شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شعراء من الجنوب (1)
من دواعي الغبطة أن نرى حركة الفكر لها جذور في كل ناحية من نواحي المملكة العربية السعودية..
أقول هذا بعد أن وصلت إلى يدي نسخة من كتاب جديد يحوي باقة من الشعر المعاصر لأربعة من شعراء الجنوب: (جازان). وهؤلاء الشعراء هم السيد علي بن محمد السنوسي، ومحمد بن أحمد عيسى، والسيد محمد بن علي السنوسي، وهو نجل السيد علي، ثم السيد أحمد عبد الفتاح الحازمي.
الأول شاعر عالم ولد في مكة -كما جاء في ترجمة حياته المدوّنة في هذا الكتاب- ثم سافر على اليمن يطلب العلم، ثم جاء إلى جازان عام 1334هـ ليتقلّد مناصب القضاء فيها، وقد ظل قاضياً لجازان حتى عام 1354هـ.
وشعر السيد علي جزل رقيق.. ويتسم بقوة العاطفة والحرارة وإن كان يجري على أسلوب القدماء في طريقته وأغراضه ومعانيه، فله في ذلك العذر كل العذر، وحسبه أنه أول شاعر من الجنوب يقرأ الناس له مثل هذا الشعر الغزلي.. من قصيدة بعنوان (كيف السبيل؟):
كيف السبيل إلى العذيب، فإنني
شاهدت فيه البرق تحت لثامكِ
ولقد أحاول لثم خدك مرة
فيصدني خجل برؤية خالكِ
سقيا لليلات الوصال وأنسها
لهواً على الكاسات فوق بساطكِ
طوراً نمازجها، وطوراً نحتسي
صرفاً على رشفات شهد رضابكِ
إلى أن يقول:
وأنا الهوى وخليله وزميله
ودليله، والكل طوع بنانكِ
وأرى الهوان على هواك كرامة
والذل إعزازاً برغم عداتكِ
ثم انظر إلى لطافة هذا البيت على ما فيه من سذاجة وقد جاء مسك الختام لهذه المقطوعة:
قالت وقد ضحكت: سلمت من الردى
فأجبتها: شكراً، وأنت كذلك!
إنه شعر رقيق يزخر بالعاطفة، ويتسم بالحيوية، وليس ينقص من قيمته الفنية أنه شعر كلاسيكي.. كما يحلو لبعضهم أن يقول.
أما الشاعر الثاني في هذه المجموعة: (محمد بن أحمد عيسى) فقد نشأ وتلقى معلوماته في صبيا، ثم درس العلوم الدينية وعلوم النحو والصرف والبيان في جازان، وهو اليوم من كبار موظفي المالية هناك (2) .
في شعر الشاعر نزعة تحررية، وشعور بالذات وجنوح إلى الموضوعات العامة، كما ترى في قصيدته المطولة وهي التي أنشدها في حفل عيد الأضحى لعام 1363هـ وفيها يشدو الشاعر بالوحدة العربية.. ودعوة الأقطاب -أقطاب السياسة في الحرب العالمية الثانية- لجلالة الملك عبد العزيز -رحمه الله- مشيراً إلى اجتماع جلالته بهؤلاء الأقطاب ثم دعوتهم للدول العربية في هيئة الأمم المتحدة، ويتغنى بالشعب العربي وما سجله التاريخ من المواقف قائلاً:
له مواقف في التاريخ شاهدة
بأنه لصروح السلم قد رفعا
* * *
وأصغي إلى همسات قلب طامح
متوثب الإلهام والإدراك
ثم ماذا؟
يتعشق الفجر الوضيء ويرتوي
إشعاع نور كواكب الأفلاك
نشوان من خمر القريض يعب من
نبع تدفق بالرحيق الزاكي
خضلت به دنيا الجمال فأخصبت
أسمى العواطف والشعور الذاكي
أنا من علمت، ولا أقول مباهياً
قد صاغ من در البيان حلاك
إلى أن يقول:
قلم هززت به يميني، فانبرى
كالبرق في متلاطم الأحلاك
لمع يضيء على مشاعل نهضة
لطلائع الأجيال فوق ثراك
وتر يرن لتسمع الدنيا له
نغم يردده الزمان وفاك
ولقد نظرت إليك نظرة شاعر
سامي الخيال.. مدله بهواك!
يرعى شواطئك الجميلة هاتفاً
ومغرداً.. بجمالها وصباك
ثم يختتم القصيدة بهذين البيتين قائلاً:
إن لم أقدر فيك رغم تفوقي
ويكون حظ النابهين جفاك
فلقد مضى.. أن النباهة في الورى
حفت -كمثل الورد- بالأشواك
صدقت أيها الشاعر، وإن هذا الذي تشير إليه، لسوء حظ الإنسانية هو واقع الحال في كل مكان.
وفي قصيدته "بيرس شيلي" وهو الشاعر الإنكليزي المشهور ما ينبئ عن ثقافة شاعرنا.. وارتوائه من المناهل الغربية للأدب الحديث وهي سمة من سماته في نزعته التحررية التي أشرنا إليها.
يقول الشاعر في هذه القصيدة:
روح على الفن من إشعاعه ألق
يلوح في ومضات الشعر يأتلق
وشعلة من ذكاء.. ظل يلهبها
قلب غدا بأوار الحب يحترق
وجرس صوت من الإلهام منبعث
يرن في مسمع الدنيا ويندفق
يضفي الرداء على الأفكار ينفحها
ريا الخلود، وفجر العمر مؤتنق
* * *
تحدرت من سماء الفن هابطة
للأرض مجهشة الأنفاس ترتجف
تعب ضوء بيان ثم تنفثه
شعراً تلألأ من إشراقه الصحف
إلى آخر هذه القصيدة.. ويلاحظ القارئ نزعة الشاعر التحررية واضحة في عدم تقيده بالقافية الواحدة كما كان القدامى يتقيدون.
وقصيدة (قبس من أشعة الحق) هي الأخرى من روائع هذا الشاعر الموهوب، ولو أن الشاعر جعل عنوان قصيدته هذه: (من وحي عرفات) فأكبر الظن أنه عنوان أقرب إلى الروح الرفافة المتجلية في هذه القصيدة التي يقول فيها:
قبس من أشعة الحق قدسي
يتجلى على المشاعر، يمسي
تتبارى فيه الملائك أطيا
فاً، من النور بالتسابيح همس
جانحات بين المقام وجمع
في رفيف نحو الحطيم ولمسِ
حين عج المكبرون وهلت
ألسن القوم من فصيح وخرسٍ
أقبلوا مهطعين من كل فج
وعنوا خانعين من كل جنسٍ
رددته الجبال.. والقمم الشم
وفاض الخشوع في كل نفسٍ
إلى أن يقول:
وفضاء مقدس الساح طهر
حرم لا يحل يوماً لرجس
لملمت ذيلها الرياح احتشاماً
وسعى الدهر في ثراه بهمس
من ثنياته وشم روابيـ
ـه أضيء الوجود والليل يغسي
وتعالت مطالع النور في الكو
ن تنير الهدى لجن وأنس
بسنا (أحمد) وقد حل في الأ
فق على عالم العقول بشمسٍ
فإذا الوحي سائغ الورد عذباً
سلسلاً كالزلال للمتحسي
وإذا مشرع الشريعة قد فا
ض على قادة العلوم بدرس
شرعة حقة، ودين حنيف
دعم العدل والحقوق ببأس
ذاك بدر أنار والليل داج
وضياء جلى به كل لبس
نهض الشرق في سناه وقامت
دولة فوق قمة المجد ترسي
ملكت ساحل المحيطين.. قسراً
واحتوت (قيصراً) وثنت بفرس
وأخيراً يتساءل الشاعر:
ليت شعري أينصف الدهر قوماً
طالما سودوا على كل جنس
أسسوا في مشارق الأرض عرشاً
عربياً.. وفي المغارب كرسي
كلما جال ذكرهم في ضميري
كاد أن يغمر التخيل حسي
ثم يشير إلى الدولة التي أنشأها العرب والمسلمون في عصرهم الذهبي فيقول:
لم تشد مثلها على الدهر "روما"
في علاها.. وما أُتيحت لرمسي
وهو يعني هنا "رمسيس" أحد ملوك مصر القدماء، كما نظن، وكما هو ظاهر، على أننا نلتمس أن يعذرنا الشاعر المفضال إذ أجزنا لنفسنا أن نتصرف تصرفاً نحوياً بسيطاً في بيته هذا فقلنا: (وما أتيحت لرمس).. وهو خطأ نحوي لم يكن له مسوغ.
* * *
أما الشاعر (محمد بن علي السنوسي) فقد ولد بجازان ودرس فيها العلوم الدينية، وهو ابن السيد علي السنوسي الذي سبق أن أشرنا إليه. والابن هنا يجري على غرار أبيه.. مع ميل إلى التجدد، نتيجة لقراءته لشعر المعاصرين من أمثال (علي محمود طه) الذي يحييه الشاعر بقصيدة جميلة من قصائد هذه المجموعة ويقدم لهذه القصيدة بقوله:
"إلى تلك الروح المرفرفة في عالم الحقيقة، إلى ذلك "الملاح التائه" أقدم هذه الباقة الشعرية تحية إكبار وإعجاب".
ثم يقول واصفاً "الملاح التائه":
عبق يفعم النفوس شذاه
ويثير الهوى عبير صباه
شاع فيه الجمال واتسق الـ
ـفن وفاحت بعطره دفتاه
ثم يقول:
لحظة! شاعر الجمال أنا
جيك بألحانك الرقاق العذاب
ورويداً أجلو عليك صبا
بات غرامي.. وذكريات شبابي
قف أبث الهوى عواطفك الحرْ
ى وأجلو عليك كأس شرابي
أنت علمتني منادمة الرو
ض وأغريت بي هزار الروابي
وهكذا يستمر شاعر الجنوب في مناجاة شاعر النيل أو شعر الخيال وغريد المعاني وطيرها الصدّاح كما يقول:
إيه يا شاعر النجوم والليل والـ
ـقمر.. سلاماً معطراً فواحا
لو ترى كيف أصبح الأفق السا
جي كئيباً وكان يندي سماحا
طويت بهجة السماء وغارت
أنجم كنت بدرها اللماحا
ما من شك في أن الشاعر محمد بن علي السنوسي متأثراً إلى حد كبير بعلي محمود طه كما يبدو ذلك -وفي هذه القصيدة على وجه الخصوص- واضحاً كل الوضوح.
وبعد.. فهذه إلمامة عن إخواننا في الفكر، وفي العروبة والموطن، شعراء الجنوب، لعلّها تكون تمهيداً نقرأ بعده من الدراسات لآثار هؤلاء المواطنين الأعزاء ما نرجو أن يكون أوسع بحثاً وأكثر تناولاً لجوانب أخرى من شعرهم ونثرهم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :631  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 53 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج