شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الأستاذ أحمد جعفر عبد الملك))
بسم الله الرحمن الرحيم، طبعاً أنا سعيد جداً أن أكون في هذا المقام ضمن الكوكبة التي تعوّد شيخنا الجليل عبد المقصود خوجه أن يكرمهم في الاثنينية ولعلي أشعر بأن هذا التكريم تكريم لكل إنسان قطري فأحمل لكم ود قطر وود أهل قطر في البداية. حتى نخرج من رهبة المقام، أريد أن أبدأ بدعابتين، أو ربما حادثتين لعلهما تلخصان بعض أسرار شخصيتي المتمردة كما ذكر فيها شيخنا الأستاذ عبد المقصود. بعدما تخرجت ابنتي من الثانوية وكان عمرها ثمانية عشر عاماً قالت لي ذات مساء ونحن جالسون مع الأسرة: "نحن يا بابا لا نعرفك، نحن نعرفك من خلال الشاشة فقط".. فتصوروا إلى أي مدى أثرت هذه الكلمة بي وجعلتني أشعر بأنني بعيد عن عائلتي، لأنني فعلاً صحوت بعد خمسة وعشرين عاماً من العمل الإعلامي في التلفزيون لأجد نفسي بعيداً حتى عن قضية العواطف الأسرية، لذلك حدث بعض التحول في حياتي نحو قضية المرأة على وجه الخصوص، وقضية العدالة الاجتماعية وما تتطلبها من أمور. هذه إحدى المحطات أو المواقف التي حصلت لي.. الموقف الآخر -والذي أيضاً يعبر عن شخصيتي حتى أكون قريباً من الطاولات التي أنتم بها- بعدما أصبحت رئيساً للتحرير وبعد عودتي من الولايات المتحدة برؤية جديدة تختلف عن الرؤى الموجودة والسائدة في قيم التحرير من ناحية (اللاي آوت lay out)، من ناحية اختيار العناوين، من ناحية صرامة الدوام، ومن ناحية الأمانة الصحفية، دخل علي ذات يوم مدير التحرير، وقال لي: أحمد أريد منك غداً أن تكتب مقالاً تضرب فيه وزيراً من الوزراء، فقلت له: وماذا فعل هذا الوزير؟ إذا كان قد نقص في الوزارة فنرسل صحافياً محققاً مع مصور ونحقق في القضية ذاتها، أو في المكان الذي توجد فيه مشكلة. قال: لا، نريدك أن تضرب في الوزير وعلى الصفحة الأولى. قطعاً هذا موقف غير أخلاقي، وأتذكر أنني رفعت القلم، وقلت له: هذا القلم -وكان عمري الصحافي ثلاثين عاماً- طيلة ثلاثين سنة لم يضرب أحداً وبالتالي قل لمن قال لك هذا الكلام أن أحمد لن يكتب، وليحصل ما يحصل. بعد يومين نُحّيت عن المركز. أنا أبدأ بهذه الرواية لأؤكد أن قيم العدالة والخير والجمال يجب أن تسود الإنسان مهما كان منصبه -حتى سائق السيارة أو حارس العمارة- لكي نخلق مجتمعاً أفضل. لقد تحدث بعض الأخوة عن قضية التواصل، ونشكر أستاذنا عبد الله المناع ومحمد علي قدس عندما تحدثا عن التواصل في دول الخليج، وهذا موضوع شائك. لقد حضرت 24 اجتماعاً سرياً لوزراء الخارجية. طبعاً المجالس أسرار ولن أتحدث عنها. وحضرت حوالي 29 قمة خليجية، وعرفت ما يدور في هذه الأروقة، يعني أفكار، حتى لا نعطي مجلس التعاون هذا الزخم الكبير فنحن نعترف أن مجلس التعاون نشأ كحلف عسكري، بعدما صار هناك خلل في القوة في المنطقة بعد ذهاب بريطانيا عام 1970 من الخليج والخوف من اقتراب روسي من المياه الدافئة في الخليج، وبالتالي عقد اجتماع في أبو ظبي في مايو عام 1981، وأقر النظام الأساسي وأنشئ مجلس التعاون. وخلال هذه الفترة الطويلة كما تعرفون يطغى الموضوع الأمني، والأمن العسكري بالذات على جميع المخرجات التي تسود مجلس التعاون، لذلك فإن القضية صارت قضية اهتمام بالأمن، وما عدا ذلك تظل هناك أضابير كثيرة مثلما تفضل أستاذنا مناع، يعني ملايين الصفحات، وليس عشرات الآلاف، والوقت والاجتماعات هدرت من دون أن تتحقق النتائج المرجوة. قبل مجلس التعاون كان يوجد سبع مؤسسات خليجية قائمة، وبعد أن أنشئ مجلس التعاون بقيت منها مؤسستان فقط: جهاز تلفزيون الخليج في الرياض، ومؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك في الكويت. اسمحوا لي أن أعرج ولدقيقة واحدة كي أتحدث عن التعاون المشترك في مجال الثقافة، لعل ما لمسناه ولمسه الجيل من أبنائنا هو مسلسل "افتح يا سمسم"، وكان لي شرف أن أشارك في أول مئة حلقة من هذا المسلسل الذي ما زال يبث وما زال يؤدي خدمات كبيرة للأطفال العرب. هذا المسلسل أنتج عبر مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك، ولامس إلى حد ما قضية التعاون. الموضوع الآخر هو الاستراتيجية الخليجية للثقافة التي أقرت في مسقط العام الماضي. وزارات الثقافة لم تكن مستقلة في الكثير من الدول؛ أحياناً تلحق بالإعلام، وأحياناً تلحق بالتربية وما إلى ذلك، حتى الميزانية التي يخصصها مجلس الوزراء للإعلام والثقافة تكون 95 بالمئة للإعلام و 5 بالمئة للثقافة، لذلك قد لا نستغرب أن تأتي الثقافة في نهايات المطافات التي نراها.
لم يقصر الأخوان في ذكر محاسني وأنا كلي سوءات، فبالتالي شيخنا الكريم، والأستاذ محمد، والأستاذ عبد الله والأخت الكريمة التي تحدثت تحدثوا كثيراً. وبودّي ألا أتحدث كثيراً حتى لا أفسد هذه الأمسية، لكنني من الناس الذين ولدوا وليس في بيتي ملعقة فما بالكم ملعقة من ذهب، لذلك نشأت نشأة فقيرة جداً، وكنت أعمل في البناء، أشارك زوج أختي في البناء عندما كنت صغيراً في الثانوية العامة، حتى أكتسب شيئاً.. في تلك الأثناء -وأنا أتحدث عن عام 1957- كنت في الصف الأول وبعد ذلك في عام 1958 حتى بلغت العاشرة من عمري وبعدها الثانوية. كنا نتبادل الكتب التي كانت تصلنا خصوصاً كتب إحسان عبد القدوس، وبعض الكتب الثقافية التي يتم تهريبها في ذلك الوقت من مصر أو من بيروت عندما كنا نذهب للدراسة. بداية الكتابة الطفولية -وقد تكون تجارب الطفل الأولى- كانت مع إذاعة قطر عام 1968 حيث كنت أشارك في برنامج الأسرة، وأكتب بعض النصائح باللغة الدارجة آنذاك. ثم تطور الوضع وظهرت عندنا جريدة "العروبة" عام 1970 وبدأت كأول الكتاب مع زملاء رحم الله من توفي منهم، ونتمنى للبعض الآخر طول العمر. في عام 1972 جذبني التلفزيون إليه بعد أن كنت في الإذاعة وبدأت أولى خطوات التلفزيون آنذاك. هذه رحلة امتدت خمسة وعشرين عاماً، وتطورت من مقدم ومذيع إلى مراقب للنصوص ثم بعد ذلك وجدت أن الشهادة الثانوية لا تكفي فقررت الدراسة في جامعة بيروت فذهبت أربع سنوات، وتخصصت في الأدب العربي حتى أرفد قضية التقديم التلفزيوني، وتقديم البرامج ولله الحمد كافأني المسؤولون آنذاك بأن عينت مديراً للأخبار، وهذه مرحلة مفصلية لأن الحرب العراقية -الإيرانية كانت وقتذاك على أشدها وكنا بصراحة أشبه بغرفة عمليات للتداول، لأن قضية الأخبار آنذاك كانت صعبة جداً، لم يكن هناك فضائيات ولا تبادل إخباري عربي كما هو معروف. كان التبادل آنذاك عبر أفلام 16 مم يعرفها الإعلاميون تتجمع في البريد في دولة الكويت التي ترسلها إلى دول الخليج آنذاك فيصل الخبر بعد أسبوع أو عشرة أيام إلى المتلقي، وكان الخبر أيضاً الذي يأتي من الوكالات الأجنبية يصاغ صياغة أجنبية تختلف عن قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا، فنضطر إلى إعادة صياغة مثل تلك الأخبار. هنا دخلت في قضية الوعي السياسي بدلاً من البقاء أو الركود في قضية الأمور الأدبية، وبعد أن انتهت الثورة في إيران وتغير الوضع، بدأنا مرحلة جديدة أيضاً في دول الخليج شعارها التخوف من قضية تصدير الثورة وما إلى ذلك، وكان الأمر يتطلب حصافة لأن ما كنا نحذر منه ربما قبل عشرين عاماً، لربما نسمع به هذه الأيام، ولعلكم اليوم سمعتم بيان مجلس التعاون ماذا قال، وهذا يجرني إلى ما تفضل به الشيخ قبل قليل حول رواية "فازع" أنا فازع تصورت بلداً خليجياً عام 2050 ماذا سيحدث له، وفعلاً كان هناك حزب إسلامي متشدد، وحزب ليبرالي وحزب للآسيويين، لأنني لا أريد أن أتكلم عن التركيبة السكانية لدول الخليج.. اليوم نحن نعاني مشكلة كبيرة لربما بعض الأنظمة تغض الطرف عنها، ولكن المواطنين في بعض الدول قد لا يصل عددهم إلى عشرة بالمئة من إجمالي عدد السكان. وبالتالي كان هناك حزب في البرلمان (في الرواية طبعاً) يمثل الجماعة الآسيوية، وتحدث ثورة في البلد ويقتل الملك، لأنه كان ملكاً فاسداً وتقوم ثورة ويستولي الجيش. لربما خمسين سنة أنا بالغت في التاريخ، لربما يحدث ذلك بعد فترة قصيرة، إذا ما قرأنا الأحداث اليوم في الخليج. أحياناً تهمني الإسقاطات على المرأة، لا تتجسد في المرأة ذاتها ولعل أول كتاب أصدرته كان عام 1982، اسمه "رسائل إلى امرأة تحترق". لكن هذه المرأة ليس امرأة عادية؛ إنها بيروت. فلقد تأثرت في بيروت الجميلة التي تمثل عودتنا على الانفتاح، على الأحزاب، على قضية الانفتاح السياسي، الأفكار الحرة، الجمال، كل هذا أثر فينا كطلبة في تلك الأثناء. سوف أقرأ صفحة تذكرنا بهذه المرأة الجميلة التي صورها الفنان بأنها امرأة يطلع منها الدخان وأضلعها تحترق فأقول فيها:
يا بيروت كل حي فيك يموت.
كل شيء فيك يموت..
النبض والبيوت.
بيروت يا بيروت
يا عشقنا المخنوق،
ويا فرحنا المسروق
يا رقصة الأوراق في مواقد النار.
تموتين بفعلنا جميعاً ونحييك في بلاغاتنا الرسمية
بيروت يا كحل الليل العربي.
ويا موطن الحريات..
تسأل عنك دموع الشعراء
ويسأل عنك عزف الشواطئ الحزينة
بيروت يا بيروت
يا بركة الحب التي قتلتها أسماكها.
يا نجمة الفجر التي انتحرت في مسائها المحاصر،
بيروت أنت عاشقة جبلية
تسلق الذباب على جمالك..
أنت امرأة مستحيلة ليست لديك مرافئ ولا عناوين.
رحلت مع العشق بلا نهاية
ركبت آلاف القطارات الخطرة ودخلت في مدارات الهموم الشرقية.
لكن القبائل التي أعطتك الضوء الأخضر هي التي حاربتك بالقنابل والمنجنيق.
طبعاً كانت هذه من ضمن رحلة قمت بها إلى لبنان في عام 1982م، حيث شوّه العدوان الإسرائيلي على لبنان بيروت كلها بدءاً من الجنوب، وأنا حضرت ملامح من هذه الأمور. فكانت في هذه السطور. في سنة 1979م قررت الدولة إيفاد بعض الإعلاميين إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكنت محظوظاً أن أكون معهم، وفي هذه الرحلة طبعاً حدثت أمور كثيرة، كثيرة جداً، وكان يشرفني أن الأخوة السعوديين الذين سبقونا في المدينة، هم الذين احتضنونا وعرفونا إلى المدينة، بطيبها وبسوئها دعونا نعترف، فبالتالي كانت فرصة سعيدة أن يحاول الإنسان أن يخرج من الدائرة المغلقة الخليجية -دعونا نسميها- إلى دائرة أرحب. ففي الترحال بلا شك فوائد كبيرة، وقيل هذا في الأمثال، خصوصاً أننا سكنّا في منطقة تغطيها الثلوج سبعة شهور في العام، فتأتي كل صباح وترمي الثلج عن سيارتك. فكانت فرحتنا في أن نتعرف على هموم وآراء المجتمع الغربي طبعاً. لا أريد أن أدخل في السياسة، ولكن يسيطر على المجتمع الأمريكي النزعة -قد أسميها الجاهلية- تجاه قضايانا العربية والإسلامية، إذ من المعروف أن أكبر ثلاثة تلفزيونات الـ إي بي سي، وسي بي سي، وسي إن إن، تسيطر عليها دوائر صهيونية، وبالتالي فحتى الصورة التي كونوها عن الإنسان العربي هي صورة الإنسان الذي يتزوج أربع نساء، ولعلّكم تذكرون اللقطة التي يرد في الأفلام: شخص في لندن يمشي ووراءه أربع نساء بالعباية، وهذه مكررة في الكثير من الأفلام، أو الذي يقتل أخوه، فهذه النقطة أثرت بنا كثيراً فكنا نحاول قدر الإمكان أن نوضح الصورة، حتى أنهم كانوا يعتقدون أن الحرب العراقية -الإيرانية هي حرب بين دولتين عربيتين، فبالتالي كانت لدينا مهمة، وأصدرنا هناك بمساعدة بعض الإخوان مجلة اسمها "الملتقى"، حيث بدأنا نقوم بنوع من الإعلام للدول الخليجية، لأننا كنا ننتمي إلى منظمة شباب شبه الجزيرة والخليج وكانت تعمل لأهداف غير سياسية بالمقام الأول أهمها التكافل ومساعدة الطلبة الجدد، وتسهيل أمورهم. فطبعاً خلال هذه الفترة كنت أدرس في جامعة قطر، وأنا أعتبر التدريس بصراحة من أجمل المهن وأنبل المهن التي عرفتها في حياتي. فعندما رجعت من الولايات المتحدة في عام 1982م، بدأت التدريس في قسم الإعلام بجامعة قطر حتى عام 2004م، حيث تم إيقافي عن التدريس. في هذه المرحلة أتيح لي أن أتعرف أيضاً على الجديد في الإنتاج الإعلامي سواء كان باللغة العربية أم الإنكليزية، وعبت أكثر من عيب على الأسلوب التقليدي في التدريس في جامعاتنا العربية، فكانت هناك مادة من المواد اسمها Inter-culture communication أي وسائل الاتصال العابرة للثقافات، وهي مادة جامدة درستها في الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 370 صفحة، فأحببنا أنا وأحد الأساتذة أن نحببها إلى قلوب الطلبة والطالبات، فدرّسناها بتطبيق عملي وجعلنا كل طالبة وطالب يذهبون إلى سفارة من السفارات الموجودة في قطر، وقلنا لهم اذهبوا وتحدثوا عن الإعلام في هذا البلد وائتونا بنماذج من كتب وأشرطة قديمة ونوعية آلات التصوير ونوعية ورق وكالات الأنباء، وصحف قديمة، وبعد ذلك سنحضر لكم مفاجأة، وعملوا فصلاً دراسياً كاملاً، في النهاية جمعنا الطلبة والطالبات في شيراتون، الأستاذ يعرف قطر، وأقمنا لهم حفلاً، وأعطينا كلاً منهم أربعة في أربعة، وقلنا لهم: أنت ابن الزاوية أكتب بما تراه وكل أمر عليه علامة.. فطبعاً هناك من كتب عن مصر، ومن كتب عن الأهرام، والذي كتب عن لبنان أتى بمواد عن بعلبك، ومن كتب عن الصين جاء بأشياء صينية، والهند وما إلى ذلك، وأبدع الطلاب والطالبات إبداعاً غير مسبوق، وفي تلك الأمسية، أتينا بقناة الجزيرة، والإذاعة والتلفزيون، وكانت أمسية عظيمة جداً.. طبعاً توقعت أن يشكروني على هذه العملية، لكنهم أوقفوني عن التدريس في الجامعة بحكم خروجي عن العادة، فهنا أعود إلى مقولة الشيخ أن قضية التمرد على واقع الأمر هي مشكلة يجب أن يدفع الإنسان ثمنها.
في عام 1986م بدأت الرحلة الثانية -وهذه مذكورة في "أحضان المنافي" لمن قرأها طبعاً- ففي ذلك العام ذهبت إلى ويلز في بريطانيا لدراسة الدكتوراه. من الطرائف أنني وأنا قادم من القطار بعد تعب ساعتين من السفر من لندن ولدي العفش، وأحمل حقيبتين، وكنت قد استأجرت منزلاً، ظهر لي شخص ويلزي بدين على باب منزلي وقال لي: أنت تبدو عربياً، قلت له نعم، قال: انتبه جارنا إيراني لا تتشاجر معه، فقلت له لماذا؟ قال لي: كذا. المهم أنه بعد فترة كانت زوجتي أم محمد تقوم بالطبخ الجيد، وكما تعلمون فنحن نأتي معنا بالبهارات وما إلى ذلك، فكنا في الحديقة نقيم حفل شواء بنكهتنا، فكان هذا الجار يأتي ويقول مرحباً يا أحمد، فكنت أقول له: تعال وشاركنا، فيأتي. المهم أننا أصبحنا عائلة. وكان ابني يذهب إلى الخيل مع ابنته كان عمرها سبع سنوات، وبقينا ثلاث سنوات على هذه الحال نتبادل الهدايا وفي أعيادنا كانوا يشاركوننا، وفي أعيادهم كنا نشاركهم. وجاء يوم السفر، أخذت أمتعتي وفيما كنت أهم بالخروج خرج الجار، قلت له: ثلاث سنوات لم أر جارنا الإيراني فوددت أن أقول لك إن العرب ليسوا سيئين. قال: اعذرني، لكن الأخبار تقول بأنكم أنتم الذين تستفزون الإيرانيين وبينكم مشاكل. ونعود إلى قضية الصورة النمطية للإنسان العربي الذي يعيش في الخارج، وأعتقد أن كل طالب من الطلبة يجب أن يحاول تصحيح هذه الصورة، أو تصحيح المفهوم عن الصورة الجميلة. طبعاً لا أريد أن أذكر عن رسالتي كثيراً إذ لا أريد أن يكون كلامي أكاديمياً، لكنني بحثت في القمر الصناعي العربي وكما تعرفون في عام 1995م أطلق القمر في الفضاء، ودرست هذه الحالة ليس من ناحية تكنولوجية، وإنما من ناحية إخبارية -يعني "سوفت وير"- وقمت بتحليل مضمون لدول ثلاث -هي تونس والجزائر وقطر- على نشرات الأخبار، وتنبأت بأمور كثيرة منها القيم الإخبارية. لا أريد أن أوغل في هذا الكلام، فقد يكون هناك حرج، ولكننا في محفل علمي يجب أن نكون صريحين، العالم لم يعد يستمتع بـ "استقبل وودَّع"، هذه قيم إخبارية قديمة، لذلك نحن نختلف كثيراً عندما نجلس مع إخواننا الإعلاميين العرب، ونتحدث عن القيم الإخبارية ونقول إن الغرب سبقنا وما إلى ذلك.. صحيح أن القيم الإخبارية قيم عالمية حسبما أعتقد، لا تختلف بين واحد في ألاسكا، وآخر في الشارقة، أو في قطر، أو في جدة. لذلك فإن دهاقنة الإعلام العرب قد جلبوا لنا النموذج دعونا نسمّيه النموذج المصري، إلى دول الخليج، فصار هذا النموذج المعتمد من دون تغيير، ولم يجرؤ المواطنون على الاقتراب منه خوفاً من نعتهم بالجهل، أو بمحاولة الخروج عن المأثور، وبالتالي صرنا في رتابة الأخبار التي تظل لعشرين دقيقة في إطار "استقبل وودع". وهنا أريد كذلك -لكي نغير الجو للحضور- (لدينا في الخليج نمط مصري، بينما في السعودية لكم خصوصيتكم لا أريد أن أدخل فيها... أستاذ مناع، ولا أريد أن أكون صريحاً جداً) آتي بأمثلة؛ كنا في اتحاد الدول العربية ندرس ما هو الخبر الصالح للتبادل مع Eurovision وهي الاتحاد الأوروبي لتبادل الأخبار، هم يتبادلون الأخبار في ما بينهم، ونحن كعرب أردنا أن نشارك في هذا التبادل، حتى ننقل لهم أخبارنا، ولماذا أنتم أخباركم one-sided ذات بعد أو اتجاه واحد، فحدث أن اجتمعنا في تونس، فقلت لهم: يا جماعة دعونا نضع قيماً للأخبار، فوضعنا القيم، وأتينا للتجربة أي للتبادل، فوجدنا الإخوان -ودعونا نكون صريحين في السعودية- قد أرسلوا لي نصف النشرة المحلية، لإرسالها عبر الأقمار الصناعية إلى تونس للتبادل. بينما أرسل لي أخ في الكويت أخبار الأمير، وولي العهد ورئيس الوزراء ومجلس الأمة.. أخ من قطر أرسل كذلك الأخبار الرسمية التي ليست لها قيمة إخبارية لدى الآخر. ماذا حدث؟ انظروا ما حدث في هذه القضية. ذات يوم يبلغنا الاتحاد الأوروبي بأن الأردن أرسل خبراً يتعلق بجلالة الملك، ورئيس البلاط، وفي نهاية الخبر أرسلت صورة رجل عمره سبعون عاماً يطعم العصافير حبوباً وظهرت في الصورة مئات العصافير فوق وجهه.. تصوروا قبلوا هذا الفيلم، وقالوا عنه بأنه يحتوي على human interest أي شيء ذي طبيعة إنسانية فقبلوه، وبُثَّ من عندهم. لذلك فإن القيم الإخبارية للأسف في العالم العربي، أعتقد أنها بحاجة إلى ثورة، وأنا مسؤول عن كلمتي هذه، لأن ما نراه يضايقنا، لذلك عندما أتت الفضائيات الجديدة بين قوسين وفلتكن "الجزيرة"، نحن لا نمدحها، و (العربية) كذلك، بدؤوا بنموذج جيد وأصبحت المحطات الرسمية تتقلص وتتضاءل أمام هذا النمط الإخباري الجديد، وتشجع بعض الدول، وحدّثت أخبارها، ولعلي أرى طبعاً تلفزيون المملكة العربية السعودية في حلته الجديدة طبعاً وليست القديمة التي تعرفون ماذا تطلقون عليها، غصب 1 وغصب 2 فالآن تغير الوضع، وأصبحت هذه المحطات محفزة للمحطات الرتيبة، وتغير وجه الإعلام العربي. طبعاً بداية "المنفى"، لكي يفهمني البعض، كان بعد عودتي من الولايات المتحدة الأمريكية، وأنا أحمل آمال العالم كله في صدري، يعني في وجداني، وأريد أن أغير، وكنت من أوائل من يحملون الدكتوراه في الإعلام. وصلت وقلت لهم يا جماعة إن أسلوب الأخبار نريده كذا، ويجب أن يكون، ويجب أن يكون، بعد ثلاثة شهور قالوا لي: اذهب إلى تلفزيون الشارقة. طبعاً كانت المهمة إنسانية من دون شك، فلقد تشرفت بإنشاء تلفزيون الشارقة على أسس كنت أعتقد أنها سليمة آنذاك، وقضيت في المنفى -ولو أنه بلدي وكل الناس أحبائي هناك- تسعة شهور، ورجعت بعدها إلى بلدي. بعد هذه العودة يبدو أن حملة الدكتوراه عندهم نحس -لست أدري إن كان الإخوان يشاركونني رأيي أم لا- لأنهم يقولون شيئاً مختلفاً، وولي الأمر معتاد على شيء غير مختلف، على نمط، فتعليمنا كان يقودنا إلى أن نقول شيئاً جديداً، ونقول كلمة حق أمام سلطان جائر، وإلاّ فلنمزق هذه الورقة ولنجلس في بيوتنا من دون أن نقوم بشيء. فلذلك أعتقد أن الإنسان المثقف أمامه قضية وما لم يدافع عن هذه القضية حتى بدمه أعتقد بأنه سيكون إنساناً فاشلاً في الحياة. المهم أنهم قالوا لي: نريدك رئيس تحرير للجريدة الإنكليزية، فأنت قادم من الولايات المتحدة الأمريكية، قلت لهم: حاضر وكنا في عام 1990م وكانت التجربة الصحفية الأولى ربما في رئاسة التحرير، وأمضيت فترة ولكني أريد أن أقف قليلاً إن سمح لي الشيخ بالوقت.. إذاً سوف أختصر لأن عندي الكثير من الأمور لأقولها. إن مدينة القبور هذه مدينة خيالية، لكنني متأكد لو أعطيتها لأي أحد منكم، لأسقطها على مدينته. في خلفية "مدينة القبور" ماذا أقول عن مدينتي: "عندما أسرجوا الكلاب، قررت الخيول العربية انتحاراً جماعياً". فطبعاً هناك مسائل ووقفات لن أقف عندها كثيراً.. مؤامرات كل ليلة يلعبون الشطرنج، وبالتالي يطبقونه، يطبقون اللعب على أهل المدينة، يسقط الفارس يتقدم الحمار، يتراجع الحصان، يسود الكلب، ينهار الحصن. المدينة كلها ترتجف واللعبة مستمرة. تسمعون عن تكافؤ الفرص، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ولكن هنا يختلف الوضع، من أهم مؤهلات الرجل المناسب للمكان المناسب، ألاّ يقول لا، حتى وإن ركضوا فوق ظهره، هكذا تتحقق التنمية. نذهب إلى "امرأة الفصول" ولو أن فيها فصولاً طويلة، لكني سأكون أيضاً مختصراً جداً: صوت من بعيد، بعد خمسة وعشرين عاماً يأتيه صوتها من التيه، آه ترى ما هو شكلها، هل بقي الرمان على استدارته؟ هل زاد ولع كرزها؟ وهل ما زالت العروض تتحدى الجلد؟ كانت امرأة الشباب. كانت أول اللذات المسروقة، وأول مشاوير الخطر، وأول مشاريع التحريض. تكلمت عن "فازع" وطبعاً فازع هي رؤية استشرافية لما يمكن أن يكون عليه الخليج في عام 2050م، لربما قبل ذلك. "أحضان المنافي" هي تقريباً السيرة شبه الذاتية، وفيها المنعرجات وفيها التضاريس الكثيرة لشخصية الكاتب والتي آمل ألا أكون قد أخفيت حاجات كثيرة. آخر كتاب صدر لي "لطائف الكلام"، كما أصدرت مجلة الرافد الثقافية التي تصدر في الشارقة. هنا لم أحدد بل دعوني أكون عشوائياً في الاختيار يقول: "يشرب كثيراً كي يتذكر الصور الغائبة وينسى من أمامه، إنه رجل عذبوه كثيراً، تتهادى كالنسيم بخفة الريشة، وبانثناءات الوجد المفقود في صباح ملاكي الوقار، إنها امرأة تمارس حريته. أميرة تطلق الكلمة في الوقت المناسب. يصمت الجميع، تدرك أنها تسيطر على الموقف. طاردتها الرذيلة، حاولت التخلص منها، لجأت إلى الصديقة، اتسعت مساحات الغواية. يراها جثة، تراه جثة، انقطع الرابط الحيوي". ذكريات: "كل ما تبقى من العمر ذكريات، هي تتألم لماض فات، وهو يخطط لعمر آت". طبعاً في الفضائيات نقد لما يجري في السماء العربية من مخالفات للقيم والأمور المتعارف عليها، وهناك إعلاميون من طراز جديد، ولقد تحدثت عن سلوك الإعلاميين في الوقت الحاضر وابتعادهم عن المهنية في الكثير من الأوقات. لا أريد أن أطيل، مرة أخرى أشكر الشيخ عبد المقصود على هذه الدعوة وعلى التكريم الجميل والذي أعتبره وساماً كبيراً لن أنساه في حياتي، وكما قلت أنا سعيد بوجودي معكم وأتمنى أن يوفق الجميع إلى إضاءة الكثير من الشموع وتقليل مساحات الظلام في هذا العالم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عريف الحفل: شكراً للدكتور أحمد جعفر عبد الملك. والآن نفتح مجال الأسئلة التي تلقى مباشرة من السائلين والسائلات، حيث تصل إلينا طلبات الأسئلة، ويلقى السؤال من السائل شخصياً بذكر اسمه ومهنته والاكتفاء بسؤال واحد، كما هو معتاد ومعروف في الأمسيات. ننتقل أولاً إلى قسم السيدات للترحيب بالضيف والسؤال الأول من قسم السيدات.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :563  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 176 من 209
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.