شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مقدمة
بقلم الأستاذ عزيز ضياء
في هذه المجموعة من رسائل الصديق الأستاذ حمزة شحاتة (رحمه الله)، إلى ابنته السيدة شيرين، دفق من مشاعر الأبوة الحنون، إذا كانت تؤخذ على أنها طبيعية لدى كل أب نحو بناته أو أبنائه، فإنها تستوقف النظر حين نراها تترقرق شلالاً من الضوء وأضمومة من الألوان تساعدنا على المضي في محاولة اكتشاف ما تزخر به القمة، التي سبق أن قلت: إنها (عرفت ولم تكتشف).
وليس جديداً أن نقول إن حمزة (رحمه الله) كان فناناً أصيلاً، ومتنوّع المواهب والقدرات، وعلى الأخص كشاعر وكاتب، وموسيقار، ولكن الجديد بالنسبة لهذا الفنان بالذات، أن يكشف لابنته شيرين عن هذه المشاعر، وأن ينطلق في التعبير عنها في هذه الرسائل، بكل ما ينبض به قلبه من الحب، وبكل ما يهتز له وجدانه من القلق عليها بعد أن فارقها أو فارقته بزواجها. وهو جديد لأن هموم فكره، ومعاناته من تفجّر وحريق هذا الفكر، واستغراقه في عالمه الخاص من القضايا الفنية، والفكرية، التي يعلم كل أصدقائه أنه كان يعيشها بكل تفاصيلها شديدة التعقيد في كل لحظة من نهاره وليله.. كل ذلك -وهو عنده كثير ومتنوع ومتباعد العلاقة- خليق بأن ينسيه الاهتمام بشيرين أو بغيرها من بناته، ما دام مسار الحياة في المنزل منطلقاً إلى غايته المقررة والتي يبلغ من ألفتنا لها وتعوُّدِنا عليها، أن تكتسب في إحساسنا صفة الديمومة المطمئنة الوادعة التي يندر أن تسترعي انتباهنا، أو تستغرق جانباً من اهتمامنا وعلى الأخص اهتمام فنّان في مستوى حمزة، تشغله (كلمة) عابرة في مقال يقرأه مثلاً، أو ضربة ريشة على وتر من أوتار العود في لحن من الألحان، أضعاف ما يشغله أي شأن من شؤون المنزل المعتادة، ومنها مطالب البنات أو أحوالهن في مراحل طفولتهن، أو بعد أن نهَدْنَ وأخذن يستقبلن مرحلة اليفع والشباب، وفيها زواج إحداهن، وارتحالها مع زوجها إلى حيث يقيم.
ويصعب أن نعلل لما تكشف هذه الرسائل، من انفعالات وجدانه، ولهفة مشاعره، وقلقه الذي يبلغ حد اهتمامه، حتى بما ينبغي أن تتناوله شيرين من طعام، وما ينبغي أن تمارس من رياضة، ثم ذلك الاهتمام الملهوف بعلاقاتها بالمجتمع، وبقدراتها على العطاء كمذيعة أو كاتبة، بل حتى بشؤونها الخاصة جداً، ويحبوها بالعطف والتدليل، وشغل وقته بالكتابة إليها ليقول لها الكثير والرائع مما يتجنّح ويتألق من آرائه في إطار العلاقة بين أب وابنته، وفي جوّ هذا العطف الذي يشتعل معانيَ وصوراً والتفاتات ذهنٍ ودعابةً حلوةً ودوداً.
كلا.. ليس هذا هو التعليل الصائب أو المعقول والمقبول.. وإنما الذي يمكن أن يرجح -عندي على الأقل- هو أن حمزة قد وجد في ابنته شيرين شيئاً منه.. من الفنان في شخصيته، فطبيعي جداً، أن تمتلىء نفسه رضى، وأن تخالجها مشاعر فرحة عامرة، إذ ليس هناك أعظم في تقدير أب فنّان، من أن ترث إحدى بناته نصيباً من شخصيته، وأن يكون هذا النصيب الموروث أجمل وأغلى ما يعتز به ويعيش معاناته، وهو الفن الذي عاش حمزة كل عمره يتبتّل في محرابه، ولا يرى سواه منهج حياة، وغذاء روح، ومسبح فكر.
ومما تكشف هذه الرسائل، بين حمزة وشيرين، أن الفترة التي عاشها بعد أن اكتشف هذا الجانب الموروث منه فيها، كانت إحدى الفترات التي ندر أن تمتّع بمثلها في حياته.. فترة خفّت في نفسه خلالها مشاعر التشاؤم والزهد التي ظلّت تغمره عهداً طويلاً من عمره. فهو في أكثر من رسالةٍ مطمئن وادع راضٍ عن يومه، إن لم يكن إلى حد المرح والبهجة، فإلى حد أنساه أن يضرب على نغمةِ الضيق بالحياة والملل منها، والهروب منها من شقائه بمتناقضاتها. فكأنه رأى في ما ورثته شيرين من شخصيته عودةً إلى أيام له خلت، وماض عاشه وانطوى، ومن هذه الأيام شبابه الذي حفل بالعطاء الفني من جانبه، وبالإعجاب منقطع النظير من مجتمعه.. ومن هذا الماضي، عهود حلّق فيها في آفاق الحب، وارتوى خلالها من مناهل الجمال فغنّى الحب.. وغنّى الجمالَ في روائعه التي لا تنسى، ومنها: (وداع) التي ما تزال تتردد على ألسنة الكثيرين حتى اليوم. ولعلّه في هذه الفترة ورسائله إليها، لها طبيعة (الخصوصية) التي تبعدها عن احتمال إطلاع أحد سوى شيرين عليها، كان ينطلق على سجيته وفي عفوية الأب الذي يتحدث إلى ابنته، فلا يتكلّف الاحتراز من خطأ، ولا يحرص على التأنّق في العبارة، ولا يتحسّب لوقع الفكرة على نفس القارىء، فجاءت كل رسالة نموذجاً خاصاً، إن لم يكن فريداً، بين كل ما كتب للنشر أو لأي صديق من أصدقائه. ومع ذلك، فإن ما يشيع فيها من لمسات جمال وفن ومنابع إشعاع فكري في هذه الشؤون التي نجده يعالج النصحَ بها أو التنبيه عليها، يرفعها إلى مرتبة النادر من الأعمال الأدبية، ليس فقط، بالنسبة إلى كاتبه الكبير، وإنما -ربما- بالنسبة للأدب العربي الحديث. وهذا في الواقع ما يمتاز به حمزة منذ كتب تلك المحاضرة التي يبدو أنه قد آن الأوان لنشرها بين ما تقوم مؤسسة تهامة بنشره من الأعمال، فيتاح لأبناء هذا الجيل أن يروا عملاً فكرياً نادر المثال، تمخضت عنه عبقرية حمزة منذ حوالي أربعين عاماً، ولم يكن قد بلغ الثلاثين من العمر، بل منذ كتب روائعه الشعرية في الحب، أو في جدة، أو حتى في الأهاجي التي دارت بينه وبين الأستاذ محمد حسن عواد تغمّده الله برحمته وأسكنه فسيح جنّاته.. أردت أن أقول أنه (رحمه الله) يمتاز بمستوى من التكامل الفني في ما يكتب نثراً وشعراً، وفي الرسائل التي كتبها إلى ابنته شيرين، أو في أي رسالة يكتبها إلى أي صديق.. إذ يستحيل تقريباً أن تضطرب عنده العبارة أو يضعف السبك أو يتعقّد الترابط في تسلسل الجمل أو تلتبس مفاهيم الفكرة ومراميها وهذا إلى جانب تلك الأناقة العجيبة في خطّه الجميل فكأن الكتابة عنده نوع من صوغ الجوهر الثمين الذي يستحيل أن يخرج من قلمه إلا رائعاً أخّاذاً، لا يسعك إلاّ أن تتأمّله بكثير من التأمّل والإعجاب.
وبعد.. فالقارىء، الذي أتاحت له الابنة شيرين أن يعيش هذه اللحظات الحميمة بينها وبين أبيها، لا بد أن يقرأ المقدمة التي كتبتها هي عن مشاعرها نحو نشر هذه الرسائل، ولا بد أن يجد في القليل الذي كتبته، الكثير الذي قلت أنها قد ورثته من أبيها، وكان هو الذي وجده أو اكتشفه فيها، فامتلأت نفسه رضى، وخالجتها مشاعر الفرحة الغامرة، فعاش الفترة التي أعقبت هذا الاكتشاف بنفس خفّت فيها مشاعر التشاؤم والزهد، ولم يكن ذلك قليلاً بالنسبة له، بعد أن ظلّ سنين طويلة في شبه عزلة تامة، يخوض في الوقت نفسه معركة الصراع الفكري الحاد التي لو قلنا إنها لم تهدأ قط وإلى أن لفظ آخر أنفاسه، لما تجاوزنا الحقيقة في شيء.
ولهذا فإني ألحّ على شيرين أن تكتب، وأن تقاوم مشاعر الاستخفاف بما ورثته عن أبيها، وبذلك -ربما- تحقق الأمل الذي كان يعقده عليها، فنراها نحن كاتبة تملأ في ساحة الأدب النسائي جزءاً من فراغه، الذي أشعر أنه أخذ يمتلىء بمن أقرأ لهن اليوم في الصحف والمجلات.
وإن كان لا بد من كلمة أختتم بها هذا الذي أقدّم به رسائل حمزة إليها، فهي أنها جديرة بشحنة قوية من شكر القراء، وشكر دوائر الفكر والفن، ليس فقط في المملكة، وإنما في العالم العربي الذي سيفتح عينيه على واحد من رجال الفكر عندنا، من حقّه على الفكر العربي أن يكون في صف الطليعة منه.
رحم الله حمزة.. فقد كان قمة قلت أنها عُرفت ولم تكتشف.. ولعل المقبل من الأيام يتيح للدارسين أن يكتشفوها، وأن يضيفوا إلى القليل الذي عرف عنه، الكثير الذي لا بد أن يقع في دائرة الضوء مع الأيام.
عزيز ضياء
جدة -في 5 جمادى الثانية 1400هـ
الموافق 20 أبريل عام 1980م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1299  التعليقات :0
 

صفحة 1 من 99
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.