شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رَجلٌ وتَاريخ
بدأ حياته في الهند؛ مكافحاً ومجاهداً من طراز فريد: قوي الشكيمة؛ صادق العزم؛ مستميتاً ومخلصاً في دفاعه عن الإسلام!
كان ذلك في وقت من أشد الأوقات عنفواناً بالنسبة للمسلمين.. كان جهاد هذا الرجل، ودفاعه المستميت إيذاناً بأن المعركة مع الاستعمار الزاحف لن تكون هينة وسهلة، وإنما دونها أشواك.. وفي طريقها صعاب، ومن حواليها ومن ورائها ومن أمامها جحافل المبشرين.
ولم يكن توافد المبشرين في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الإسلام في الهند سوى نقطة البداية، أو التمهيد لاحتلال الهند احتلالاً نهائياً مباشراً، ومن ثم ضمها إلى التاج البريطاني.
وقد رأينا الاستعمار الغربي الصليبي في كل عهد من عهوده.. منذ بدأ يغزو الشرق الإسلامي، وجل اهتمامه منصرف؛ سواء قبل أو بعد أن يجيء -بالتبشير والمبشرين.
المبشرون هم رسله وخدمه وحواريوه.. والهدف من إيفادهم -كما نعرف- أن ينسلخ المسلمون من عقيدتهم ودينهم. نعم منذ أن وضح جلياً لدهاقنة الاستعمار أَن هذا الدين وهذه العقيدة هما العقبة الكأدآء في طريق نفوذهم وسيطرتهم على البلاد الإسلامية.
وبالرغم مما اعتاد أن يلقاه المبشرون في أكثر الأحوال من فشل ذريع لمحاولاتهم، فلم يكن اليأس يتسرب إلى نفوسهم أبداً.. شأن كل جماعة أو جهاز له خط مرسوم.. أو له غايات وأطماع يستهين من أجلها بكل العراقيل!
وفي تلك الفترة -منتصف القرن التاسع عشر- كان قد تفاقم أمر هؤلاء المبشرين، وضاق العلماء ذرعاً وهم يرون الدعوة النصرانية تمضي في طريقها، تحاول ما استطاعت أن تجتذب إليها ضعاف النفوس، فكان لا بد لهم من أن يقرروا أمراً، ويتخذوا موقفاً تجاه هذا التيار الكاسح يأتي من قبل التبشير.. فما كان منهم إلاّ أن وقفوا جميعاً -ولأول مرة- نعم لأول مرة وقفوا وقفة رجل واحد يقاومون رجال التبشير، ليس بالقتال طبعاً، فما كان هذا بالأمر الممكن، وإنما كانت مقاومتهم سلمية تمليها الحكمة ويوحيها المنطق عن طريق الحوار تارة، ثم عن طريق الرسائل يؤلفونها في الرد على شبهاتهم ومفترياتهم تارة أخرى.
وكان العلامة الشيخ محمد رحمة الله بن خليل الرحمن العثماني على رأس هؤلاء العلماء، حيث قام، بعد أن نشر العديد من الردود بعقد مناظرة علنية مع أكبر رؤسائهم المدعو "فاندر" وتم ذلك في مدينة "أكبر أباد" في شهر رجب سنة 1270هـ وحضر هذه المناظرة الشهيرة جم غفير من الناس، منهم القضاة والمفتون، ومنهم كبار رجال الدولة من الإنكليز وكتاب دواوينهم بالهند، واستطاع الشيخ الجليل محمد رحمة الله ومنذ أول جلسة أن يفحم مناظره العنيد.
ولم يتحمل "فاندر" الصدمة.. فما كان منه إلاّ أن أعلن امتناعه عن الاستمرار في المناظرة بعد أن تبين له عدم إمكان متابعتها بسبب ما أوضحه الشيخ من أدلة وبراهين أمام الحاضرين، كان من نتيجتها اعتراف "فاندر" بتحريف الأناجيل!
وكبر على المستعمر أن تحدث هذه الهزيمة لدعاته من المبشرين أمام الملأ.. فما كان منه إلاّ أن شدد قبضته وزاد من اضطهاده للمسلمين في الهند، وكان رد الفعل لذلك، بطبيعة الحال، قيامهم بثورتهم بعد أن طفح الكيل سنة 1273هـ وهي الثورة المعروفة بثورة 1857م.
وفي هذه الثورة كان للشيخ رحمة الله دوره القيادي، لقد وقف فيها وقفة رجل مؤمن شجاع لم يضعف ولم يجبن، بل شارك بنفسه مع الثائرين، وقاد المجاهدين في مدينة "كيرانة" إحدى مقاطعات الهند، يساعده الرئيس عظيم الدين الذي هاجر فيما بعد إلى مكة ومات بها.
وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد سليم رحمة الله في كتابه الذي أرخ فيه لسيرة جده: "... ولم تكن مع المجاهدين أسلحة صالحة للقتال، ومع ذلك فقد دخلوا الميدان اعتماداً على الله دفاعاً عن أنفسهم وعن دينهم.. ولقد هزم المسلمون الذين كانوا يدافعون في "كيرانة" ولم تكن الهزيمة إلاّ لسبب خيانة من بعض أَبناء الوطن، ودخل الجيش الإنكليزي "كيرانة" بأسلحته الثقيلة وحاصر حي دربار "القصر الملكي" وفتش الإنكليز بيوت الناس بيتاً بيتاً لأن الجواسيس أخبرتهم باختفاء الشيخ رحمة الله في بيت من بيوت هذا الحي، وكان الشيخ قد أختفي بعد الهزيمة مع رفقائه الباقين في قرية مجاورة لكيرانة كان يسكنها المجاهدون المسلمون".
وبلغ الأمر بالإنكليز بعد هذه الهزيمة الأليمة أن طالبوا برأس الشيخ، فما كان منه بعد ذلك، وبعد أن صادروا أمواله وعقاراته إلاّ أن يشد رحاله إلى أم القرى مثوى الإسلام، وملاذ المسلمين، ليبدأ فيها مسيرة جديدة.
وفي عام 1274هـ وصل الشيخ إلى مكة المكرمة، وألقى عصاه بها، واستقر به النوى، ولم يخلد إلى الراحة بعد الذي بذله من كفاحه المرير العنيف في مقاومته للمبشرين في الهند وفي صراعه مع الإنكليز.
وإنما شرع يعمل في ميدان آخر جديد: ميدان التربية والتعليم.
لقد بدأ يباشر التدريس في المسجد الحرام، وصادف أن طلب السلطان العثماني "عبد العزيز" من أمير مكة آنذاك "الشريف عبد الله بن محمد بن عون" أن يستفسر من الحجاج الواردين عن حقيقة مناظرة الشريف رحمة الله، التي جرت في الهند، مع رئيس المبشرين، وعن الصدام الذي وقع فيما بعد مع الإنكليز فأجابه الشريف عن وجود الشيخ رحمة الله بمكة المكرمة فطلب السلطان حضوره إلى القسطنطينية لمناظرة وانتهى به مطافه إلى عاصمة العثمانيين حيث أرسلت الكنيسة إليها عضواً في بعثة تبشيرية لنشر النصرانية بها، وفي القسطنطينية أشاع أَن العلماء المسلمين في الهند قد فشلوا في المناظرة، وانهزموا في المقاومة، وانتصرت النصرانية على دين الإسلام -ولذلك قبل المسلمون في الهند تغيير دينهم إلى الديانة النصرانية...
ولما سمع السلطان عبد العزيز هذه الإشاعة اندهش واضطرب وخاف من تأثيرها على المسلمين، لذلك أراد معرفة الحقيقة من الذين حضروا وشاهدوا... وحينما وصل الشيخ رحمة الله إلى القسطنطينية وسمع عن وصوله فاندر ترك البعثة التبشيرية، وفر هارباً.. وتقديراً من السلطان للشيخ رحمة الله لجهاده في مقاومة النصرانية أنعم عليه بالخلعة السلطانية، وأكرمه بالوسام المجيدي، وجعل له راتباً شهرياً لم يقبله الشيخ ثم طلب منه تأليف كتاب يضم المسائل المتنازع عليها بين المسلمين والنصارى، كما طلب منه أيضاً تأليف هذا الكتاب على عجل خير الدين باشا التونسي رئيس الوزراء فألف كتابه الشهير "إظهار الحق" في ستة أشهر بدأت من رجب سنة 1280هـ.
وخلال إقامة الشيخ في القسطنطينية التقى بكثير من العلماء والفضلاء، وتبادل معهم الأفكار في شتى الموضوعات.. وأحس أثناء أحاديثه معهم أن الثقافة الغربية تغزو المسلمين في عقر دارهم، وأن كثيراً من الناس انخدعوا بمظاهرها البراقة الخادعة وكان من نتائجها الخطيرة إنكار البعث.. فرأى من الواجب عليه تأليف كتاب يؤكد حقيقة البعث، فألف كتابه "التنبيهات في إثبات الاحتياج إلى البعث والحشر" وفرغ منه في شهر جمادى الآخرة سنة 1281هـ وأمر بطبعه رئيس الوزراء خير الدين باشا، وهذا الكتاب متداول في مصر على هامش "إظهار الحق".
ثم يستأذن الشيخ من السلطان في الرجوع إلى مكة ليعود إلى التدريس في المسجد الحرام، كما كان من قبل فيأذن له ويودعه بنفسه ويؤوب إلى أم القرى معززاً مكرماً من قبل السلطان، ويستأنف مرة أخرى دروسه، وفي هذه الآونة؛ وفيما هو مثابر على دروسه في المسجد وقد التف حوله عشرات من طلابه ومريديه من النخبة من علماء الحرم إذا بفكرة جديدة تطوف برأس هذا الرجل، فكرة جديدة نيّرة، ليس شك في أنه كان من تمام توفيق الله لهذا الرجل، وكمال رعايته للبلد الأمين، أن هيأها في خاطره ومن ثم يتولى هو بنفسه تنفيذها.. لقد فكر في مشروع جليل هو إنشاء مدرسة إسلامية نظامية في مكة تشبه ما هو موجود في الهند وفي البلاد من مدارس لا تقتصر على العلوم الدينية فقط بل تضيف إليها علوماً أخرى لها صلتها بالحياة العملية.
وبعد تفكير وتدبير واجتماعات مع بعض المهاجرين من أهل الهند قرر البدء بالتعليم في المرحلة الابتدائية، ووجه نداء يدعو فيه إلى مساندة هذا المشروع في غرة رمضان سنة 1290هـ.
وتسوق العناية الإلهية في نفس السنة إحدى سيدات الهند الثريات وهي "صولت النساء" إلى مكة لأداء الحج، وكانت تنوي بناء رباط للمسافرين من الحجاج على عادة أهل الخير في الحرمين، ولكنها آثرت بعد أن استشارت الشيخ رحمة الله في هذا الأمر، وأشار عليها بما هو رآه أفضل وأنفع.. آثرت أن تبني داراً لنشر العلم، فكانت هذه الدار هي المدرسة النظامية الأولى في مكة، والتي أطلق عليها اسم "السيدة صولت" واشتهرت بالمدرسة الصولتية!
ومن ذلك التاريخ بدأت المدرسة الصولتية مسيرتها.. وكان لها أثرها الملحوظ في إنعاش الحركة العلمية في مكة؛ وبدأ المتخرجون منها يتتابعون على توالي السنين، وكان منهم نخبة رجال العلم الديني ممن شغلوا مناصب الأمانة والخطابة والتدريس والقضاء خلال القرن الرابع عشر الهجري.
وإلى اليوم وبعد أن مضى على تأسيسها أكثر من مائة عام ما تزال المدرسة الصولتية في عاصمة الإسلام؛ مثابرة في أداء رسالتها، تبث العلم، وتنشر المعرفة، متخطية كل الصعاب.
وفي عام 1308هـ توفي الشيخ رحمة الله، فتسلم إدارة المدرسة الصولتية حفيد أخيه الشيخ محمد سعيد رحمة الله، واستمر إلى أن توفي عام 1357هـ ثم تسلمها بعده ابنه الشيخ محمد سليم إلى أن توفي عام 1397هـ.
* * *
وبعد فهذا هو الشيخ محمد رحمة الله بن خليل، وهذا هو تاريخه الحافل، أول من خاض في وقت مبكر، معارك التبشير وانتصر فيها، ثم كان على رأس المجاهدين في حركة استقلال الهند، وضحى ما ضحى من أجل ذلك ثم كانت هجرته فيما بعد إلى مكة خيراً وبركة لهذا البلد.. إذ بدا منذ أن حل بها جهاده الآخر. جهاده من أجل العلم، ونشر العلم، وكان رائداً بحق في هذا الميدان (1) !
وحسبه من آثار جهاده الأول في مقاومة التبشير في الهند كتابه العظيم "إظهار الحق" والذي ما زالت تعاد طبعاته إلى اليوم ثم حسبه من آثار هجرته المباركة إلى أم القرى هذا الأثر الباقي على الزمن: "المدرسة الصولتية".
المدرسة الصولتية، ما أروع أن نراها تتحول إلى كلية العلوم الإسلامية تؤدي مهمتها على نطاق أوسع، وتستمر كما أراد مؤسسها رحمات الله عليه: منارة تهدي السائرين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :486  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 32 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.