شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عملية تطهير
أخي محمد عمر
ينبغي أن أبدأ بتهنئتك، فأنت الآن كاتب آخر، لا يشبه من قريب ولا من بعيد أي كاتب كنته. تخلصت من رائحة ديل.. ومن عبير سيدة المكسيك الأولى.. في مذكراتها عن زوجها الحبيب البطل القديس الذي كانت المرحومة مخدوعة في بطولته وقداسته، ومن تأثير غرزة أنيس منصور، والشناوي، ودوقة وندسور..
إنها ولا شك عملية تطهير واسعة النطاق، تماماً كعمليات التطهير التي كنت ولا تزال تقوم بها في نهاية كل عام للتخلص من الصداقات الزائدة.. أو التي استنفدت أغراض وجودها..
وأنت جدير بالتهنئة والإعجاب لقدرتك على التجرد.. والتجديد.. فأنت في رسالتك هذه بطل من أبطال القصص أكثر مما أنت كاتب.. أو أديب.. أو مفكر.. أو حتى صديق.. وهذا الانقلاب نتيجة طبيعية لارتباطك بالقصة التي نقلتك من جو "المحلية" الضيق.. إلى جو "العالمية" الرحب. فكلامك -"العود" -وهو ما يزال في خشمك- كلام بطل من أبطال القصص.. البطل الذي يحل كل مشكلة بالسخرية منها إذا كانت أهون، أو أخطر، ممَّا يقدر لها. إنه الطابع العالمي! الشائع في القصص.. وما يزال للسخرية قدرها وسحرها، من حيث هي مهرب يضمن الأمان أو الشعور به من كل ما يخيف ويروّع أو يثقل ويؤود.. وقد يكون هذا صحيحاً من وجهة منطق الشعور.. والطاقة، فالبسيط لا يقتضي الجهد والاشتغال لتفاهته، والعظيم لا تضطلع به القدرة ففيم تجشم العناء إذاً؟ إن النكتة تتكفل بالحل.. وتحقق البطولة.
وأظنك تجد الآن مثلي أن البطولة من أهون المطالب، وأقلُّها عسراً بل لعلّها أهون مطلب على كل صاحب همة أو مراد لأنها عبارة عن إلقاء موعظة في قالب نكتة، أو نكتة في قالب موعظة، وتنحسم العقدة بإيجاز.
وعلى هذا النحو، فإن صاحبك الذي تقدمت إليه في طبع قصتك أو تهيئة الجو -في مصر- لطبعها.. من الأبطال أيضاً.. أبطال القصص.
فالقصة -عندك- عالمية، وهي بهذه الصفة متوافرة النظائر والأشباه لوفرة سكان العالم وسعته ولاتساع نطاق القصة بينهم وغزارة (إنتاجها). وماذا يفوت على عالم كهذا -من وجهة نظر صاحبك- بأن لا يتهيأ الطبع والنشر لقصة لا تتعرض للرأسمالية.. والاشتراكية.. والشيوعية.. ومشاكل العمال.. والطعام والعمل.. والأجور والجنس والصراع بين الشرق والغرب.. وهي مشاكل العالم الكبرى اليوم! إنها قصة عن زوج.. وزوجة.. ورجل آخر، فهي من المسائل التي تمت تصفيتها آلاف المرات من أيام المرحوم.. كارل ماركس.. والمرحومين.. دوماس الصغير والكبير.. وهيجو.. وأمثالهم من تحت ومن فوق.. وفي كل زمن ووطيء.. وبعبارة أكثر وضوحاً أنها من المعروضات التي انطوت أسواقها على مر الزمن المديد.. وأرجو أن لا تنسى أننا نتحدث عن العالم.. وعن قصة عالمية..
إن من المشاكل التي لم تتعرض لها النخوة حتى القرن التاسع، مسألة أن يكون للزوجة حق اختيار أي عدد ونوع من الرجال لصداقتها.. مقابل أن يكون للرجل حق إثبات الخيانة الزوجية بما لا يدع لدى القضاة شكاً في ممارسة الاتصال الجنسي، وبما لا يدع شكاً عندهم في سلامة عقله وأعصابه..
وقد تطورت وسائل الانتقال السريع.. واتسعت الرقعة التي تنتشر بها الأعمال.. والمصانع.. ووراء كل هذا نظام العمل.. وتغير عقليات المجتمعات بالمؤثرات الناشئة عن تطور الحياة.. واستبحار العمران وعذراً لاستعارتي تعبيرك.
وفي ظروف كهذه لا يكون هناك معنى لقصة تقوم عقدة الصراع فيها على زوج.. وزوجته، ورجل آخر فقط.. وشيء آخر، أين -في غير الشعوب التي تستمتع بكامل بدائيتها السعيدة- رجل آخر.. يستطيع أن يضع نفسه تحت تصرف زوج وزوجته أكثر من المدة اللازمة.. لقضاء الغرض؟ وأن يظل بين يدي الزوج.. أو كاتب القصة، حديدة في يد صانع؟ ثم أن لا يكون بإجمال هذه المشقة.. بطل القصة دون الزوج؟ وحتى تنتهي؟
كلام فارغ.. حتى في اليمن السعيدة -بعد طيران البدر إلى روسيا- وحتى إذا كانت القصة "محلية".. فكيف إذا كانت "عالمية".
إنه جانب من وجهة نظر صاحبك البطل، تتضمن الحل على أنه السخرية والسخرية على أنها الحل..
وسوء الحظ أن يرتطم بطل ببطل.. فالقصة لا يقيم البطولة فيها بطلان.. ولقد ترصد لك سوء الطالع في شكل بطل.. أو البطل في سوء طالع.. فتلازمك البطولة بالثمن التقليدي نفسه.. السخرية.. وفي ظنك أنه ذو أهمية لأنه يمثل جزءاً من نفسك في فكرة.. أو مقصد من أفكارك ومقاصدك أنت لا من أفكاره ومقاصده هو..
وهنا تبرز مسألة إلفورد كوحدة من وحدات الدور.. وبالتسلسل. لقد عاشت فيك فكرة.. تحولت إلى حافز.. فمحاولة قدر لها أن تشل.. وأن تتلاحق صور فشلها بتكرار التجارب.. والاختبارات.. وأن يلد هذا الفشل مشكلة.. امتلأت بها أبواب الزمن الثلاثة: الماضي.. والحاضر.. والمستقبل.. وأن تقتضي هذه المشكلة حلاً.. وأن يكون الفرق بين الحل المُرضي -بضم الميم- والممكن تأتيه رقماً من الريالات أصبح التسليم به مشكلة أخرى.. فأدت إلى مشكلة "التخزين" عاماً هبطت به القيمة.. ولم تصعد. وانتقلت إلى التاريخ لترتبط به على نحو ما، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، علاوة على ارتباطها بالأعصاب.. وبالمجتمع في تبادل التأثر والاشتغال.. أو السخرية والهزء من المشاركين والشامتين.
أليس هذا من سوء تقدير الناس لسلعة ذات أهمية، في تحقيق دخل قومي ثابت، تحمل كل هذه الشحنة من ذكريات عارضها، وحوافزه، وآماله، ومقاصده، وجهوده.. وأخيراً كفاحه.. وطابعه الأدبي والفلسفي..
وبطولته؟
وقد آن أن أسألك عن اسم صديقك الضيق الفكر الذي تشغله القاهرة عن أمر جيد كطبع قصتك.. العالمية؟ إنه لعقوق بالعالم يا صديقي ما يصدر عن رأس تصيبه ذرة إدراك. ودع ما فيه من العقوق بحقك عليه، وسابقة علاقتك معه، وأنا لا أعرفه حقاً.. ولكن لا بد أن يكون الأمر بينك وبينه حريّاً على ما أوجب لك عليه الحق والدالّة.. وإلاّ لما استثقلت منه ما استخف به من جانبك ومن حرمة حقك، وحق العالم رقعة.. وسكاناً يفيضان بالحاجة إلى رسالة تحملها قصة لا يغني عنها ما سبقها من ملايين القصص. إنها غفلة ما أحسب أن الله يغفر للمصاب بها زلة من زلاته.
وتأخذني الرحمة به وأقول: لعلّ له (فورداً) وأنت تلوم.. أو لعلّ له قصة لم تقسم البطولة فيها بعد لأحد.. فقام هو فيها بديلاً عن البطل.. كما يقوم رشيد عنك بالعمل كله في إجازاتك المتلاحقة.. ونصيبه "ربع راتب الوظيفة!" أي وفي حدود النظام.. حتى تعود وتتسلم كرسي البطولة..
وسمعت كلاماً عابراً عن دكاكين.. وبيبان.. وهو مشروع سيكون إن شاء الله محمود العاقبة، فالحاجة إلى مثله ماسة من أوساط الناس وعليتهم.. قادرين على الدفع.. أو غير قادرين.. وكنت مشوقاً إلى أن يكون كلامك عنه عرضاً لما ستكون عليه حالته، فمن المرجّح أن أكون أحد زبائنه المستديمين، ولا سيما إن حُسِبَ فيه حساب الوافدين المنقطعين مثلي، وإن كان من مبادئه البرُّ بهم ومسايرتهم على ما يستطيعون.. وما لا يستطيعون.. اجتلاباً لحسن الأحدوثة من ألسنتهم الشاكرة.
أتنوي الشروع في قصة أخرى! إنها قصة.. الفورد موديل 1936 أو 1946 فقد نسيت تاريخ صدوره.. قصة لا تختلف عن قصة رجل متفائل بزوجته اختارها على حسن القالة من العارفين بحالها.. تزوجت رجلاً.. أو رجلين قبله.. وتركت وراءها من الحالتين ذكراً حميداً!! ولكنه النصيب اقتلعها من يد الرجلين ليسعد بها الثالث الذي ازداد.. إيماناً بأنها جوهرة أحالها القدر في يديه إلى جمرة تأخذ منه أضعاف ما أخذ منها.. والباقي للقصة.. وبطولة الزوج.. ولن تعدم رجلاً آخر.. فهو على التقريب أو التخصيص الذي نازعك هواها.. وأغراه بها أو أغراها به.
إنها القضية التي تدور بها أمثال هذه الأمور في بلاد ما يزال لدى أهلها الوقت والمزاج والرغبة في تتبع الأسرار! والمجهولات! والغوامض.. والعلاقات والهيام بالقصة.. وتعريف السيارات.
لا تتسرع إن أمامنا وقتاً طويلاً.. وبهذه المناسبة إزاي محمد أحمد..
إلى اللقاء أيها الصديق.. وسلمت.
أخوك حمزة شحاتة
1960م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :483  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 92 من 99
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.