شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عمر بن الخطاب
والضمان الاجتماعي
-1-
من الكلمات التي شاعت كثيراً في هذه الأعوام الأخيرة: كلمة "الضمان الاجتماعي" وقد أصبح لهذه الكلمة مدلولها الخاص اليوم، فهي تعني أن الدولة في هذا العصر يعتبرها الناس مسؤولة عن رعاياها في نطاق أوسع مما كانت عليه هذه المسؤولية في العهود الغابرة.. وأن عليها واجب السعي لتحسين وتسهيل معيشة هؤلاء الرعايا بصورة عامة، وليس هذا فحسب بل أن على الدولة أن تؤمن لكل فرد قادر على العمل عملاً.. إذا لم يستطع هو نفسه أن يؤمن ذلك العمل.. -وبهذا وحده- يمكن أن يتاح للدولة -أياً كانت- أن تقضي على ما يسمونه (الفقر) أو (العوز) أو بعبارة أخرى، يمكنها أن تقضي على عدو الإنسانية رقم (1)؛ وبهذا أيضاً لا يمكن أن يشعر أي فرد من المواطنين أنه "كمية مهملة" في المجتمع الذي يعيش فيه؛ أو أنه عالة على هذا المجتمع، أو أن هذا المجتمع قد اضطره إلى أن يسأل الناس الآخرين. فإن شاؤوا أعطوه وإن شاؤوا حرموه..
وأما غير القادرين.. أو بتعبير آخر؛ أما العاجزون عن أن يقوموا بأي عمل ما؛ لأي سبب من أسباب الشيخوخة أو المرض، وأما غيرهم وغيرهم من الأرامل واليتامى، وكل من ليس له أي إيراد يكفيه شر الحاجة؛ فهؤلاء جميعاً تكفلهم الدولة بما لها من حق السلطة على الأموال العامة، وبما عليها من الواجبات والالتزامات نحو كل فرد وكل جماعة من أفراد الأمة وجماعاتها...
فكرة الضمان الاجتماعي هذه.. لنا أن نقول عنها إنها (حدَث جديد) بالنسبة لعالم اليوم، والواقع أن هذه الفكرة في معناها المفهوم هذا، لم تبرز أكثر ما برزت إلاّ من خلال أحداث الحرب العالمية الثانية، وعلى الخصوص عندما ظهر في بريطانيا "مشروع بيفردج" المشهور وهو مشروع يهدف إلى التأمين الاجتماعي بكل ما أصبحت ترمي إليه هذه الكلمة. ومعلوم أنه في أعقاب تلك الحرب، وعندما بدأ النزاع يشتد بين المعسكرين الديمقراطي والشيوعي، أخذت كلمات "الضمان الاجتماعي" و "التأمين الاجتماعي" و "العدالة الاجتماعية" تتوغل في أذهان الجماهير وكان من ضمن مقررات هيئة الأمم المتحدة -كما هو معروف- أن أصبح لها قسم خاص بالأمور الاجتماعية والدراسات الاجتماعية، وتبارت معظم الحكومات في هذا الميدان، فأنشأت كل منها في بلادها وزارة خاصة للشؤون الاجتماعية...
ولقد سبقت مصر في عهد ما قبل الثورة.. غيرها من أقطار البلاد العربية فوضعت أضخم مشروع للضمان الاجتماعي في عام 1951 على يد وزيرها الشاب في حكومة الوفد الدكتور أحمد حسين.
ويتضمن مشروع الضمان الاجتماعي المصري تخصيص رواتب للأرامل والأيتام والعجَزة إلى جانب توفير العمل للقادرين، وفي صحف مصر الصادرة في شهر فبراير 1952 أن وزارة الشؤون قد شرعت في تطبيق هذا المشروع في مدينة القاهرة بعد أن سبق أن عممته في العام السابق في جميع أنحاء القطر، وبذلك يكون هذا المشروع قد شمل القطر المصري جميعه بدون استثناء (1) ...
* * *
قلت في أول هذا المقال إن فكرة الضمان الاجتماعي هذه إنما هي (حدَث جديد) بالنسبة لعالم اليوم وأنا أعني بعالم اليوم؛ هذا العالم الذي يقول عن نفسه أنه العالم المتحضر أو العالم المتمدن، أو العالم الذي بلغ فيه الفكر والعلم أقصى المراحل في التقدم والارتقاء..
ولكن.. هل فكرة الضمان الاجتماعي تعتبر حدثاً جديداً كذلك بالنسبة للتاريخ الإنساني؟ أو بالنسبة لتاريخ العرب وتاريخ المسلمين؟
إن هذا التاريخ يقول بأفصح العبارات: كلا! ليست فكرة الضمان الاجتماعي حدَثاً جديداً في هذا العالم، بل ليست فكرة الضمان الاجتماعي شيئاً تمخضت عنه عبقرية العصر الحديث، وإنما فكرة الضمان الاجتماعي فكرة مسبوقة...
ولقد جاءت أول ما جاءت عن طريق الإسلام! وكان عمر بن الخطاب خليفة المسلمين العبقري العظيم أول من أتيحَ له بعد أن اتسعت رقعة الإسلام -أن يقوم بتحقيق أول مشروع للضمان الاجتماعي.. بطريقة فذة مثالية وفي أسمى صورة عرفها تاريخ الإنسان.
إن الإسلام هو الذي أوجد لأول مرة في تاريخ العالم، فكرة الضمان الاجتماعي. "وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" والإسلام -ولا فخر- هو الذي جعله (حقاً) وليس (إحساناً)... وكان الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه يتولى تطبيق ذلك على أكمل وأدق ما ينبغي أن يكون، وعلى مثل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، سار خليفته الأول أبو بكر الصديق...
وفي العهد النبوي الكريم، وفي عهد خليفته الأول رضي الله عنه كان كل شيء يجري بسيطاً.. لأن الدولة لم تتسع بعد... من أجل هذا لم تكن هنالك أية نظم أو أية قواعد لتدوين ما يرد من أموال الدولة، ثم تدوين أنواع النفقات، فلما جاء عهد عمر.. وازدادت الفتوح واتسعت الدولة واحتاجت تبعاً لذلك إلى أن تضع لنفسها من الأنظمة الجديدة ما يتلائم وحياتها الجديدة.. رأى هذا الخليفة العظيم أن يساير هذه الروح، وأن يضع الأسس لهذه الدولة الإسلامية الناشئة، فما هو إلاّ أن بدأ أول ما بدأ بإنشاء الدواوين على مثال ما كانت عليه في بلاد فارس والروم، وما هو إلاّ أن منع تمليك الفاتحين المسلمين أراضي البلدان المفتوحة وصمم أن تكون هذه الأراضي تابعة لأصحابها الأصليين على أن يؤدوا لبيت المال خراجاً سنوياً. لماذا كل هذا؟ لكي ينشئ للدولة الإسلامية نظاماً مالياً ثابتاً مرتكزاً على دعائم قوية..
كان هذا الإجراء المالي الخطير من جانب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول مادة رئيسية مما أخذ على نفسه أن يرسي قواعده للمسلمين من برنامج يحقق كل ما تنطوي عليه كلمة ضمانة اجتماعية!!
أجل.. لم يكن تدوين عمر للدواوين، وتأريخه للتاريخ، وتحريمه تمليك الأراضي المفتوحة وإصراره على إبقائها يعمل عليها أصحابها لكي تستفيد المالية من خراجها السنوي الوفير. لم يكن كل ذلك إلاّ تمهيداً لقيامه بأول عمل ضخم في ميدان التأمين الاجتماعي على أرسخ القواعد والنظم مستلهماً في ذلك تعاليم الإسلام وما سبق أن بدأ به الرسول وتابعه فيه خليفته الأول أبو بكر الصديق.
إن التاريخ ليسجل بمداد الفخر والإعجاب أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أول من وضع نظاماً كاملاً للضمان الاجتماعي، على أساس تعاليم الإسلام، وكان أسلوبه البالغ المدى من حيث الدقة والرأفة والحزم في تطبيقه لهذا النظام الكامل، من أروع ما تحدث به الناس في الشرق والغرب على مر العصور.
-2-
كانت المادة الأولى من مواد هذا النظام إنشاء الدواوين وتقييد أسماء الناس.. وفرض العطاء لهم جميعاً، على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم، فلم يدع عمر جماعة من المسلمين إلاّ وفرض لهم من هذا العطاء، وكانت قاعدته تقديم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل السابقة في الإسلام فبدأ بأمهات المؤمنين -أزواجه صلى الله عليه وسلم- فكتب لهن في عشرة آلاف درهم، وجعل عطاء عائشة رضي الله عنها اثني عشر ألفاً.. ولعلي بن أبي طالب خمسة آلاف، ومثل ذلك لمن شهد بدراً من بني هاشم.. ثم أتبعهم بمن شهد بدراً من المهاجرين والأنصار وفرض لكل منهم خمسة آلاف درهم في كل سنة، حليفهم ومولاهم معهم بالسواء، وفرض لمن كان له إسلام كإسلام أهل بدر ومن مهاجرة الحبشة ممن شهد أُحُد أربعة آلاف، وفرض لأبناء البدريين ألفين إلاّ حسناً وحسيناً فإنه ألحقهما بأبيهما، ففرض لكل واحد منهما خمسة آلاف وفرض لمن هاجر قبل الفتح لكل رجل منهم ثلاثة آلاف درهم، ولمسلمة الفتح لكل رجل منهم ألفين، وفرض لغلمان أحداث من أبناء المهاجرين كفرائض مسلمة الفتح، وفرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف، وهنا يعترض ابن الخليفة عبد الله بن عمر يقول لأبيه:
"فرضت لي في ثلاثة آلاف، وفرضت لأسامة في أربعة آلاف، وقد شهدت ما لم يشهد أسامة".. فيقول عمر: "زدته لأنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك! وكان أبوه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك!!" (2) .
وهكذا يمضي عمر في تعميمه لهذا العطاء. فيفرض لباقي طبقات الأمة على منازلهم وقراءتهم القرآن، وجهادهم ثم يجعل من بقي من الناس بعد هؤلاء باباً واحداً، فيلحق من جاء من المسلمين بالمدينة في خمسة وعشرين ديناراً لكل رجل، ويفرض لآخرين معهم، ويفرض لأهل اليمن وقيس بالشام والعراق، لكل رجل ما بين ألفين، إلى ألف إلى تسعمائة، إلى خمسمائة، إلى ثلاثمائة ولم ينقص أحداً عن ثلاثمائة ثم يقول: "لئن كثر المال لا فرضنْ لكل رجل أربعة آلاف درهم" (3) وكان للنساء المهاجرات جميعهنّ نصيبهن من هذا العطاء إذ فرض عمر لكل منهن ثلاثة آلاف درهم، وكتب له عمال أهل العوالي، فكان يجري عليهم القوت (4) وكان يفرض للمنفوس مائة درهم فإذا ترعرع بلغ به مائتي درهم فإذا بلغ زاده.. وكان إذا أُتي باللقيط فرض له مائة. وفرض له رزقاً يأخذه وليه كل شهر بقدر ما يصلحه ثم يزيده من سنة إلى سنة، وكان يوصي بهم خيراً، ويجعل رضاعهم ونفقتهم من بيت المال (5) .
وفي فتوح البلدان للبلاذري: أن عمر بن الخطاب، كان يحمل ديوان خزاعة حتى ينزل قُديد فتأتيه بقديد فلا تغيب عنه امرأة بكر ولا ثيب، فيعطيهن في أيديهن.. ثم يروح فينزل عسفان فيفعل ذلك أيضاً حتى توفي.
وجاء إلى خالد بن عرفطة العذري، فسأله عمر عما وراءه، فقال خالد: تركتهم يسألون الله لك أن يزيد في عمرك من أعمارهم!! ما وطئ أحد القادسية إلاّ وعطاؤه ألفان، أو خمس عشرة مائة وجريبين في كل شهر، قال عمر: "إنما هو حقهم وأنا أسعد بأدائه إليهم لو كان من مال الخطاب ما أعطيتموه.. ولكن قد علمت أن فيه فضلاً فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء ابتاع منه غنماً، فجعلها بسوادهم، فإذا خرج عطاؤه ثانية ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها، فإن بقي أحد من ولده كان لهم شيء قد افتقدوه فإني لا أدري ما يكون بعدي. وأني لأعم بنصيحتي من طوقني الله أمره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من مات غاشاً لرعيته لم يرح ريح الجنة!!.
أجل.. هكذا عمر.. إن ما أعطاه للمسلمين إنما هو حقهم: وأنه أسعد بأدائه إليهم.. ثم ماذا أيضاً؟ إنه يرى أن في هذا العطاء زيادة عن حاجتهم، فيود لو أنهم يعملون على استثمار ما يزيد عن حاجتهم، من عطائهم ليبقى لأولادهم من بعدهم.. بمثل هذه الروح المثالية كان عمر يهتم بأمر المسلمين؛ وبمثل هذا العطف الخالص كان يطبق ضمانه الاجتماعي في غير منّ وفي غير استعلاء.. فأي ضمان اجتماعي حديث يرتفع إلى مستوى ذلك الضمان الاجتماعي العمري؟! بل أي حقوق للإنسان -في عصر يتبجح فيه المتبجحون بإعلان حقوق الإنسان- يمكننا أن نقول عنها إنها حقوق معترف بها تماماً، كما كانت عليه الحال في عهد عمر بن الخطاب.
-3-
وفي الواقع أن كل ما شوهد في السنوات الأخيرة، من مشروعات مختلفة للضمان الاجتماعي على ما اشتملت عليه من تنظيم دقيق وما اتسمت به من روح الرغبة في القضاء على الحرمان في الواقع أن كل هذه المشروعات لا يمكن أن يقال عنها أنها تشبه في قليل وكثير ما سبق أن حققه في هذا المجال (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه. قبل أربعة عشر قرناً من الزمان.. ونظرة واحدة مقارنة إلى الضمان الاجتماعي لعهد الفاروق العظيم، وإلى المشاريع الضمانية اليوم، ترينا أي ضمان مثالي كان ضمان عمر.. وأي بون شاسع بينه وبين هذه الضمانات العصرية!
بل أية مثالية أروع من هذا الذي أتاه عمر -في القرن السابع للميلاد- من إغداق عطائه، حتى للمنفوس، حين يفرض له مائة درهم فإذا ترعرع بلغ به مائتي درهم، فإذا بلغ زاده.. وهكذا؟
بل أي عطف إنساني أبلغ من أن يذهب الخليفة بنفسه إلى القرى البعيدة، حاملاً معه سجلات العطاء، فلا تغيب عنه امرأة، بكر ولا ثيب. فيعطيهن في أيديهن، دون أن يفكر في أن يعهد بذلك إلى "باحث اجتماعي" أو إلى أي نوع من أنواع الموظفين المختصين.
حتى أهل الذمة شملهم عطاء عمر.. مرّ بشيخ منهم يسأل على أبواب المساجد، فقال له: ما أنصفناك، أخذنا منك الجزية في شبيبتك وضيعناك في كبرك، ثم أجرى عليه من بيت المال ما يقوم بأمره.
وهذا العطاء المنظم الشامل؛ أتراه كان كافياً في نظر عمر لكي ينام ويستريح؟!
الحق أن عمر لو أراد أن يقف عند مجرد إنشائه لديوان العطاء، وفرضه لما فرضه من عطيات شملت القاصي والداني مع ما صاحب ذلك من رقابة شديدة صارمة كان يتولاها هو دون أن يكل أمرها إلى غيره، الحق أنه لو أراد أن يقف عند مجرد فرضه للعطاء، ومراقبته لتطبيقه لكان بإمكان التاريخ المنصف أن يقول كلمة مدويّة: "إن عمر قد أدَّى واجبه كاملاً غير منقوص نحو ربه ونحو رعاياه أجمعين..".
غير أن عمر؛ في شدة حساسيته ويقظته، وإدراكه التام لحقيقة ما يمكن أن يقع من خلل وإهمال في كل مجتمع مهما كانت النظم القائمة دقيقة، ومهما كانت الرقابة على تنفيذها دقيقة، إن عمر -وهو هذا الرجل- ما كان يمكن أن يكفيه كل هذا العمل الضخم وما كان يمكن أن يكفيه أن يقول عنه التاريخ ما يقول.. إن عمر ما كان يمكن أن يكفيه أن يضع نظاماً، ثم يسهر على مراقبته تطبيقه فحسب.. إنما يريد عمر شيئاً عظيماً وراء هذا كله يريد أن لا يبقى في رعيته ذو حاجة، ولا يبقى فيها محروم.. إن عمر ليشعر من أعماق نفسه أنه مسؤول عن كل فرد من أفراد هذه الرعية، بل أكثر من ذلك، مسؤول حتى عن الحيوانات التي في حوزة هذه الرعية. فأي شيء وراء هذا إلاّ التعب والعرق والدموع، وأي شيء وراء هذا إلاّ أن يسهر الليل والناس نائمون؛ وأي شيء وراء هذا إلاّ أن يجعل من أوليات أعماله أو أخريات أعماله في كل ليلة أن يتجول في المدينة، لا يدع ناحية من نواحيها دون أن يمر بها لعلّه يجد محروماً نسيه الخليفة، فما خصه بنصيبه من العطاء، أو لعلّه يجد ذا حاجة، لم يكفه نصيبه من العطاء فيمده بما يكفي حاجته، أو لعلّه ولعلّه..؟؟
ولعلّ حادث تلك المرأة وصبيانها وإسعاف عمر إياهم في ليلة من تلك الليالي، لعلّ ذلك الحادث من أشهر ما سجله التاريخ لعمر.. وما أكثر ما سجله التاريخ لعمر من نظائر لهذا الحادث النبيل!
ومن هذه الحوادث أيضاً: أن طلحة رأى عمر خارجاً في سواد الليل فتتبعه مستخفياً فدخل عمر بيتاً ورجع فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت وإذا بعجوز عمياء مقعدة.. فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ مدة طويلة، يأتيني بما يصلحني إلى آخر ما قالت.. فقال طلحة، ثكلتك أمك يا طلحة أعثرات عمر تتبع؟!
ولقد أشرنا إلى ما فرضه عمر من عطاء للمنفوس.. فاقرأ هذا الحادث، وهو يدلنا على السبب الذي جعل عمر يفرض هذا العطاء:
سمع عمر بكاء طفل آخر الليل، فأتى أمه فقال: إني لأراك امرأة سوء؛ مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة؟ قالت يا عبد الله: قد أضجرتني منذ الليلة، إني أريضه على الفطام، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض لرضيع، وإنما يفرض للفطيم، قال عمر: وكم له؟ قالت: اثنا عشر شهراً، قال: لا تعجليه وذهب فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء عليه، فلما سلم قال: "يا بؤساً لعمر كم قتل من أولاد المسلمين!..." ثم أمر فنادى أن لا تعجلوا أولادكم عن الفطام فأنا نفرض لكل مولودٍ في الإسلام وكتب بذلك إلى الآفاق كافة..
ومما قاله رضي الله عنه وكان ذلك في آخر سنة من خلافته: "إن عشت لأسيرن في البلاد حولاً فأقيم في الشام ومصر والبحرين والكوفة والبصرة وغيرها، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع عني، أما هم فلا يصلون إلي وأمّا عمّالهم فلا يرفعونها إليّ"..
وفي عام الرمادة حين أجدب الناس وجاعوا من قلة المطر، رآه الناس لا يأكل الزيت حتى تغير لونه وكان يمد الأعراب بالإبل والقمح والزيت حتى محلت الأرياف كلها وقام عمر يدعو لهم أن يرزقهم الله فاستجاب الله له، فقال حين نزل الغيث: الحمد لله، والله لو أن الله لم يفرجها ما تركت أهل بيت من المسلمين أهل سعة إلاّ أدخلت عليهم معهم عدادهم من الفقراء فلم يكن إثنان يهلكان من الطعام على ما يقيم واحداً..".
في ذلك العام اشترت امرأة عمر شيئاً من السمن بستين درهماً، فقال عمر: ما هذا؟ قالت: هو مالي ليس من نفقتك، فقال لها ما أنا بذائقه حتى يحيا الناس.
وكان عام الرمادة من أشد ما مر على المسلمين هماً وهولاً غير أن ما عالج به عمر هذه الشدة وما ساس به من أمور الناس في ذلك العام، وما قام به من إشراف دقيق على التموين العام للمسلمين وما أبداه على جانب ذلك من تقشف إلى أبعد حدود التقشف.. كل ذلك كان له أثره في تخفيف وطأة هذه الأزمة إلى أن أزاحها الله.
مما أجراه عمر في ذلك العام أن كتب إلى كل من أبي عبيدة في الشام وعمرو بن العاصِ في مصر يستغيثهما. فأرسل إليه أبو عبيدة أربعة آلاف راحلة عليها الطعام فقسمها بين أهل المدينة وما حولها من القرى... وكتب إليه عمرو: لبيك يا أمير المؤمنين! قد بعثت إليك بعير -أي بقافلة- أولها عندك وآخرها عندي فوسع بها عمر على الناس.
وعام الرمادة كان السبب في أمر عمر لعمر بن العاص أن يحفر خليجاً يجري به ماء النيل حتى بحر القلزم، لنقل ما يلزم الحرمين من المؤونة والمسيرة، فحفره وسير فيه المراكب تحمل الطعام إلى الحجاز.
وقد كان عمر في عام الرمادة أعظم الناس غماً لما أصاب المسلمين من هذه الضائقة حتى قيل عنه: لو لم يرفع الله سبحانه المحل عام الرمادة لظننا عمر يموت هماً بأمر المسلمين.
* * *
وبعد.. فهذا هو أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه فيما خلده له التاريخ في صفحاته البيض من إيجاده لنظام العطاء؛ أو كما نسميه اليوم "الضمان الاجتماعي" على اختلاف كبير واضح بين هذا وذاك.. بين نظام عمر، وأنظمة اليوم!
ثم هذا هو عمر: في دقة رقابته لتنفيذ هذا النظام ثم دقة تحريه لما وراء تنفيذه إياه.. وأخيراً هذا هو عمر فيما كان يقوم به من جولاته الليلية وفيما كان يسوس به أمور المسلمين في أوقات الشدائد والأزمات مما يدخل كله تحت كلمة "ضمان" لا بالمعنى المعروف المصطلح عليه في هذا الزمن الأخير... وإنما في أوسع وأشمل ما تؤديه من المعاني الإنسانية "كلمة الضمان".
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1399  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 72
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء العاشر - شهادات الضيوف والمحبين: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج