شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بينَ التارِيخ والآثار
أقوى الصلات يلحظها كل منا، بين التاريخ والآثار.
ذلك لأن الآثار، عدا أنها مصدر -لا غنى عنه- من المصادر الأولى للتاريخ، فهي أيضاً -وبصورة جلية- تبدو لنا أوثق هذه المصادر، وأولاها بالاعتبار.
إنها المصدر الأوثق.. لأنها فيما ترويه لنا من أخبار الماضي، لا يمكنها إلاّ أن تنقل الواقع كما هو.. وليس من طبيعتها أن تحابي أو تنحاز!
أو كما يقول "غوستاف لوبون": هي أفصح لسان يعبر عن الحقيقة بإخلاص.. وصحف الأحجار لا تعرف الكذب.. ولشهادتها في تاريخ التمدن أهمية عظمى" (1) .
اختلاف أكيد -إذن- بين ما تحكيه الآثار لنا.. وما تحكيه المدوّنات، أو يرويه الرواة.
للآثار انفرادها -كما ترى في إعطائنا الحقائق عن الأمس القديم، دون رتوش، وبلا تزيد، أو نقص، أو تحريف.
لقد استفاد التاريخ من علم الآثار، وبالتالي من الآثار نفسها: الآثار العديدة الضخمة التي اكتشفت منذ القرن الماضي، والتي ما زالت تكتشف ولعلماء الآثار الفضل في ذلك، ولغيرهم من الباحثين والمستطلعين والروّاد.
وقد كان من حظ هؤلاء العلماء، ومن حظ غيرهم من الباحثين -خاصة في الغرب- أن يلقوا من التشجيع، وفي كثير من الأحيان من العون المادي، ما قد كان له أثره في دعم جهودهم، وفي دفعهم إلى المضي قدماً في هذه الجهود.
وكانت حصيلة ذلك أن التنقيب عن الآثار. استمر سائراً في طريق معبدة. دون عوائق، أو مثبطات، فاكتشفت آثار، هنا وهناك، ألقت كثيراً من الضوء عن التاريخ القديم، وعن عدد من الحضارات ظل خبرها، حيناً من الدهر، في طوايا النسيان.
هذه إلمامة أردت أن أبدأ بها حديثي هذا السريع عن كتاب الأستاذ عبد القدوس الأنصاري الجديد "بين التاريخ والآثار".
ولعلّه مما يدعو إلى التقدير، أن يكون هذا الكتاب واحداً من كتب ثلاثة، ينشط لإخراجه في هذه السنة الأستاذ الأنصاري.
ولعلّه مما يستوجب التقدير أكثر، أن يكون هذا الكتاب ثمرة جهد شخصي مرموق، عاناه المؤلف، باحثاً بنفسه عن الآثار، في أكثر من مكان ثم إنه جهد بذله وعاناه باهتمام كبير منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كما يعرف الجميع.
يصفه مؤلفه في سطور فيقول: "هذا الكتاب "محصول" دراسات متوالية، للتاريخ والآثار، استمرت أمداً ينيف على ثلاثين عاماً.. بدأها المؤلف في المدينة المنورة. في شوارعها ومنازلها، ومساجدها وقصورها الثرية وجبالها ووهادها وحرارها، وأوديتها.. وبلغ بها السير إلى مكة المكرمة وجدة والطائف والرياض والخرج والدرعية وتيماء في المملكة العربية السعودية، والبحرين والكويت والأردن ومصر ولبنان في خارج المملكة". وقد عني المؤلف بصهر دراساته هذه المتشعبة في بوتقة دراسات مركزة هادفة وشاملة.
ويقول في مقدمته: ".. دعاني إلى اقتحام ميدان هذه البحوث العويصة التي لا يزال الغموض يكتنفها في كثير من أبعادها وحقائقها، دعاني إلى ذلك محاولة إبراز ذلك الإسهام الكبير الذي قامت به حضارة العرب في جاهلية وفي إسلام حيال الحضارة الإنسانية الشاملة".
"وإني بهذه المناسبة -أدعو بإخلاص وحرارة- علماء العرب والمسلمين إلى مزيد من هذه البحوث الأثرية التاريخية الكاشفة.. كما أدعو أيضاً إلى تخصيص وافر الأموال والجهود والرجال للبحوث الأثرية التنقيبية في أعماق أرضنا المعطاء، حتى تخرج لنا من ينابيعها الثرة كنوزها الثمينة المطمورة في باطنها.. على أن نقوم نحن أيضاً بهذه المهمة العلمية، غير معتمدين على اهتمامات غيرنا في هذا السبيل، اللَّهم إلاّ بالنصيب الضروري فيما لا بد منه من التعاون البشري العام على تقدم العلوم وتوسعة آفاقها، كما أدعو في الوقت نفسه إلى مزيد من البحث في بطون الكتب التاريخية والأثرية والعلمية والأدبية، باستخلاص حقائق تاريخنا القديم المبعثرة.
ومع المؤلف نمضي في مقدمته، ومنها ننتقل إلى حديثه في البحث الأول من الكتاب، عن جزيرة العرب، وأسبقية حضارتها في التاريخ!
في هذا البحث: "أضواء على تاريخ جزيرة العرب" يحدثنا المؤلف حديثاً ضافياً في هذا الموضوع.
إنه يحدثنا -ومعه أكثر من دليل- مؤكداً الرأي القائل: (إن جزيرة العرب هي مهد الحضارة العالمية).
لأنها المهد الأول للساميين عموماً، والساميون هم بناة هذه الحضارة، ويعقب على ذلك بقوله: "هذا ما يراه كثير من علماء الآثار، ولهم دلائل أثرية، ودلائل خبرية مقارنة ودلائل منطقية وطبعية على دعم هذا الرأي" (2) .
ومع أن كثيراً من الباحثين ما يزالون ينوهون بحضارة الإغريق، وبعضهم يشير في هذا الصدد إلى حضارة مصر باعتبار أنها أقدم الحضارات، إلاّ أنه يبدو أن الأرجح هو ما يشير إليه الأستاذ المؤلف -لا لمجرد الميل إلى هذا الرأي- بل لأن البحوث الأثرية المتتابعة هي التي تؤيد ذلك.
ويزيدنا المؤلف إيضاحاً هنا، إذ يقول: "وإذا أردنا أن نحدد المنطقة التي نشأت منها الحضارة فيما قبل التاريخ، والتي عرف فيها التعدين والزراعة والصناعة والتجارة، وسائر مقومات الحضارة قبل أي جزء آخر من أجزاء الدنيا القديمة، فلنا أن نقول، استناداً على أرجح أقوال الأثريين والجيولوجيين: إنها المنطقة التي توصل بين نجد والحجاز، وهي التي تكثر فيها المعادن، وهي التي اكتشفت فيها آثار المدن والقرى والتلال التي طمرت مدناً ومصانع ومقابر عريقة في القدم، من آثار أولئك الجبابرة بناة الحضارة الإنسانية الأقدمين".
وهنا نعود إلى الآثار.. لنذكر فضلها في هذا المضمار.
فهي التي أزالت القناع، وأبانت ما كان خافياً، عن فترة هامة، موغلة في القدم من تاريخ الجزيرة العربية!
والسؤال -إن كان لا بد من سؤال- ما الأسباب؟
الأسباب التي آلت بالحضارة الأم.. إلى أن تتراجع، وتندثر، ثم يهملها التاريخ المكتوب؟
إن لذلك حديثاً يطول.. حديثاً لم يدعه المؤلف دون إجابة، فما على القارئ المستزيد سوى أن يراجعه في موضعه من الكتاب (3) .
ويشير المؤلف في هذا البحث إلى كثرة الآثار وتنوعها في هذه البلاد، وهي آثار أمم استوطنت بها منذ التاريخ السحيق، ثم زادت هذه الآثار كثرة بعد ظهور الإسلام، وهو يصنف هذه الآثار تصنيفاً يحصرها في إطار محدد -كما يذكر- ومن هذه الآثار: الأماكن الدينية والتاريخية، والمقابر والهياكل والشواهد والأعلام، والبيوت والمنازل والقصور والآكام والحصون، ثم الزخارف والأدوات الحجرية والمناجم والمعادن، والسدود والعيون والصهاريج والبرك، ثم المصانع والمزارع والأدوات الصناعية والزراعية، والخطوط الأثرية المسطورة والمنقورة والكتب والحجج والوثائق.. وغيرها.
إنه معين لا ينضب للتاريخ الحضاري.. ما يزال في حاجة إلى مزيد من البحث وإلى مزيد من التنقيب.
ونمضي مع المؤلف بعد هذا البحث التمهيدي المستفيض لنستمع إليه في حديثه المتتابع عن الآثار في كل من مكة المكرمة وما حولها.. والمدينة المنورة وما حولها.. والرياض وجدة وما حولهما.. ثم في عسير وفي الشمال.. وفي فصله عن الآثار في الشمال يطرفنا بحديث ممتع عن "الحجر ومدائن صالح" وعن "بيوت مدائن صالح" وعن "موطن شعيب عليه السلام".
حديث شاهد عيان يغريك بمتابعته، ويغريك أكثر بالتأمل، وإمعان التفكير.
وفي حديثه قبل ذلك عن آثار المدينة وما حولها.. نمضي معه إلى حصن كعب بن الأشرف -المشهور في كتب السيرة- فيحدد موقعه بالضبط بعد معاينة وبحث.. ولا ينسى العقيق وما أدراك ما العقيق.. وما أشيد فيه من دور وقصور كان لها شهرة ودام لها ذكر.. قصر عروة بن الزبير.. قصر عبد الله بن عامر.. قصر مروان بن الحكم.. قصر سعيد بن العاص -وهو الوحيد الباقية آثاره إلى اليوم- وغيرها.. وغيرها..
قصور ودور.. يحدد مواقعها.. ومع قصور العقيق ودور العقيق نمضي إلى بساتين العقيق، وجماوات العقيق، وكان ابتداء عمرانه في حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم امتد هذا العمران في زمن عمر: "فأُنشئت فيه البساتين، والقصور تدريجياً فما كادت دولة بني أمية تستريح من القلاقل الداخلية حتى وجهت عنايتها إلى عمرانه فأصبح جنة سندسية خضراء" (4) .
وفيما حول المدينة أيضاً لا بد من وقفة مع المؤلف عند "الصويدرة" أو وادي الآثار الجميل (5) .
وحقاً إنه جميل.. جميل بآثاره (وقد صور المؤلف أكثرها وأثبتها في الكتاب) إن آثار الصويدرة العديدة من صور إنسانية وحيوانية ونقوش كتابية منقورة في صخورها، شاهدة على حضارة القوم!
ونمضي في صفحات أخرى.. إلى الأردن حيث نستمع إلى حديث المؤلف عن "كهف أهل الكهف" حديث باحث منقب، وشاهد عيان. ثم إلى حديثه عن "البتراء": المدينة الوردية الساحرة والرائعة.. كما اختار لها هذا الوصف.. والتي يقول عنها: "بالإمكان أن نعتبرها من أعظم مدن العالم التاريخية جمالاً، سواء في أيام إنشائها، وازدهارها، أما فيما بعد ذلك في آثارها وأطلالها.. ويقول عنها أيضاً: "تتمثل عظمة البتراء في دقة فن النحت، وفي التصوير، وروعة الهندسة المعمارية، مما قام به أولئك الأنباط العرب، الذين قدوا أبنيتها الفارعة الرائعة من الصخر الأصم الأشم" (6) .
وفي حديثه عن البتراء -وهو حديث شامل ومستقصٍ- ينوّه باسمها القديم "سلع"، إنه اسمها كما سماها بذلك ناحتو بيوتها ومنشؤوها من النبط، ويقول في ذلك شاعرنا فؤاد الخطيب من قصيدته عنها:
هي سلع، والبتراء ترجمة اسمها
نسجت عليه عناكب الإهمال
والحق أن حديث المؤلف عن البتراء.. حديث مغرٍ.. ها هو في وقفته أمام قصرها المعروف بالخزنة، والذي ما يزال براقاً كما كان -يصف لنا هذا الوصف الرائع.
"كنا أمام "الخزنة" مشدوهين بعظمة فن النحت العربي القديم، وبجمال قوام المبنى، وبرشاقته، وتماوج الألوان الطبيعية فيه، بما يفوق الوصف، ويفوت على الاستيعاب، ومع أن الخزنة في ألوانها المتشابكة هي طبيعية، فلكأنها قطعة فنية استعمل فيها الفنان عشرات الألوان الممتزج بعضها ببعض، ويتجسد كل هذا الجمال الفني في الخزنة عندما تشرق ذكاء.. على وجهها الوردي المشرق.. فتستحيل حمرتها الوردية إلى حمرة خد الحسناء الجميل، في الصبح المتفتح الجميل!".
إلى أن يقول:
"وبعد الخزنة شاهدنا المبنى المعد للرقص وهو دكة واسعة، وبها بعض الجدران التي بنيت بالجنادل، وقد اخترقت بعضها شجرة "البطم" والبطم شجرة ضخمة الساق، منحنية إلى الأمام، وأوراقها غير كبيرة، وتميل إلى الاخضرار، وقيل لنا إن لها من العمر 1800 عام".
وفي لمحات عن تاريخ البتراء، يقول: "وقد تمكّن الأنباط من مد رواق ملكهم إلى شرق وغرب، وإلى جنوب وشمال، وضربوا النقود الذهبية والفضية، وأقاموا دولة ذات كيان مستقل لها كل مقومات الدولة المنظمة.. وكذلك بنوا المراكب البحرية، واستقبلوا القوافل البرية والتجارية المحملة بمختلف السلع من مختلف أقاصي البلدان، وكان لهم خطهم الذي به يتكاتبون، ومن خطهم اشتق عرب الجاهلية الأخيرة في مكة المكرمة هذا الخط العربي الذي نكتب به اليوم".
"ومما يدلنا على عروبتهم: أسماء ملوكهم فمنها الحارث الأول، ومالك الثالث الذي كان يعاصر الإمبراطور الروماني الطاغية "نيرون" محرق روما.. ومنها أيضاً: "رئبال" والرئبال في اللغة العربية من أسماء الأسد" (7) .
وبعد، فماذا بقي من حديث عن كتاب "بين التاريخ والآثار"؟
إنه من الواجب أن أقول: إن مجال الحديث عنه ما يزال متسعاً.. وما يزال في حاجة إلى إتمام.
بقية من حديث أشعر أنه كان لا مندوحة عنها، نتابعها مع صفحات أخرى من الكتاب.
كان لا بد من أن نقف عند الفصل الذي تناول فيه المؤلف آثار مكة وما حولها، وخاصة عند حديثه في هذا الفصل عن سوق عكاظ.. وحديثه المفصل عن قبيلة بني سليم، وأخبارها وآثارها.
وكان لا بد أيضاً من وقوف عند سورية ولبنان، وقد تحدث عنهما المؤلف حديثاً نابضاً وممتعاً.
وكان لا بد من أن أشير إلى عشرات من الصور لآثار منها المعلوم، ومنها المجهول زينت بها صفحات الكتاب.
غير أن المجال بطبيعته محدد هنا فلنؤثر الوقوف بعد هذه الجولة في الكتاب، عند مدينة السحر والجمال!
عند سلع.. أو البتراء!
المدينة التي لها تاريخ.. لا نتلوه في صفحات الكتب، بل ترويه لنا في صورة أعمق تعبيراً "صحف الأحجار التي لا تعرف الكذب" كما يقول "غوستاف لوبون"!
إنه تاريخ مشرف لحضارة عريقة سامقة، أرخى عليها الزمن ستار النسيان!
إنه تاريخ من الآثار.
أفيحق لنا أن نقول: أخلق بنا أن نقرأ تاريخنا آثاراً.. هي أفصح دلالة، وأبلغ إيحاء، وأحفل ببواعث التأمل، ومشاعر الاعتزاز!
نعم "وبين التاريخ والآثار" أخلق بنا أن نقف لنتذكر.. كلما طاب لنا، أو أتيح لنا أن نقف -لنتذكر- بين التاريخ والآثار.. وتحية لكتاب يحمل هذا العنوان.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :437  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 41 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.