الجهلة منهم والمتعلمون..
.. إنه إلى ذلك النبع النقي سيعود المسلمون.. فعندما ينهلون مباشرة من هذا الكتاب المقدس، لن يفشلوا في العودة إلى نشاطهم القديم.. والشواهد قوية عن أن هذه العملية قد بدأت فعلاً.."
ثم تبدأ الكاتبة حديثها فتتحدث في الفصل الأول عن انتشار الإسلام فتقول:
كنبع من الماء العذب الصافي ظهر الإسلام في أرض قاحلة مجدبة، بعيدة عن ملتقى طرق المدنية والفكر الإنساني وكان هذا النبع وفيراً فجرى قناة أصبحت بسرعة نهراً، وفاض النهر في النهاية، وتفرعت منه آلاف القنوات حتى ملأ البلاد كلها، وفي تلك الأماكن التي جرى فيها ذلك الماء السحري التأم شمل القوم المنقسمين وسويت منازعاتهم.. وحل شعور آخر محسوس محل الأخذ بالثأر الذي كان القانون الأعلى وساعد ذلك الشعور على ربط القبائل ذات الأصل المشترك بعضها إلى بعض.. حل بينها شعور من الأخوة بين رجال تربطهم مثل مشتركة من الأخلاق والعقيدة، وعندما أصبح هذا النبع نهراً لا يقاوم.. أحاط تياره بالغرب القوي.. بالممالك العظمى التي كانت تمثل الحضارات القديمة، قبل أن تستطيع تلك الممالك أو شعوبها إدراك الحدث الجليل.. ألم بها وأحاط.. مسوياً في طريقه بين الأقطار.. ومزيلاً الحدود الفاصلة، وموقظاً بضجته العقول النائمة.. ومكوناً مجتمعاً واحداً من أكبر مجموعة من الأمم المختلطة.
ولم يشاهد التاريخ من قبل أبداً مثل تلك الظاهرة، ويصعب على المرء أن يقدر السرعة التي حقق بها الإسلام فتوحاته.. وغير من عقيدة قلة متحمسة إلى عقيدة ملايين الرجال.. وما زال من الأمور المحيرة للعقل البشري أن يكتشف القوة الخفية التي مكنت محاربين بدائيين من الانتصار على من يفوقونهم تفوقاً تاماً، في المدنية والثروة والخبرة في إدارة دفة الحرب.. ويدهش المرء كيف أن هؤلاء القوم استطاعوا أن يحتلوا أراضي جديدة فسيحة، ثم جمعوا شمل فتوحاتهم بطريقة لم تنجح معها القرون الطويلة من الحروب في زحزحتهم عن أماكنهم.. وكيف استطاعوا أن يلهموا أرواح من خلفوهم بحماس رائع متلهم.. وأن يحافظوا على حيوية نابضة لم تعرفها الأديان الأخرى حتى بعد عشرة قرون من وفاة محمد "صلى الله عليه وسلم".
.. فأية قوة معجزة تكمن في هذا الدين؟
وأية قوة إغراء خفية تمتزج به؟
وعند أي عمق من أعماق الروح البشرية تلاقي جاذبيته تجاوباً محركاً؟
سهولة العقيدة الإسلامية
وفي الفصل الثاني تفيض المؤلفة الإيطالية في حديثها عن سر هذه القوة وتقول:
يدعو الإسلام الفرد إلى الإيمان بدعوة ذات شقين: أن يشهد بأن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله.
وقد دعا النبي -بصوت استلهمه من وحي مولاه- عبدة الأصنام واتباع المسيحية واليهودية إلى التوحيد بالله، ودخل في صراع مع تلك العقائد البشرية الرجعية التي أشركت مع الله آلهة غيره ولم يحاول محمد كي يصل إلى إقناع الناس أن يخدعهم بأساطير تحيد عن المنطق العادي.. ولكنه دعاهم في بساطة ودون أن يطلب إليهم ترك مملكة الواقعية إلى التأمل في الكون ونظمه.. وأن يقرأوا في كتاب الحياة.. وقد كتب كل من محمد عبده وأمير علي أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان حسبه أن يجتذب ضمير الفرد وبديهة الإنسان.. ويرجع إلى الإسلام فضل هزيمة الوثنية في كل صورها، فقد تحررت النظرة إلى الكون، وطريقة العبادة، وعادات الحياة الاجتماعية، تحررت كلها من "البدائيات" التي حطت من قيمتها، وتحرر العقل الإنساني من التعصب، وأحس الإنسان في النهاية بكرامته.. وخضع للخالق وحده سيد العالمين، واستطاع الإنسان وحده أن يقول مع إبراهيم.. بل كان عليه أن يقول: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حَنِيفًا وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الأنعام: 79) وقال الإنسان مع محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (الأنعام: 162-163).
تحررت الروح من التعصب.. وتحررت إرادة الإنسان من الروابط التي طالما ربطتها بإرادة الآخرين!
وسقطت عروش القسس.. وحراس العقيدة الزائفين، وسماسرة الخلاص.. وكل هؤلاء الذين يزعمون أنهم وسطاء بين الله والإنسان.. وأن لهم لذلك السلطة على إرادة الآخرين.
وبينما كان الناس قبلاً يقاسون من الفوارق الاجتماعية أعلن الإسلام المساواة بين البشر.. ولم يصبح لمسلم امتياز على مسلم بأصله، أو أي عامل آخر.. وإنما أصبحت الميزة خشية الله، والعمل الصالح، والقيم الخلقية والذهنية.
وقشع الإسلام حجب السرية التي كان البعض يفرضونها على دراسة الكتب المقدسة، وندد بهؤلاء الذين كانوا يدعون الانفراد بالقدرة على قراءة كلام الله.
لقد دعا الإسلام أي رجل ذي شعور ديني إلى تحصيل المعرفة اللازمة لفهم كلام الله. ولم يعط الإسلام أي مسلم حق الحكم على عقيدة أخ له في الإسلام.. وأرست أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قواعد فكرة مؤداها أن مدى الحكم على إخلاص المؤمن وأفعاله.. مرده لله وحده.. وأنكرت على أي عبد من عباد الله حق الحكم على مدى إيمان عبد آخر.
معجزة الإسلام الأولى
معجزة الإسلام الأولى هي القرآن الذي ينقل لنا أخباراً مقطوعاً بصحتها فهو كتاب لا يمكن تقليده، ويعتبر جامعاً شاملاً، وأسلوبه ليس له مثال في تاريخ الأدب العربي كله في الفترة السابقة على الإسلام، وأثره على الروح الإنسانية معجز، إن العمق وحلاوة الأسلوب قيم لا تلتقي في العادة، ولكنها التقت في القرآن الذي وجدت فيه كل الصيغ البلاغية مجالاً لتطبيقها تطبيقاً سليماً.
ورغم أن النبي صلوات الله عليه قد دعا خصوم الإسلام إلى أن يأتوا بكتاب مشابه له.. أو حتى بسورة منه.. ومع أن هؤلاء الذين كانت لهم القدرة على التعبير ببلاغة كبيرة كانوا كثيرين بين العرب.. فلم يستطع أي منهم إنتاج شيء تمكن مقارنته بالقرآن.. لقد حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم بسواعدهم، ولكنهم فشلوا تماماً في مباراة روعة القرآن.
فالكتاب إلى جانب كماله في الشكل والأسلوب أثبت أنه أسمى من أن يقلد حتى في مادته، ففيه إلى جانب الموضوعات الأخرى تنبؤ بأحداث مستقبلة.. ووصف لأحداث وقعت منذ قرون قبله، وكانت مجهولة عادةً، وهناك ذكر متكرر لمختلف العلوم الدينية والزمنية، وبه خزائن نفيسة من المعرفة تفوق مستوى أكثر الرجال علماً وأكبر الفلاسفة، وأقدر السياسيين.. ولهذه الأسباب كلها لا يمكن أن يكون القرآن من عمل رجل أمي قضى كل حياته وسط مجتمع غير متطور بعيداً عن رجال العلم والدين.. رجل أصر دائماً على أنه رجل ككل الرجال لا يستطيع أن يأتي بالمعجزات ما لم يمنح الله مساعدته.. فالقرآن لذلك لم يكن يستطيع أن يستقي علمه إلاّ من ذلك "الذي وسع علمه كل شيء في السماء والأرض".
وما زال لدينا دليل آخر على الأصل الإلهي للقرآن، هو أن نصه قد ظل ثابتاً نقياً طوال القرون الطويلة منذ نزوله إلى اليوم، وسيبقى كذلك بمشيئة الله طالما بقي العالم، فاقرأ هذا الكتاب في أي مكان من العالم الإسلامي تجده لا يأتي للمؤمن بأي ملل.. بل يعزز نفسه في كل قراءة.. ويحيي إحساساً عميقاً بالسمو والخشية في قلب قارئه وسامعه ويمكن حفظه عن ظهر قلب.. لدرجة أننا نجد اليوم، رغم المستوى المنخفض للإيمان، آلافاً من الناس يحفظونه عن ظهر قلب.. وتجد في مصر وحدها عدداً من حفظة القرآن يفوق عدد حفظة الإنجيل في أوروبا كلها.
إذن فلم يكن استعمال القوة.. أو مجهود المبشرين الملحفين.. هو سبب الانتشار السريع للإسلام بل سبب ذلك هو الكتاب الذي قدمه المسلمون للشعوب المغلوبة، وتركه الحرية لهم.. ليقبلوه أو يرفضوه: كتاب الله وكلمة الحق والمعجزة الكبرى التي كان محمد صلى الله عليه وسلم يستطيع تقديمها لكل الضالين فوق الأرض.
وتمضي مؤلفة الكتاب في حديثها في هذا الفصل عن سبب انتشار الإسلام وسر القوة فيه إلى أن تقول:
وإلى جانب الإيمان بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم نجد أن القواعد الأخرى التي يؤمن بها المسلمون منذ ظهور الإسلام إلى اليوم لا تختلف بأي وسيلة مع العلم الحديث.
وبينما نجد الأديان الأخرى تفرض على المؤمنين بها عبئاً ثقيلاً من الطقوس يصعب اتباعه وفهمه.. نجد الإسلام ذا سهولة رائعة، وبساطة واضحة.. وقد كان ذلك من أسباب سرعة انتشاره في وقت الغزوات الأولى بين أناس كانوا في حيرة روحية بالغة، سببها التباس قواعدهم الدينية عليهم. وما زالت هذه السهولة في الإسلام سبباً في انتشاره المستمر إلى اليوم بين الشعوب المختلفة في آسيا وإفريقية. فالإسلام يستطيع الوصول إلى أرواحها دون شرح طويل أو مواعظ معقدة.
ثم تتحدث في الفصل الثالث عن العبادات في الإسلام فتقول:
"... إلى جانب الشهادتين نجد الأسس الأخرى للإسلام هي الصلاة والصوم والزكاة الخ.. ولكي نفهم جوهر هذه "العبادات" يجب أن ننظر إلى أبعد من شكلها الخارجي، وأن نتعمق فيها، وإلاّ كنا كمن يعجب بالمحارة دون التحقق مما بداخلها من اللؤلؤ.. فكل من هذه الطقوس -العبادات- يجب دراسته لنصل إلى الأثر الذي تؤديه في تطهير روح المؤمن ورفعها تدريجياً نحو خالقها، وعندئذ نستطيع فهم هدفها المزدوج.. من إكبار لله، وتعبير عن شكره لنعمته..
وقد أوضح القرآن قيمة الصلاة كوسيلة للسمو الخلقي وتنقية القلب بقوله: ٱتْلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (العنكبوت: 45).
والركن الثاني العملي للإسلام هو الصوم الذي يكون بالامتناع عن الطعام والشراب خلال ساعات النهار طوال شهر رمضان، وأن في هذا الفرض لممارسة للنظام والرحمة والشفقة.. فهو يطلب إلى المؤمن أن يمتنع عن كل متاع الجسد في فترة معينة.
فإحساس المؤمن بالجوع وألمه.. يستثير الشفقة ويحضه على الصدقة ويشعره بقيمة ما أتاه الله من نعم.. فيتعمق شكره لها.
.. وقد اعترفت كل الأديان بطريقة أو بأخرى بالأهمية الاجتماعية والخلقية الكبيرة التي تكمن في الصدقات.. وأوصت بها، باعتبارها تعبيراً كريماً عن الشفقة.. وطريقاً سليماً لاجتذاب مرضاة الله.. ويرجع الفضل للإسلام وحده في جعلها إجبارية.. فكل مسلم ملزم -طبقاً للشريعة- أن يمنح نسبة من ثروته إلى الفقراء والمحتاجين والمسافرين والغرباء، الخ وهو بأدائه لهذا الواجب الديني يحقق معنى عميقاً من معاني الإنسانية، ويوقي شح نفسه ويحق حينئذ أن يأمل في الجزاء الإلهي.
وكل مسلم ملزم بالحج إلى مكة مرة في عمره على الأقل إذا تحققت شروط معينة، والقوى العميقة الكامنة في هذا الأمر ذات طبيعة يصعب في العادة على العقل البشري فهمها.. ورغم ذلك فإنه يمكن فهمها بسهولة من طبيعة تكشف عن حكمة كاملة.. فلا أحد يستطيع إنكار الفائدة التي يحققها الإسلام خلال التجديد السنوي لوحدة المسلمين في مكان واحد يأتونه من كل بقاع الأرض بين عرب وفرس وأفغان وهنود، ومن الملايو والمغرب والسودان وغيرهم متجهين إلى المكان المقدس ابتغاء مغفرة ربهم الرحيم، ومنشئين في الوقت نفسه روابط جديدة من الحب والأخوة أثناء اجتماعهم لمثل هذا الغرض!
ولمرة واحدة في حياة المسلم على الأقل تختفي تماماً كل الفروق بين الغني والفقير، والسائل والآمر، ففي خلال أداء مناسك الحج يلبس كل فرد نفس الملابس المتناهية في بساطتها.. ويترك كل متاعه خلفه، ويردد الكل نفس النداء "الله أكبر".
وتنتقل الدكتورة فاغليري إلى الفصل الرابع من كتابها.. فتقول:
في معرض الرد على بعض الكتّاب الغربيين ممن قالوا إن الشعور الإسلامي خطر على الفرد.. لأنه مليء بالطاعة والخضوع السلبي إلى آخر ما قالوا.. تقول المؤلفة فيما تقوله في هذا الصدد: "لم يكن الإسلام قط عقبة في طريق الكمال الخلقي، وهو الدين الذي يضم بين جنباته طاقة هائلة موجهة للعمل الصالح.. ولذا نجح مبكراً عن كل الأديان الأخرى في تعليم الناس.. نجح الإسلام لأنه لم يكن أقل عناية بالمسؤولية الخلقية لأتباعه من الأديان الكتابية الأخرى.. وفاق الإسلام هذه الأديان في نواحٍ معينة في إدخاله الضعف الإنساني في الحسبان.. وفي دفع المسلمين نحو المثل العليا.
ويؤكد الإسلام قيمة العمل الصالح الناتج عن شفقة الإنسان على جيرانه.. ويؤكد شفقة الله.. ويحمي اليتيم والفقير والمسكين وسيئ الحظ.. ويعلن الإسلام أن الأخوة والزكاة هما حجر الزاوية في بناء المجتمع الإسلامي.. وقد حقق الإسلام بذلك نجاحاً كبيراً إذا ما قارنا أيامه بأيام الوثنية التي كانت الطبقة الحاكمة فيها تمعن في غرورها وصلفها، وتحتقر الفقراء وتخضعهم، وكانت الثقة فيها مفقودة في كل أنواع المعاملة.. ولم تكن أوليات الواجبات نحو الجار تحظى بأية عناية".
وتمضي المؤلفة إلى أن تقول: "ولم يضع الإسلام على تمتع المسلم بالحياة إلاّ قيوداً قليلة يتساوى فيها الجميع وتظهر حكمتها للعيان.. فهل يلام الإسلام -مثلاً- على تحريمه الخمر والميسر، والعالم الغربي نفسه في معركة حادة ضدهما.. يحاول أن يقيدهما بالقوانين؟ أفلا تلمع حكمة الله في تحريم الربا باعتباره ثراء غير مشروع؟".
"إن الناس ليشعرون بالحاجة إلى الدين، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون منه أن يكون ديناً يفي بحاجاتهم، قريباً من مشاعرهم يقدم الأمن والراحة للحياة الدنيا.. كما يقدمها للآخرة.. ويلبي الإسلام هذه الحاجات بدقة لأنه عقيدة وفلسفة للحياة.. فهو يعلم التفكير الصحيح، والتصرف السليم، والكلام الأمين، ولذا يجد طريقه في غير صعوبة إلى كل من العقل والقلب الإنساني".
الحكم الإسلامي والمدنية الإسلامية
وفي حديثها عن الحكم الإسلامي تقول:
إننا ندين بأعمق الإعجاب لدين لا يقف عند حد الدراسات النظرية لمطالب الطبيعة البشرية، ولا يكتفي بوضع مجموعة من أرفع القواعد التي تمكن الناس من العيش الكريم.. ولكنه يقدم فلسفة للحياة ترسي المبادئ الإسلامية للأخلاق على أسس سليمة فعّالة تشرح واجب الفرد حيال نفسه وحيال الناس، قادرة على التطور ومجاراة أرفع التطورات العقلية مما يقطع بمصدرها الإلهي..
ونفوذ هذا الدين على حياة الناس عموماً جد مفيد إذ أن الاعتبارات ضعيفة عندهم ما لم تكن واردة في قانون يحدد لها عقوبات واضحة.. وهذا هو ما يفعله الإسلام، فالطبيعة البشرية في حاجة لسلطة آمرة، أكثر من حاجتها للشعائر والمبادئ.. ولذا يتكلم الإسلام إليها بعبارة الأمر الصادر من القوة المطلقة، وكان هذا من أسباب النجاح العظيم الذي حققه الإسلام!
وإذا كان الإسلام قد نجح في خلق أمة موحدة قوية قائمة على أسس أخلاقية متينة في بلاد العرب، حيث سادت الفوضى، وحيث كانت فكرة وجود حكومة تكون بمثابة تنظيم اجتماعي مستقل مجهولة تماماً، وحيث كان أي شكل من أشكال السلطة البشرية أمراً غير محتمل، وحيث كانت القوة هي القانون.. وحيث كان القتل والسرقة مجرد أفعال تستوجب الأخذ بالثأر لعائلة القتيل والجريح، إذ كان الإسلام قد نجح في ذلك فلأنه كان قانوناً وديناً في نفس الوقت!!
ثم تتحدث المؤلفة عن الإسلام وعلاقته بالعلم فتقول: لقد أفرز الإسلام للعقل أهمية كبرى.. ثم تضيف: إن ديناً أساسه التأمل العقلي، وإعطاء مثل هذا المجال الفسيح للعقل.. ديناً يأمر باستخدام كل الطاقات التي منحها الله للإنسان خاصة أعظمها شأناً وهو العقل لا يمكن أن يكون مثل هذا الدين عقبة في طريق العلم.
لقد قيل: إن المدنية الحديثة قد حققت كل هذا التقدم المزدهر في أوروبا لأن المسيحية قد فصلت القوة المدنية عن القوة الدينية، ولأن الدول الغربية متحررة من نفوذ الكنيسة الذي تمتعت به خلال قرون طويلة، بينما لا يفصل الإسلام بين الدين والدولة فكلاهما جزء من كل، حسب الشريعة.
والإسلام الآن دين ودولة بكل ما في الكلمة من معنى.. فقد أنشأ حقوقاً وواجبات وأقر ضرورة تنفيذها بالسلطة الزمنية.
وتمضي إلى أن تقول:
كيف يمكن القول بأن الإسلام قد عاق نمو الثقافة في القرون الماضية عندما كانت محاكم ومدارس الإسلام منارات للهدى، بينما كان الأوروبي عندئذ في ظلام العصور الوسطى، عندما وصلت أفكار الفلاسفة العرب إلى درجة أنارت الطريق للباحثين الغربيين، وعندما طلب هارون الرشيد إنشاء مدرسة لدراسة مختلف العلوم تلحق بكل مسجد، وعندما افتتحت المكتبات الغنية بمئات الألوف من الكتب للباحثين في كل أنحاء العالم الإسلامي.. ألم يكن العرب أول من طبق التجربة قبل أن يعلن "باكون" عن ضرورتها بزمن طويل.. وتطور الكيمياء والفلك، ونشر العلم الإغريقي، وتطوير دراسة الطب، واكتشاف مختلف القوانين الطبيعية -أليس ذلك ديناً للعرب على العالم؟!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :724  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 56
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.