شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ عبد الله فراج الشريف))
((حمزة شحاتة الشاعر الفيلسوف))
بسم الله الرحمن الرحيم، حمزة شحاتة الشاعر، الذي ولد على تراب هذا الوطن، قمة شامخة كما يقول أديبنا الكبير عزيز ضياء رحمهما الله، والذي تحدث عنه كثيراً ورأى فيه قمة عرفت ولم تكتشف، ولا تزال هذه العبارة تنطبق على حمزة الفيلسوف، الذي لم يزل تراثه الأدبي والفكري يحتاج لمن يغوص فيه، ويستخرج من جواهره بعضها، ويكتشف ما اشتملت عليه من صنوف المعرفة، خصوصاً الفلسفة، التي ينفر منها في بلادنا، رغم أنها المؤسسة لسائر المعارف الإنسانية. وترجع قراءات شاعرنا الكبير في مصادرها إلى زمن مبكر من حياته، حيث كان يبحث عن ترجماتٍ لموروث فلاسفة اليونان، ويقرأ لفلاسفة المسلمين، وهو شاب غض الإهاب يقبل على العشرين من سني عمره، الذي لم يُطَلْ، وأفادته رحلته إلى الهند وتعلمه اللغة الإنجليزية مزيد سياحة في المعرفة الفلسفية، حتى فاجأ الناس بمحاضرة في مساء يوم من عام 1359هـ في المتنفس الذي كان للأدباء وأهل الفكر آنذاك بأم القرى "جمعية الإسعاف الخيرية"، التي مثلت أولى مؤسسات المجتمع المدني في هذا الوطن، وكان لها عظيم الأثر في المجتمع الذي أنشأها، ثم لم يتواصل الفعل لإنشاء مزيد من هذه المؤسسات، مما أدى إلى تراجع حاد في حرية التعبير بعد ذلك، فقد كانت هذه المحاضرة نسقاً من الفكر غير معهود ليرمى في الساحة بمسلمات فلسفية، أظن أن قبولها حينئذٍ إنما دفعت إليه الدهشة والانبهار، وليس الاقتناع.
وقد أوجز -رحمه الله- غايته لما كان يلقيه على مسامع من حضروا تلك الليلة للاستماع فقال: "لا تكون النظرة إلى حقائق الحياة خالصة إلاّ من أناس يرون أنفسهم فوق قيودها وقوالبها، وهؤلاء يدعون بالمجانين مرة، وبالفلاسفة وقادة الفكر تارة، لأن حظ الصفات والمبادئ والنزعات يرتبط دوماً بحظ الداعين إليها والمتصفين بها من النجاح والفشل".
وأكدّ أن هذه حقيقة فطن لها الناس منذ القدم، وليس هذا حظ الأحياء فحسب، بل حظ المبادئ والأغاني والنظريات والفضائل وحظ موقعي بينكم الليلة أيضاً.
ثم أبان بوضوح غايته ليعلم سامعيه أهم ما يمارسه الفيلسوف، فقال: "وأنا أريد التجريد والتعرية كباحث لا كمحاضر، فإني لو قصرت كلامي على الرجولة، أو على الخلق الفاضل، خشيت أن يتحول حديثي إلى موعظة، لا تعدو أن تكون تمدحاً حماسياً بالفضائل، دون تحليلها وردها إلى مصادرها، وتحديد قيمها.. ومعاييرها.. وأثرها في صميم الحياة وعلاقتها بالنفوس".
ويقول: "والتجريد مبدأ قديم لي أو هو مرضي الذي لا أشفى منه، عرفني به من عرفوا طريقتي في الحياة، ومن قرؤوا نظراتي في الخير والشر، في الفضائل والرذائل، وفي الحب والشعر".
سادتي فأول مبادئ البحث الفلسفي هو التجريد، وقد مضى شاعرنا في أهم آثاره النثرية، وهي هذه المحاضرة، والتي من أجل هذا المبدأ والغاية الفلسفية غيّر عنوانها المقترح "الخلق الكامل عماد الرجولة" ليجعله: "الرجولة عماد الخلق الفاضل"، قائلاً: "أن أزحزح العنوان المقترح عن وضعه قليلاً فيكون "الرجولة عماد الخلق الفاضل" لا الكامل، فما يزال الكمال نشدة الحياة المطولة ووهمها، الذي تنساق أبداً في طلابه، وما دامت الحياة تمتد ولا تنتهي، وقوافل الأحياء تسير ما يثقل خطاها الزمن الجاهد، وما دام التغيير الدائم، دأب الحياة وسبيل ما فيها، فهل نقول إن شيئاً كمل قبل أن يوفي على غايته ويبلغ تمامه؟".
فالحرية عند شاعرنا تعني ما عبر عنه قائلاً: "وأنا لست أعلم معنى لهذه الحرية، بيد أني ألفت أن أطلق لفكري عنانه، فهذا عندي أخلق بأن يجعلني أكثر شعوراً بحياتي وفهماً لها". ولعلّ الحرية بهذا المعنى عندما تغيب عنه هي ما تقلقه، وهو ما دعاه في زمن القيود أن يرحل بعيداً، ويمضي العمر غريباً.
وشعر الأستاذ حمزة شحاتة كما هو نثره ينحو دوماً إلى عمق النظرة إلى الحياة، عبر فلسفة آمن بها لا تعرف القيود وتعتمد التجريد للوصول إلى الحقائق. ففي هذه المحاضرة التي استمر إلقاؤها أربع ساعات كاملة -لم يقاطعه فيها سوى التصفيق إعجاباً بما يلقى- ناقش هموم الوطن وما يتطلع إليه أهله، وتحدث عن الجمال وأراده أن يلم بكل جوانب الحياة، ويجرده عن الرغبات الأنانية، وتكلم عن الفضيلة وجرد لها معنى يخلصها من عوائقها سواء أكان نفعاً أم أذى، يبني الإنسان أحكامه بهما عليها، كذا الرجولة والأخلاق فبالتجريد يصل دوماً إلى الحقائق، وعلى هذا المنوال تحدث عن الكرم والشجاعة، وجال عبر الفضائل والرذائل كلها كما عرفها الناس، وكما أكد معانيها عبر التجريد فنجده مثلاً يقول: "القناعة كانت فضيلة، ولا تزال فضيلة الصابر المحروم"، لأنها رمز الاكتفاء القوي عن الناس، والتحكم في مطالب النفس وحدّ طماحها، ترفعاً عن التدني لالتماسها منهم، ولكنها اليوم فضيلة خاملة، توشك أن تنقلب إلى رذيلة، وفي عرف الحياة الراهنة ومصطلحاتها طورها الحديث، فهي معدودة في الفقير تسليماً وعجزاً عن إدراك الرغائب، وفي الغني دلالة الاستكفاء، ولو قلنا أنهما في الغني والفقير دليل سمو نفس وترفعها، لم نقل حقاً، ولا يسعنا أن ننكر أن مناعة الفقير والضعيف والعاجز عزاء يلتمس لتخفيف وطأة الشعور بالحرمان عن النفس، وهكذا يعرض للتواضع والكبرياء والأثرة ثم يتحول للرذائل من كذب وبخل وجبن، ثم يعود إلى الواقع فيقول: "فمتى تكفلت الأنظمة بحماية الحريات الفردية وبحماية الحريات والحقوق، وقام الفرد بواجبه القانوني في صلاته المعينة الحدود بالناس، استوى في القمة الحليم والأحمق، والضعيف والمستهتر، والكاذب والصادق، والشجاع والجبان، والأناني والإيثاري، وما دامت رذائل الإنسان لا تتناول غيره بالأذى والإساءة، فليس لنا أن نطمع في تحويل تيارات الحياة، فالحياة لا تخرج على قوانينها، ولا تتكيف على ما يطابق ميولنا، وإنما الإنسان يكيف حياته ومطالبه على وفق ضروراتها".
وفي النهاية يقول: "إن رأس الفضائل هو الحياء، الذي هو القوة والرحمة والعدالة، التي كانت في حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. تضحية صادقة إلى آخر حدود طاقة النفس الإنسانية واحتمالها، كان حياء يدفع الناس ألا ينهزموا في مواضع الجهاد أمام الكثرة، وأمام الموت المحقق، كانت حياة لا يترك الغني يأكل حتى يشبع الضعيف، كانت مثلاً أعلى تضربه قطعة من لحم، كما تضربه قافلة ضخمة يجلبها عثمان للتجارة فينفقها للحياء.
وهكذا تجيء بعض استحياءات شاعرنا يناشد بها أبناء وطنه، فيطالب الخطيب الذي يضلل الضمائر أن يستحي، وكذا المتحدث الذي يخدع أخاه، وكذا الكاتب الذي يئد الحق والجمال والقوة ليظهر، ثم الفاضل الذي يتاجر بفضيلته ليفيد بها مالاً وسمعة وجاهاً، وهكذا يخاطب كل فئات الناس ولا يترك منهم أحداً بلفظ أسنح ويقول: ليكن الحياء شعار الضمائر في هذه الأمة وشعار حياتنا، وشعار الفضائل فيها، وأساس التربية لأولادنا، فكم نحتاج لمثل الأستاذ حمزة في أيامنا هذه ليقول لكثيرين منا: استحوا.
ولو أردنا البحث في رفات عقله، والذي كان تعلِيقات له يسطرها بقلمه لا لينشرها، وإنما ينفس بها رغبة لا يستطيع كبتها، وما بقي منها هيأه للنشر الأستاذ عبد الحميد مشخص، فبقيت شاهدة على فكر الشاعر العملاق، وروحه الوثابة، رغم ما كان يعاني من قسوة الظروف وهذه بعض منها: "الذبح يؤلم الخرفان، لكنه لا يحركها للثورة، ولا يدفعها للهرب، وهناك شعوب لا يستطاع ابتكار أساليب تحركها مع أنها تتألم، إن هذه الأمة كالمعدة القوية تهضم كل شيء بسهولة، وهذه علة هوائها". وكأني به عبر هذه المقولة يأسى للشعوب التي لا تحركها الآلام والتي تهضم حتى الإذلال.
ويقول في بعض الرفات: "متى أغرم الإنسان بالتقصي والكشف والفحص صار أكثر الناس تقديراً لنعمة الجهل والراحة"، فكم هم الناعمون بالجهل والراحة لأنهم لا يتقصوا ليعرفوا الحقيقة، ولا يفحصون الواقع ليعرفوا مدى ما تسرب إليه من الفساد، بل إن شاعرنا يرى أن لا حدّ للبواعث عند من يحس ويدرك، ليحيل بذلك إلى القول إلاّ بواعث للألم عند من توقف عنده الإحساس وعدم الإدراك، ويقول عن المرأة ولعلّه قد أساء الظن بها: "المعركة الأبدية بين الرجل والمرأة غير متكافئة ينتصر فيها الرجل باستمرار ولكنه الضحية دائماً". ويقول: "من الصعب أن تثبت براءتك عندما تكون بجانب امرأة تصرخ". وحينما كتب مقالة طويلة عن الحمار، كان يريد أن ينتقد الإنسان ممثلاً في نفسه، فتراه يدعي مشادة بينه وبين حماره ليظهر نوازعه، فيرى أن حماره يتفرد إذا مشى عن بقية الحمير، فإن اتجهت إلى اليمين اتجه إلى اليسار، فهو يميل إلى التفرد والانطواء ومخالفة التيار العام أو السائل، تماماً كما يفعل صاحبه فيتقوقع في حدود ذاته، وينطوي على نفسه وكتبه، ويتأمل في الكون والحياة، ويشرح المجتمع الذي يعيش فيه، ويعرّي الإنسانية من أرديتها الزائفة، حتى تغدو البشرية سافلة خير منها ألف مرة تلك الحيوانية التي لا يحكمها إلاّ قانون الغاب".
إن ثورة شاعرنا على الواقع وما فيه من مساوئ لا حدود لها هي التي أرهقته وجعلته ينطوي على نفسه بعيداً عن الناس. يقول أستاذنا الناقد والأديب الرائد عبد الله عبد الجبار مفسراً سلوك صديقه الشاعر: "وأصحاب الطبع العاطفي بفطرتهم يتأرجحون بين الانطوائية والانبساطية، وهذه الميزة تبدو واضحة في حمزة شحاتة، سواء في حياته أو في شعره، فقد يهرب من المجتمع ويتقوقع داخل داره أو غرفته متأملاً أو منغمساً في قراءات طويلة ومتنوعة، يقرأ كل شيء، ولا يكاد يظهر للناس، حتى إذا ظننا أو اعتقدنا أنه أثر الوحدة والانعزال، ألفيناه فجأة يغشى المجالس والمجتمعات، ويلقى أصدقاءه ومعارفه وينغمس في دنيا الحياة والأحياء والبيع والشراء، ويمثل الروح الانبساطية بأجلى معانيها، ولكنه لا يلبث أن ينصرف تدريجياً إلى الانطواء والانفراد".
سادتي، من أراد تتبع المعرفة الفلسفية في أدب وفكر شاعرنا الكبير فإنه سيجدها مبثوثة في كل ما أبدع شعراً ونثراً في ديوانه وفي أثره الخالد "الرجولة عماد الخلق الفاضل" أو في "رفات العقل"، أو في "حمار حمزة شحاتة"، أو في رسائله "إلى ابنته شيرين"، أو أصدقائه، أو حتى في ما لم ينشر له حتى الآن ويمكن نشره، أو ذاك الذي لم ينشر وقد تحول دون نشره محظورات.
هذا هو الشاعر الفيلسوف الذي أحببت وأحبه معي جيل بأكمله.
سعادة الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه: أربع نقاط سريعة. في الحقيقة تلقيت هاتفاً من الأخ الكريم معالي الدكتور عبد العزيز خوجه، وكان بودّه أن يحضر هذه المئوية الليلة وكان طلب مني أن أتأخر، فمعنى هذا أن الاجتماع الذي فيه لم يمكّنه من الحضور، وعلي أن أعتذر لكم، فمع الأسف يبدو أنه لن يتمكن من الحضور معنا الليلة، وأنا أكبر هذا الموقف، إلاّ أن معالي الوزير قد أرسل من يمثل وزارة الثقافة والإعلام في مئوية القمة حمزة شحاتة، فصفقوا له. ثانياً ثمة كلمة موجزة: هذا الديوان يضم أربعين قصيدة جديدة وهذا عدد لا يستهان به، كما أنه وبعد عودتنا لجميع الجرائد والمجلات من تاريخ ميلاده إلى وفاته، استطعنا الحصول على خمسة عشر مقالاً بأسماء مستعارة. أحب أن أقدم إليكم الليلة الاثنينية بجزئيها للعام الماضي. وكما تعودنا ألا ينتهي الموسم إلا ونكون قد انتهينا بإذن الله من طباعة الموسم السابق. عادةً سمعت أكثر من مرة عن الدكتور حسني الطاهر، ولقد التقيت بالدكتور حسني أديب الطاهر وكان طبيب أطفال وأديباً، وقد نشر الكثير من الكلمات في جريدة (أم القرى) وأظن (صوت الحجاز) ولم يعش ليكتب في جريدة (البلاد) السعودية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :657  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 205 من 209
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.