شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي))
العبد الفقير نشأ يتيماً، وأحياناً يقال ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، إذا كشف لك الحكمة في المنع، كان المنع عين العطاء. نشأت صغيراً، وتعلقت بأستاذ لي دعا إلى الله في التعليم الثانوي، وما من شيء لفت نظري في الحياة إلا الدعوة إلى الله، أنا أعتقد أن قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت: 33) -أي الدعوة إلى الله عز وجل- هو دعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله، ودعوة إلى الله خالصة، فخصائص الدعوة الخالصة إلى الله هي الإتباع، والتعاون مع بقية الدعاة، وقبول الآخر، بينما خصائص الدعوة إلى الذات هي أحياناً الابتداع، التنافس، وإلغاء الآخر؛ فحينما يكون الإنسان مخلصاً في دعوته يكون متعاوناً مع بقية الدعاة، فهم نخبة الأمة، إذا تعاونوا تألقوا، وإذا تألقوا رضي الله عنهم، ورضي عنهم الناس، ولذلك أنا أرفع لواء التوافق بين العلماء منذ خمسة وثلاثين عاماً، والفضل لله أن هناك إنجازاً في التقريب بين وجهات النظر بين الدعاة إلى الله عز وجل، ولكن لا يليق بهم أن يتراشقوا التهم وأن يتخاصموا، فهم نخبة الأمة، لذلك حرصت في دعوتي إلى الله على اللقاء بمعظم علماء دمشق، وتبادل الخبرات، فهذا مما يرفع قيمة العلم والعلماء، ومن بعض الحقائق الأساسية التي انطلقت منها في دعوتي أن الإنسان هو المخلوق الأول رتبة إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب: 72)، فلأن الإنسان قبل حمل الأمانة كان المخلوق الأول، فمن عرف نفسه عرف ربه، والإنسان مركب من شهوة وعقل، فإذا سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان، فالإنسان بين أن يكون فوق الملائكة إذا عرف الله، واستقام على أمره، وأحسن إلى خلقه، وتحرك في ما خُلق له، وبين أن يكون شر البرية إذا عاش الدنيا ونسي الآخرة، واتبع شهوته، وبنى مجده على أنقاض الآخرين، وبنى حياته على موتهم، وبنى عزه على ذلهم، وبنى أمنه على خوفهم.. فهذا الذي يدعو إلى الله يجب أن يدعو على بصيرة، وفي حدود ما يعلم ومع من يعرف، ومن هذا المنطلق وجدت أن الدعوة إلى الله تنهض بالأمة، وتنير العقول، وتحمل النفوس على طاعة الله عز وجل.. لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم، ممن في الدنيا وما فيها، لذلك قالوا: الكون قرآن صامت، والقرآن كون ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي، كان خلقه القرآن، والإنسان هو المخلوق المكرم، وهو المخلوق المكلف لعبادة الله، فعلة وجودنا في الدنيا عبادة الله، وأما العبادة التي هي علة وجودنا فهي طاعة طوعية، فالله لن يقبل أن تكون علاقتنا به علاقة إكراه، أرادها أن تكون علاقة حب، يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، فهو خالقنا مصيرنا بيده، حياتنا بيده ورزقنا بيده، مع ذلك قال: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، لأنه أراد أن نأتيه بدافع الحب، وطائعين، وبمبادرة شخصية، لذلك إذا أقبلنا عليه سعدنا بقربه، وبعض العارفين يقول:
أحبابنا اختاروا المحبة مذهباً
وما خالفوا في مذهب الحب شرعنا
فلو شاهدتْ عيناك من حسننا
الذي رأوْه لما وليتَ عنا لغيرنا
ولو سمعْت أذناك حُسن خطابنا
خلعتَ عنك ثياب العُجب وجئتنا
ولو ذقتَ من طعم المحبة ذرةً
عرفتَ الذي أضحى قتيلاً بحبنا
ولو نسمتْ من قربنا لك نسمةٌ
لمت غريباً واشتياقاً لقربنا
ولو لاحَ لك مِن أنوارنا لائحٌ
تركتَ جميع الكائنات لأجلنا
فما حبنا سهل وكل من ادعى
سهولته قلنا له قد جهلتنا
فأيسرُ ما في الحب للصب قتلُه
وأصعبُ من قتل الفتى يوم هجرنا
إذاً أطعْ أمرنا نرفعْ لأجلك
حجبنا فإنا منحنا الرضى مَنْ أحبنا
ولُذْ بِحمانا واحتم بجاهنا
لِنحميكَ مما فيه أشرار خَلْقِنا
وعنْ ذكرِنا لا يشغلنّك شاغلٌ
وأخلصْ لنا تلقى المسرةَ والهنا
وسلِّمْ إلينا الأمرَ في كُلِّ ما يكن
فما القرب والإبعاد إلا بأمرنا
وفي نهاية القصيدة يقول:
فوا خَجلي منه إذا هُو قال لي
أَيَا عبدُ أما قرأتَ كتابَنا؟
أَما تستحي منّا ويكفيك ما جرى
أما تخْتشِي من عتبنا يوم جمعنا؟
أما آن أن تقلعَ عنِ الذنبِ راجعاً
وتنظر ما بهِ جاء وعدُنا
فأحبابُنا اختاروا المحبةَ مذهباً
وما خَالَفوا في مذهب الحب شرعنا
أيها الإخوة إن الإنسان هو المخلوق الأول، والمخلوق المكرم والمخلوق المكلف بعبادة الله؛ أي أن علة وجودنا الوحيدة في الأرض أن نعبد الله، والعبادة طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية، فما عَبَدَ الله من أطاعه ولم يحبه. وما عَبَدَ الله من أحبه ولم يطعه، الطاعة طوعية ليست قسرية. الأقوياء يطاعون قسراً، لكن الله ما قَبِلَ أن نطيعه قسراً، بل طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
إخوتي الكرام، مع إيماني أن الإنسان هو المخلوق الأول والمكرم والمكلف -أرى وأرجو الله أن أكون على صواب- فإن في هذا الدين ركنين كبيرين: الأول معرفة الآمر، والثاني معرفة الأمر. فالعالم الإسلامي مشغول بمعرفة الأمر، لكنه معرفته بالآمر ليست كما ينبغي، لذلك فإن الأمر بين أيدينا -وهناك مسلمون كُثر يعصون الله- والمحور الأساسي في دعوتي، أنك إذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الله، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت منه، لذلك ففي دعوتي تركيز يأخذ نصف المساحة: التعريف بالآمر. الآمر لا تدركه الأبصار لكن العقول تصل إليه، فالله عز وجل أنزل آية "أمر" فالمؤمن الصادق له موقف من كل آية، وموقفك من آية الأمر أن تأتمر، وهناك آية "نهي" وموقفك منها أن تنتهي، هناك آية تصف أهل الجنة، موقفك أن تسعى لدخول الجنة، وهناك آية "تصف أهل النار" فعليك أن تفر من النار، وهناك آية عن الأنبياء السابقين، فعليك أن تتعظ. والآن ما هو موقفك من 1300 آية تتحدث عن الكون؟ هل نحن بلا موقف؟ هذا شيء مستحيل، الموقف هو التفكر في خلق السماوات والأرض، وهذا التفكر هو العبادة الأولى التي هي أوسع باب ندخل منه على الله وأقصر طريق إلى الله. ثمة نقطتان، بين الأرض وبين أقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئية، ما معنى أربع سنوات ضوئية؟ الضوء يقطع في الثانية الواحدة 300000 كم، وفي الدقيقة كذا، وفي الساعة كذا، وفي اليوم كذا وفي العام كذا وفي أربع سنوات كذا -نستطيع أن نحسب هذه المسافة من خلال الآلة الحاسبة بدقائق معدودة- فلو أردت أن تقطعها بمركبة أرضية، لوجدت أن المسافة بين الأرض وأقرب نجم ملتهب هي خمسين مليون عام، وإذا علمنا أن نجمة القطب تبعد عنا 4000 سنة ضوئية، أما المجرة المسلسلة فتبعد 2 مليون سنة ضوئية، الآن هناك مجرة تبعد عنا 24 ألف مليون سنة ضوئية، فلنسمع القرآن الكريم: فَلآ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (الواقعة: 75-76)، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً، فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً. ويظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، وطالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا، فيربحهما معاً. بينما يؤثر الجاهل الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً. ما بين الأرض والشمس هناك 156 مليون كم، والشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، أي أنها تستوعب مليون وثلاثمئة ألف أرض. لو أردنا أن نصل إلى الشمس بمركبة أرضية لاستغرقت الرحلة ملايين السنوات.. الأرقام مخيفة جداً، لذا جاءت الآية: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (يونس: 101(.
أيها الإخوة، إن التفكر في أمر السموات والأرض أمر إلهي. لقد ألفنا أن الأوامر الإلهية هي العبادات الشعائرية، لكن العلماء يقولون إن كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، ما لم يقم قرينة على خلاف ذلك. لقد نهجت في دعوتي منهج التعريف بالله، والمرء حين يتعرف إلى الآمر ثم يعرف الأمر يتفانى في طاعة الله. ففي حياتنا اليومية قد تأتينا ورقة من مدير البريد تقول إنك يجب أن تتسلم رسالة مسجلة، عندها يمكن ألا تتحرك شعرة في جسمك وقد لا تذهب، وقد تأتي ورقة من جهة أخرى فلا تنام الليل، فما الفرق بين الورقتين؟ الآمر، إن عرفت الأمر وعرفت الآمر تتفانى في طاعته، أما إن عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تتفنن في معصية الله. النقطة الثانية: أنا مؤمن بدعوتي وأعطيكم ملامح هذه الدعوة التي تقول إن الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، وأي دعوة تتجه إلى العقل وحده دعوة عرجاء، وأي دعوة تتجه إلى القلب وحده دعوة عرجاء، وأي دعوة تتجه إلى مصالح الإنسان في الدنيا دعوة عرجاء، فلا بد من النجاح الشمولي. الآن وفي وقتنا هذا ألغي النجاح الجزئي، إذا نجح الإنسان في جمع المال ولم ينجح في تربية أولاده لا يعد ناجحاً. لقد اخترت لكم أربع محطات: علاقتك بالله، وعلاقتك بأهلك وأولادك، وعلاقتك بعملك، وعلاقتك بصحتك، وأي خلل في هذه المحطات الأربع ينسحب على بقية المحطات، لذلك فالنجاح يجب أن يكون شمولياً، أن تكون العلاقة مع الله في أعلى مستوى، ومع الأهل والأولاد، وفي العمل، ومع الصحة؛ فإذا حققت هذا النجاح الشمولي كنت ناجحاً، أما أن تكتفي بنجاح واحد، فهذا لا يسمى نجاحاً.
أيها الإخوة، الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك. غذاء العقل العلم، وغذاء القلب الحب، لكن هناك حباً يسمو بك؛ أن تحب الله، أن تحب أنبياءه، أن تحب سيد الأنبياء، أن تحب الصحابة الكرام جميعاً، أن تحب التابعين، وأن تحب تابعي التابعين، وأن تحب العلماء، وأن تحب الدين، وأن تحب المساجد، وأن تحب القرآن، وأن تحب المؤمنين، هذا حب يسمو بك. وهناك حب يسقط بك إلى الحضيض، أن تحب أهل الدنيا من غير المؤمنين من أجل مصالحك معهم، لذلك قالوا: هناك حب في الله هو عين التوحيد، وحب مع الله هو عين الشرك. وهذا المجلس بإذن الله هو حب في الله. أيها الإخوة شيء آخر: الإنسان عقل يدرك، غذاؤه العلم، وقلب يحب، غذاؤه الحب، فما لم تتجه الدعوة إلى الله إلى غذاء العقل والقلب والجسم معاً تعد دعوة عرجاء، لذلك أتمنى على الدعاة أن يجمعوا في دعوتهم بين تغذية العقول، وتغذية القلوب. هناك شيء آخر: كل واحد منا، ومن دون استثناء، حريص على سلامة وجوده، وكمال وجوده، واستمرار وجوده، فلا يوجد من امرئ يحب المرض، ولا الفقر، بل هو حريص على سلامة وجوده، وعلى كمال وجوده، وعلى استمرار وجوده، وسلامة الوجود بالاستقامة على أمر الله، فبالاستقامة السلامة: مالك حلال، علاقتك مع النساء تنحصر في زوجتك، والمحارم فقط، وما دامت الحياة تحتوي على استقامة، هناك سلامة. وهذه مكافأة حتمية لكل مستقيم، لكنها استقامة سلبية لأنها تحتوي على كلمة "لم": لم أكذب، لم أغش. إن الاستقامة الإيجابية تحتوي على عطاءات. فالعمل الصالح الذي يرقى بك هو عطاء، وبالاستقامة تسلم، وبالعمل الصالح تسعد، وبتربية أولادك يستمر وجودك. عندما تتكلم عن خصائص الإنسان، أنت حريص على سلامتك، وعلى سعادتك وعلى استمرار وجودك، لذلك ذكر الإنسان في أقصر سورة وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (العصر: 1-2). هذه السورة قال عنها الإمام الشافعي: "لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم". يقسم الله هنا بمطلق الزمن، بهذا المخلوق الأول الذي في حقيقته زمن. والإنسان هنا خاسر، ولكن لماذا يا ربي أنا خاسر؟ لأن مضي الزمن وحده يستهلك الإنسان فقط. إذا عددنا أيام الأسبوع سبعة منها تشكل أسبوعاً، أربعة أسابيع تشكل شهراً واثني عشر شهراً تشكل سنة وهكذا. والإنسان في تعريف أحد العلماء الكبار ما هو إلا بضعة أيام، فكلما انقضى يوم انقضى بضع منك. حينما نعلم أن وجود الإنسان في الدنيا وجود مؤقت، فمن البطولة أن نستغل هذا الوجود لعمل صالح ينفعه بعد مضي الوقت.
إخوتي الكرام، هذه بعض الخواطر التي بنيت دعوتي عليها، ويجب أن أبيّن لكم الخصائص الكبرى في دعوتي إلى الله عز وجل، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن نكون عند حسن ظنه بنا، وأن ننتفع جميعاً بهذا الحق الذي بين أيدينا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :3853  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 44 من 209
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثامن - في مرآة الشعر العربي - قصائد ألقيت في حفل التكريم: 2007]

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء التاسع - رسائل تحية وإشادة بالإصدارات: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج