شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة سعادة الاستاذ عبد الله حمد الحقيل ))
- والآن كما قال شاعرنا الأستاذ باعطب مهج الحضور تتمنى أن تستمع إلى ضيف الاثنينية سعادة الأستاذ عبد الله بن حمد الحقيل:
- بسم الله والحمد لله الذي أرسل رسله بالهدى والبينات، والصلاة والسلام على أفضل رسله وأشرف دعاته سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الهداة البررة.
أيها الأخوة الأعزاء والسادة الأجلاء والصفوة المختارة، أحييكم بتحية الإسلام الخالدة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. واسمحوا لي أن أعرب لكم عن خالص الإمتنان وأبدأ القول بإزجاء التحية ووافر الشكر لسعادة الأستاذ الأديب عبد المقصود محمد سعيد خوجه، الذي أحيا هذه الأمسيات الأدبية الغرّاء والاثنينيات الزاهية المفعمة بالأدب والعابقة بالفكر والحافلة بالشعر وبكل هدف كريم ومعنى نبيل في جلسات هذا المنتدى الفكري الخصب، الذي يذكرنا بالماضي المجيد والتاريخ الأدبي الحافل لأسلافنا ومجالسهم الأدبية ومسامراتهم العلمية وندواتهم الفكرية ومطارحاتهم الشعرية الدافقة بالحب والفكر والعلم والمعرفة مما حفلت به كتب التراث كالعقد الفريد ونصح الطبيب وغيرها فغرسوا للأدب جنانا ناضرة وشادوا للعلم ربوعاً عامرة. وكانت مجالسهم لا تخلو من أديب يحاضر ومتكلم يناظر وشاعر يقول قصائده وناشىء يروى ويستفيد إلى غير ذلك مما أثر عن أولئك الأسلاف من مجالس وأندية ينتابها القول والفعل وإنه لتقليد حضاري عريق وموقف إنساني نبيل وتقدير من أخينا الكريم الأستاذ/ عبد المقصود لجهود الرواد من أبناء هذه البلاد الذين أسهموا بجهودهم المخلصة في خدمة دينهم ومليكهم ووطنهم ولقد قيل:
وإنما المرء حديث بعده
فكن حديثاً حسناً لمن روى
 
أيها الأخوة: ماذا عساي أقول بحضرة أرباب الفصاحة فالموقف يوجب فصاحة البيان وجزالة القول وسمو المعنى وإشراق العبارة، ولا شك أني سعيد وممتن لأخينا العزيز الذي أحلني هذه المنزلة الكريمة وهيأ لي هذا المقام وما أسبغه عليَّ من جميل أدبه وما أحاطني به من حسن ظنه ورقيق كلماته مما لست أقدر على رده وإنما هو حسن ظن بصاحب كما يقول النابغة ومن واجبي أن أخصه بأصدق آيات الشكر وجزيل الثناء على كلمته الكريمة النابعة من نفسه الكريمة وخلقه النبيل وطيب محياه وكريم شمائله وهو الرجل الذي جمع بين الأدب والمال في وقت طغت فيه الماديات ولقد قيل (قد يجمع الله بين العلم والمال) وقيل:
وما هذه الأخلاق إلا مواهب
وإلا حظوظ في الرجال تقسم
 
ولقد قيل:
وما هذه الأيام إلا معارة
فما اسطعت من معروفها فتزود
 
وشكراً حقاً وحقيقة للإخوة المتحدثين والذين أسعدت بحضورهم، وإني لأشعر بالحياء مما قالوه فما أنا سوى تلميذ بين أساتذة وإني لأعتز بأخوتهم ومشاعرهم وتحيةً لجميع الحضور الذين جاؤوا من أجل هذه الأمسية فشكراً له على حفاوته وما يحظى به من محبة وإخاء ومودة ولقد أثر عن الرسول عليه الصلاة والسلام قوله: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله".. وقوله: "أشكر الناس للناس أشكرهم لله" وقد قيل:
وإذا أحب الله يوماً عبده
ألقى عليه محبة في الناس
 
وينطبق عليه قول القائل:
حبيب إلى الزوار غشيان داره
كريم المحيا شب وهو أديب
 
كما أشكر هذا الإجتماع المبارك في هذه الأمسية الندية الطرية مع هذه الوجوه الوضيئة المشرقة والنخبة الطيبة والصفوة الخيرة من رجال الفكر وأرباب البيان ورواد الأدب وحملة الأقلام وصناع الكلمة وفرسانها الذين شرفوني بحضورهم ومكارم أخلاقهم وأرجو أن أكون عند حسن ظنهم..
إن الكرام إذا لقيتهم
ستروا القبيح وأظهروا الحسنا
ولقد قال شاعر يصور مثل هذه الجلسات الأدبية: والتي هي كتاب حي مفتوح:
وجلسة بالنقا في معشر نجب
أشهى إليَّ من الدنيا وما فيها
 
إنه لقاء ومنتدى يمتلىء أدبا ويفيض بالذكريات الأدبية والسير العطرة ويزدهي بالشعر ويعبق بالفكر وسمو الأهداف ونبل الغايات مما ذكرني بقول القائل..
روى عنـك أهـل الفضـل كـل فضيلة
فقلنا حديث الحب ضـرب مـن الوهـم
لما تلاقينا وجدناك فوق ما
سمعنا به في العلم والأدب الجم
 
لقد تجلى الحب والوفاء والإخاء في هذه الأمسية وفي هذا الجمع الكريم من الكرام البررة في رحاب هذا القصر الجميل وفي عروس البحر الأحمر وبوابة البقاع المقدسة أرض الطهر والصفاء والنقاء والرسالة والتاريخ المجيد.
ونحمد الله أن مجتمعنا زاخر بالفضل عابق بالمروءة والتلاحم والتكريم والحب الصادق النابع من القلوب ولقد قيل:
ثناء الفتى يبقى ويفنى ثراؤه
فلا تكتسب بالمال شيئـاً سـوى الذكـر
فقد أفنت الأيام كعباً وحاتماً
وذكرهما غض جديد إلى الحشر
 
ولقد أنشد أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم
بأفعالنا أن الثناء هو الخلد
 
ولقد قيل:
رب مدح أذاع في الناس فضلاً
وأتاهم بقدرة ومثال
إنما يقدر الكرام كريم
ويقيم الرجال وزن الرجال
 
وكانت مصدر إشعاع وتوفر على التدريس بها ثلة من المتخصصين في اللغة العربية والعقيدة والحديث والتفسير والفقه والفرائض، من أجل هذا أجدني سعيداً أني تلقيت بداية تعليمي في دار التوحيد والذي أمدني بكثير من الوسائل والغايات التي بدأت أتطلع إليها فهي بحق إحدى ركائز النهضة التعليمية ونقطة إنطلاق في التعليم.
وكان لها فضل الإسهام في تكوين جيل واع مستنير وما زال التاريخ التربوي يحتفظ في ذاكرته لها بالذكر الحسن، وكان لطلابها جُد العلماء وحب المعرفة والتفرغ لطلب العلم فكانت مؤسسة علمية وتربوية وكانت الدراسة تبدأ في شهر محرم وتنتهي نهاية شهر شعبان من كل عام، ولا شك أن دار التوحيد والمعاهد العلمية والكليات كانت الانطلاقة الأولى لمسيرة التعليم وكانت من المعاقل الأولى التي احتضنت الرعيل الأول من أبناء هذه البلاد وصناعة جيل كامل وكان لهم دور في وضع اللبنات الأولى لتنمية بلادنا في كافة المجالات ومن دار التوحيد إلتحقت بالمعهد العلمي بالرياض الذي صار بحكم تخصصه منافساً لها في إستقطاب الكفاءات العلمية والطلاب، وواصلت التعليم حتى تخرجت من كلية اللغة العربية سنة 1378هـ وكان بها ناد أسبوعي يحفل بالمسامرات الأدبية والمساجلات الشعرية.
وكما قال الشاعر:
يتزين النادي بحسن حديثهم
كتزيّن الهالات بالأقمار
 
وقد كنا نهتم بالكتاب ونحرص على قراءته برغبة وشوق.
وكان لا يشغلنا شيء عن العلم فقد كان الشباب متعطشاً للعلم والأساتذة يبذلون ما وهبهم الله من معرفة بكل إجتهاد وكانوا فخورين بمعلومات الطلاب وسعة إطلاعهم، وما أجدر جيل اليوم أن يأخذ نموذجاً ومعرفة بحياة من سبقهم، كي يعرفوا كيف كانت بلادنا وكيف قفزت وتطورت تطوراً هائلاً في جميع المجالات والأخذ بأسباب الرقي والتقدم كافة، وكيف كان الجيل الذي سبقهم جاداً وفعالاً ونشطاً يتسابقون ويتنافسون في العلم وترديد المعلومات والمناقشات ليلاً ونهاراً، وكان التعليم رسالة تضطلع بها مدارسنا ومعاهدنا بكفاءة. فتاريخ التعليم ومسيرته إنما هو جزء أصيل في مسيرة التاريخ الوطني وتعكس تجربة فريدة في التطور والقيادة الحكيمة، فمسيرة التعليم بخصائصها المتميزة أصبحت عضواً فاعلاً وقوياً في تشكيل النهضة الحضارية.
كما أشكر أخي الأستاذ عبد المقصود خوجه على اهتمامه بتسجيل هذه الندوات بحيث تشكل رافداً ثراً للعطاءات الفكرية وسجلاً تاريخياً سيكون له شأنه، إذ هذا الاحتفاء يأتي لتكريم رجال أسهموا في حمل الشعلة الأولى التي أثارت الطريق لأجيالنا وتكريماً لهم على ما أسدوه لمجتمعنا في ظروف كان يعز فيها العطاء وتعف فيها النفس عن طلب الجزاء، وبتسجيل تجاربهم لا بد أن يكون مفيداً للأجيال الحاضرة والقادمة وحبذا إجراء دراسات شاملة.
 
أيها الأخوة: لقد اعتاد هذا المنتدى الكريم أن يستمع إلى ترجمة وسيرة للضيف وسأتحدث عن ذلك بالقدر الذي يتسع له الوقت. ومعذرة في التقصير فقد جئت مستمعاً ومستفيداً، فأنا بينكم كجالب الثمر إلى هجر وسأقلب معكم بعض الوريقات والذكريات التي عشت بها ولها في سني الحياة، فقد ولدت ببلدة المجمعة 1357هـ إحدى محافظات منطقة الرياض وقاعدة إقليم سدير وأحد وديانها وادي "أشي" والذي ورد ذكره في الشعر العربي وحن إليه الشاعر زياد بن جميل التميمي المعاصر لجرير.
وقد كان في اليمن فقال قصيدة طويلة يذكر فيها مدارج صباه ومسارح حياته ومرابع هواه ومجالي صباه يترنح بذكرها ويتشوق لها.
وحبذا حين تمسي الريح باردة
وادي أشي وفتيان به هضم
 
وقال فيها الأديب الشاعر الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي خلال زيارة لها قصيدة طويلة أجتزىء منها ما يلي: (1) وكانت الحياة فيها رتيبة ونشأت نشأة طبيعية في مجتمع متواصل متماسك ملتزم بالقيم والمثل والتقاليد والعادات الكريمة ومن أسرة متوسطة الحال تحب العلم وتحترم العلماء ويوجد بين أبنائها من يحب العلم والأدب ويحفظ المعلقات ومقصورة ابن دريد ولامية العرب والعجم ونونية ابن القيم وحوليات زهير وحماسيات عنترة وإعتذارات النابغة ونقائض جرير ومراثي أبي تمام ومدائح البحتري وغيرها من ذخائر التراث العربي وفي المجلس الأدبي والمسامرات الليلية العامرة بضروب الأدب شعراً ونثرا، كان أبن عمي الشيخ حمد الحقيل ينشدنا بصوته الرخيم وإنشاده الجميل حيث يمتاز بحسن الصوت وجودة الإلقاء وقوة الحفظ وحسن التأثير ويشهد ذلك المجلس لفيف من المتعلمين وكنت أعجب مما أسمعه في هذا المجلس وأستفيد مما أسمع، ولقد درست المرحلة الابتدائية في المجمعة وحصلت على الشهادة الابتدائية عام 1370هـ ولم يكن يوجد أمام الحائز على هذه الشهادة سوى ثلاث مدارس:
1- مدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة.
2- مدرسة دار التوحيد بالطائف.
3- المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة.
 
وذهبت إلى مكة المكرمة عبر رحلة برية شاقة عبر الفيافي والمهامه والمفاوز والرمال وكان الطريق صعباً حيث لا طرق معبدة ولا استراحات على الطريق وما زالت تلك الأمكنة نقاطاً حية في الذاكرة وكانت المدة عشرة أيام وكنا ثلاثين طالباً مجموعة من طلاب دار التوحيد وكلية الشريعة بمكة وفي سيارة من سيارات الشركة العربية وتسير بسرعة 25 كيلو في الساعة وتقف باستمرار ونحملها مرات عديدة وسط الرمال وكما قيل.. "السواق عليمي والموتور قرنبع" وبعد وصولي إلى مكة المكرمة ذهبت إلى مديرية المعارف لمقابلة الشيخ محمد بن مانع رحمه الله مدير المعارف وأبديت له رغبتي في الالتحاق بتحضير البعثات فطرح عليّ أسئلة متنوعة في النحو والفقه والتوحيد وكان آخرها هذا السؤال في النحو.
متى يجوز الابتداء بالنكرة؟ وكنت أحفظ بعض أبواب ألفية ابن مالك فأجبته بأبيات منها وقلت جواباً عن سؤاله الأخير لي.
والأصل في الأخار أن تؤخرا
وجوزوا التقديم إذ لا ضررا
ولا يجوز الإبتداء بالنكرة
ما لم تفد كعند زيد نمره الخ
 
ولا يفوتني أن أومئ إلى ما كانت تضطلع به المدرسة الابتدائية من رسالة علمية في ذلك الوقت، وما زلت أذكر حين كنت طالباً بالمدرسة السعودية بالمجمّعة وقد كانت تلك المدرسة في عز تألقها ومسارها التربوي الصحيح أن الفصل الذي ندرس فيه في ذلك الوقت كان حريصاً على العلم في كل شيء في العلوم الدينية والعربية والمحفوظات في الخط بأشكاله المتعارف عليها في حفظ القرآن الكريم وتجويده في التمثيل والأناشيد والإملاء وغيرها، كما هو درس مقرر أو نشاط خارجي يقرره مدير المدرسة. وأذكر من بين مديريها الشيخ عثمان الصالح وسليمان ابن أحمد وموسى عطار وعبد الرحيم صديق، وعودة سليمان وعثمان الحقيل وحسين حسونة وغيرهم - كان التعليم حينها ذا جدية وتفوق من حيث المنهج القوي كما إن الطالب كان جاداً ومهتماً والمواد المدرسية ذات قوة ووزن، فعلى سبيل المثال كان الطالب يدرس كتاب العقيدة الواسطية وزاد المستقنع والنحو الواضح لعلي الجارم وسبل السلام وفتح الباري ونيل الأوطار وغيرها من كتب الأدب والتاريخ. إنها صور من الذاكرة ولذلك أتمثل بقول الشاعر:
بلد صحبت به الشبيبة والصبا
ولبست ثوب العمر وهو جديد
 
كانت المدارس الابتدائية على جانب من القوة وقد تعيّن عدد من خريجيها أساتذة ومديري مدارس وموظفين في مصالح الدولة المختلفة وفي شتى فروع الحياة.
ونعود إلى دار التوحيد التي وجهت للدراسة بها وقد طبقت شهرتها آفاق المملكة لأنها كانت مركز تفاعل علمي فعال، فقد أمضيت فيها عامين دراسيين وكانت ميدان تدريب وتنشئة وتوجيه ومنتدى تآلف وتآخي، وما زالت ذكرياتها تعيش في الوجدان لكونها باكورة أيام الشباب وكما قيل:
وحبب أوطان الرجال إليهمو
مآرب قضاها الشباب هنالكا
وما نسيت ولن أنسى مرابعها
وسدرة كنت في المثناة أرقاها
 
لقد كان الزمان والمكان موصولين بوجدان الطلاب، وما زلنا نرى أجيال الطلاب من دار التوحيد حلقة موصولة من الاعتزاز والفخر وهو أمر قل أن نجد له مثيلاً بهذه الصورة والدرجة في بقية المدارس.
 
أما عن الانتاج الأدبي فقد صدر لي عدة مؤلفات مطبوعة منها:
1- كلمات متناثرة
2- رحلات وذكريات
3- على مائدة الأدب
4- مراحل إعداد المعلم
5- رمضان عبر التاريخ
6- في التربية والثقافة
7- صور من الغرب
8- المفيد في الإنشاء
9- الشذرات في اللغة والأدب والتاريخ والتربية
10- رحلات إلى الشرق والغرب
11- يوم في ذاكرة التاريخ
12- شعاع في الأفق (ديوان شعر )
13- "رفقاً بالفصحى"
 
إلى جانب بحوث ومقالات في الصحف والمجلات الفصلية والشهرية وأحاديث في الإذاعة والتلفاز ولديّ عدد من المؤلفات والدراسات الأدبية والتاريخية ستأخذ طريقها للنشر بإذن الله ولقد شاركت في عدة مؤتمرات محلية وعربية ودولية منها:
1- المؤتمر الأول للأدباء السعوديين مكة المكرمة 1/3/1394هـ.
2- مؤتمر المدينة العربية وقد ألقيت بحثاً في المؤتمر بعنوان (الحفاظ على التراث العربي الإسلامي للمدن العربية) في 29/4/1401هـ في المدينة المنورة.
3- مؤتمر المنظمة العربية للتربية والثقافة - والذي إنعقد في طرابلس 1396هـ وقد ألقيت بحثاً بعنوان (تطوير التعليم في المملكة العربية السعودية).
4- المؤتمر العالمي للوثائق المنعقد في لندن سنة 1399هـ وقد انتخبت عضواً في لجنة الصياغة وألقيت بحثاً عن (الوثائق بدارة الملك عبد العزيز).
5- المؤتمر التعليمي المنعقد في تونس سنة 1400هـ وألقيت بحثاً بعنوان (من "قضايا التعليم").
6- المؤتمر الجغرافي بجامعة أم القرى مكة المكرمة 1401هـ.
7- المؤتمر الدولي للوثائق والمخطوطات المنعقد في إسلام أباد سنة 1402هـ، وقد ألقيت بحثاً بعنوان (وثائق ومخطوطات).
8- المؤتمر الخامس للأمانة العامة للمركز والهيئات العلمية المهتمة بدراسات الخليج والجزيرة العربية سنة 1401هـ وقد ألقيت بحثاً بعنوان (المسؤولية التاريخية لدارة الملك عبد العزيز).
22- ندوة "صلاح الدين الأيوبي" - الرباط وقد شاركت ببحث في الندوة بعنوان (صلاح الدين بطل حطين) 1414هـ.
23- ندوة المؤرخين العرب بعنوان "الحضارة الإسلامية وعالم البحار" وألقيت بحثاً بعنوان (أحمد بن ماجد رائد علم البحار) 24/5/1414هـ.
24- ندوة أبو القاسم الشابي فاس 1415هـ.
25- ندوة المؤرخين العرب في القاهرة 25/6/1415هـ. بعنوان (الصراع بين العرب والاستعمار الأوروبي) 1498م - 1798م. وغيرها من الندوات والملتقيات والمؤتمرات.
 
كما أني عضو في عدة هيئات علمية وثقافية وتاريخية منها: رابطة الأدب الإسلامي، رابطة الأدب الحديث بالقاهرة، عضو النادي الأدبي بالرياض، مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز وغيرها. ولقد عملت في وزارة المعارف في مجالات متعددة منها:
1- إدارة التفتيش.
2- إدارة التربية الإسلامية.
3- مديراً لمدرسة اليمامة الثانوية بالرياض.
4- أميناً عاماً للمجلس الأعلى لرعاية الآداب والعلوم والفنون.
5- مديراً لإدارة الكتب والمقررات المدرسية.
6- مديراً مساعداً للتخطيط التربوي.
7- مديراً مساعداً للبحوث والوثائق والاحصاء.
8- خبيراً مساعداً بمكتب سعادة وكيل الوزارة المساعد.
9- مستشاراً تعليمياً لمكتب سمو وكيل وزارة المعارف.
 
ثم إنتقلت للعمل بدارة الملك عبد العزيز سنة 1400هـ مديراً للإدارة الفنية ومديراً لتحرير مجلة الدارة ثم أميناً عاماً للدارة منذ عام 1405 حتى عام 1413هـ، وسأتحدث عن بعض الذكريات في ميدان التعليم حيث أمضيت فيه عشرين عاماً، وكانت البداية في 1/3/1376هـ وبعد مضي عام من العمل بوزارة المعارف، كنت حريصاً على مواصلة الدراسة العليا حيث قبلت بقسم الدراسات العليا بجامعة القاهرة وفي ذلك الوقت عام 1380هـ وكنت أستعد للسفر تم تعيين الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ وزيراً للمعارف وقام بزيارة وجولة على مدارس منطقة الرياض وفي اليوم الثاني لتلك الزيارة أصدر قراراً بتعيين الأستاذ عبد الله النعيم مدير معهد المعلمين بالرياض آن ذاك مديراً للتعليم بالرياض، وأصدر أمراً بتعييني مديراً لمدرسة اليمامة الثانوية بالرياض. ونقل مدير التعليم إلى الوزارة، وحينما استدعاني ليبلغني باختياري مديراً لليمامة الثانوية فاعتذرت له وقلت لعل غيري يقوم بذلك وأخبرته بأني سبق أن ووفق على ابتعاثي فقال: إدارتك للمدرسة أهم من مواصلة الدراسة ولا حاجة لنا بذلك وقد جرى إلغاء القرار، وهذا سر قد لا يعرفه أحد وتوجهت لتلك المدرسة مديراً لها وكانت الوحيدة في المنطقة الوسطى، وكانت المسؤولية ضخمة والعبء ثقيلاً إلى جانب الحرمان من مواصلة الدراسة وبالصبر والعزم وتشجيع المسؤولين والتوكل على الله سبحانه وتعالى أدرت هذه المدرسة.
وكانت فرصة للخدمة التربوية والتعرف إلى الطلبة وإلى سلوكهم وإدراكهم ومدى إستعدادهم وكذا المعلمين، وكان بها ناد ثقافي كان له أثره في إثراء الجانب الفكري والوعي الثقافي والاجتماعي والنشاط المسرحي والخطابي، وبقيت بها سنتين وقد تخرج من هذه المدرسة جيل يمسك الآن بالكثير من المسؤوليات، ثم تولى الوزارة الشيخ حسن آل الشيخ وأبديت له رغبتي في الالتحاق بمعهد تدريب كبار موظفي التربية والتعليم التابع للأمم المتحدة في بيروت فلبى الطلب وابتعثت لذلك المعهـد سنة 1382هـ ضمن فريق من رجال الوزارة منهم الدكتور/ حمد السلوم وبكر الدمنهوري ومحمد آل الشيخ، وكان المعهد يضم نخبة من أعلام التربية والتعليم كالدكتور عبد العزيز القوصي والدكتور عبد الله عبد الدايم واسعد داغر وغيرهم. فكان لهم دور في بث الروح العلمية المتوقدة والخبرة التربوية فحصلت منه على دبلوم في التخطيط التربوي.
وإن الحديث عن ذكريات الأيام التي قضيتها وتشرفت فيها بالعمل في ميدان التربية والتعليم طويل وممتد حيث واكبت مراحل متعددة منذ أن كانت مديرية المعارف ذات الإمكانات المحدودة.
وإلى أن أصبحت وزارة المعارف ذات الامتداد الواسع والانتشار البعيد، ولا بد لي في هذا المقام أن أشير إلى الفرق الكبير والتفاوت الواضح والبون الشاسع والاختلاف الواضح بين الحاضر والماضي، حيث كانت سبل العيش محدودة والإمكانات ضئيلة وكانت المتاعب تواجه العمل التعليمي فقد كانت أغلب المناطق تعيش حالة من التخلف وكان التعليم متمثلاً في بعض الكتاتيب وحلقات الدراسة في المساجد، وعند فتح المدارس كانت هناك معارضة من البعض لمادة الجغرافيا، وجرى تعديلها إلى علم البلدان، ومادة الهندسة فسميت المقاييس، وأذكر ذات مرة عند إفتتاح إحدى المدارس في بعض القرى إذ رفضوا فتح مدرسة في قريتهم بسبب تفسير خاطئ لغايات التعليم وتمادوا في رفضهم مما دفع الجهات المعنية بفتح المدرسة في قرية مجاورة. ومرت سنوات عاد فيها أهل القرية وطالبوا بالمدرسة في وقت لم تكن الظروف مواتية فاضطروا لإرسال أولادهم كل صباح إلى القرية المجاورة لتلقي التعليم هناك. أما اليوم فقد تطورت وزارة المعارف ونهض التعليم ويعكس تربة فريدة من التطور وحركة دائبة إلى الأمام في مختلف المجالات والنشاطات التربوية المتنوعة.
ومما لا ريب فيه أن الجهود المكثفة والأعمال المتواصلة والصعاب والتضحيات التي قام بها القدامى من رجال التعليم قد مهدت وأوجدت هذا الحاضر الذي ينعم به جيل اليوم، حيث توفرت له الوسائل التعليمية والإمكانات والسبل الثقافية بمختلف أشكالها وتعدد ألوانها، وتطورت تبعاً لذلك مناهج التعليم وطرق التدريس وتوفرت مراكز البحوث التربوية وأوجدت الجامعات، ومراكز إعداد المعلمين، وتطوير معارفهم، وتنمية خبراتهم عن طريق الكليات المتوسطة وكليات المعلمين وكليات التربية والدورات التدريبية والبعثات العلمية في الداخل والخارج.
وأصبح المسؤولون والموجهون التربويون اليوم ينتقلون خلال زياراتهم للمدارس بواسطة الطائرات والقطارات والطرق السريعة ويصلون خلال ساعات، وقد يعودون في يومهم، بعكس ما كنا نواجهه، فقد كنا قبل الذهاب في الجولات التفتيشية وزيارة المدارس نبدأ في تحضير مستلزمات الرحلة وما يتعلق بها من أدوات خاصة، كأمتعة السفر والمياه، والحطب وتأمين السيارات ووقودها في برميل وانتظارها.
وكانت من ذوات الموديلات القديمة، ولها أصوات مزعجة، وخرابها كثير ومتعدد خلال الرحلة، ولم تكن مريحة ومكيفة كما هي اليوم، فكانت في الشتاء أشبه بالثلاجة وفي الصيف كالفرن الملتهب، وكم أدركنا المبيت في وسط الفيافي والصحاري نتيجة الضياع وعدم معرفة الطريق فنضطر للمبيت حتى تشرق الشمس، وتتضح الرؤيا ومعرفة الطريق، وكم نفاجأ ونحن في المنام في تلك البقاع بالعقارب والحشرات والحيوانات المفترسة في بعض الأحايين فتقطع علينا النوم وتنغص علينا الهدوء والراحة، ونسأل الله العافية والسلامة من هذه الأماكن المحفوفة بالمخاطر..
ولكم فاجأتنا السيول وداهمت سيارتنا، وأوقفت حركتها، وعطلت سيرها، ولجأنا إلى التلال والجبال والمرتفعات نحتمي بها..
وكم أدركنا العطش ووقفنا مع إخواننا من أبناء البادية ورعاة الماشية نتزاحم حول البئر، مردداً قول القائل.
وأهـزم الناس مـن لومات مـن ظمــأ
لم يقـرب الورد حتـى يعـرض الصـدرا
 
وقد يطول الانتظار فلا يتيسر الحصول على الماء إلا بعد جهد جهيد، ثم نأخذ وصف الطريق وتحديد الاتجاهات من أفواه الرعاة، وفي كثير من الأحيان يكون الوصف غير دقيق فنضل الطريق، ونسلك دروباً رديئة وطرقاً سيئة، ونفاجأ بكثبان الرمال، ثم تغوص السيارات بين تلك الرمال وتنفجر إطاراتها، ولا نخرج إلا بعد معاناة ومشقة ووضع آلات رافعة وجلب الأحجار والحشائش والحطب، وكم ابتلعت هذه الرمال أفواجاً من المسافرين وغمرت سياراتهم.
لقد كنا نأخذ الحذر ونحتاط خلال إجتياز هذه الرمال عادة قبل طلوع الشمس إذ إن منطقة النفود وكذا الدهناء وغيرها يحتاج اجتيازها من قبل السائق إلى شيء من الصلابة والعزيمة والثبات والجرأة والشجاعة، فهي تلال رملية، وكلما سارت السيارات إضطرت للتوقف، لأن حرارتها تصل إلى معدل مرتفع، فنقف وقفات متعددة، ثم نستأنف المسير، ونحن نجري وراءها على أقدامنا في بعض الأحيان، ويحدق بنا الخطر فنتحمل التعب بصبر وجلد وثبات وإيمان، وكما قيل "ليس في الإمكان أبدع مما كان" وفي جنوب المملكة ركبت مع زملائي الدواب، وصعدنا قمم الجبال لزيارة المدارس، ومكثنا فترة من الوقت فوق الجبال، مردداً قول الشاعر:
وكم من جبل قد علا شرفاتها
رجال فزالوا والجبال جبال
 
وقد ننتقل بالعير ونحمل عليه أمتعتنا، وكم من زميل سقط منا، وانكسرت يده وبحثنا عن مجبر فلم نجده وتجمعنا مع سكان القرية وساعدناه بما نستطيع من تضميد جراحه، وذلك يعود إلى عدم مقدرة البعض على حفظ التوازن والركوب فوق البردعة، ولكبوات العير وسط الصخور، وكم طلب منا أصحابها النزول والمشي على الأقدام وضربوا لنا موعداً نلتقي فيه بعد أداء مهمتنا في المدرسة وزيارتها وخاصة أن الطريق إلى بعض المدارس في مناطق السراة وتهامة وعسير عالية وملتوية وصعبة الإجتياز.
وحسب إهتمام المسؤولين فقد تم فتح مدارس في تلك المناطق الصعبة والتي لا يوجد بها بناء حيث يسكن الناس في عشش بنيت من القش، وكم زرنا من قرى جبلية وعرة غير ممهدة على سيارة ونيت لتفقد الشعاب ومناطق البادية في تلك الأودية والشعاب الوعرة. إنها مشاهد ومناظر وذكريات ما زالت ماثلة في النفس، وكم رافقت مجموعة من الإخوة المتعاقدين الذين يعملون معنا في التفتيش، وقد واجهوا معنا متاعب السير في رحلة إلى وادي الدواسر، وقطعوا على أنفسهم العهود والمواثيق ألا يعودوا إلى الصحراء والرمال التي مررنا بها أبداً إذا قدر الله لهم وعادوا سالمين خاصة عندما كنا في رحلة فنام إطار السيارة وتمزق وليس معنا آخر إحتياطي كما هو اليوم، وبقينا يوماً وليلة لعدم مرور السيارات، وسمعت أحد الزملاء يقول "ألا أبلغا أهلي بأن لا تلاقيا" فقلت له قول القائل:
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيـش لـولا فسحـة الأمـل
 
ومشينا على أقدامنا وفي إحدى المرات قمنا بملء (العجل) بالشجر والأعشاب وسرنا في مشقة بالغة.
ولقد كان الهدف لوزارة المعارف تعميم التعليم وفتح المدارس وتعليم المواطنين وتحصيل العلم وتيسيره في كل مكان، ومن المواقف التي ما زلت أذكرها حينما تقرر وزارة المعارف فتح مدرسة في إحدى المناطق، ونذهب لفتح المدرسة فنفاجأ بأن السكان ليسوا متفقين بينهم وكل منهم يريد أن تكون المدرسة عنده وبجواره، ونحاول التوفيق بين وجهات نظرهم المختلفة نحو المدرسة وقد يستعصي علينا بعض الأحيان حل هذه المشكلة لأن كلاً منهم يريد أن نقف إلى جانبه، ولكن الله يعيننا في الأخير إلى حل نرضي به الطرفين وينتهي الخلاف ونذكرهم بأهمية التعاون لصالح أبنائهم..
وكم كنت وزملائي من المفتشين نبتهج بافتتاح أي مدرسة في شرق المملكة أو غربها أو شمالها أو جنوبها وننسى المتاعب والصعوبات، ونتذكر أسلافنا من أبناء هذه الجزيرة الذين كانوا يضربون أكباد الإبل من أنحاء هذه البلاد لحضور مواسم الشعر والأدب والعلم.
ونحمد الله على ما ننعم به اليوم من لين عيش وازدهار حياة وطراوتها وحياة هانئة حانية فلله الحمد والشكر.
وإذا الفتى ظفرت يداه بنعمة
فدوامها بداوم شكر المنعم
 
وخلال الأعوام 1380، 1381، 1382هـ شاركت في التدريس والتوجيه والإشراف في الدورات الصيفية لتدريب المعلمين التي كانت تعقد بمدينة الطائف مع الأساتذة الزملاء السيد محمد باروم وعبد الله بوقس وعبد الرحمن تونسي وعبد الوهاب أبو سليمان، وقد كان لهذه الدورات التدريبية أهمية بالغة من حيث توجيه المعلمين وتطوير معارفهم وتثقيفهم بالأساليب التربوية الحديثة والوقوف على مصادر المعرفة وطرق التدريس وفن إدارة المكتبات والبحوث والوسائل التعليمية والنظريات التربوية الحديثة، كل ذلك وفق تنظيم وتخطيط وبرنامج تربوي من جانب وزارة المعارف بحيث يزداد رصيد المعلم العلمي والثقافي والمسلكي لتأدية رسالته التربوية فهو يربي الخلق والذوق والفكر والنفس والوجدان وتنمية الوعي الثقافي وترسيخ القيم الأخلاقية والمعارف والسلوك (2) . وهذه الدورات يلتحق بها من فاتهم موكب التعليم الحديث ولم تمكنهم ظروفهم من مواصلة تعليمهم.
ولقد كانت أول دورة عقدت بمدينة الطائف في عام 1374هـ واستمرت سنوات وكانت تحظى بتشجيع الوزارة وتخرج فيها أفواج كثيرة عادوا إلى مدارسهم وقد إكتسبوا خبرة ومهارة ووعياً تربوياً وتبصيرهم بأهمية رسالتهم التعليمية ومناقشة مشكلاتهم، ولقد كانت تحفل هذه الدورات بمجموعة من المعلمين المتميزين في سلوكهم وعلمهم وأخلاقهم وحرصهم على الإستفادة وتحقيق الهدف الأسمى من هذه الدورات وتأصيل المفاهيم التربوية.
وإن الحديث عن مسيرة التعليم يحتاج إلى وقفات وتستحق كل مرحلة من مراحل الدراسة المتأنية والتفصيل الدقيق. وهنا لا بد أن نذكر للتاريخ أن بداية الإنطلاقة التعليمية كانت على يد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز فحينما تولى وزيراً للمعارف سنة 1373هـ فقد جاء ومعه طموح لا يحققه إلا ذوو العزم ودفع التعليم إلى الأمام على دروب الخير وطريق النمو وتوسيع قاعدة التعليم وتطوير مراحله، وكان عدد المدارس يعد على الأصابع ولقد خطا التعليم خطوات واسعة وتسارعت حركة التعليم إلى أرقى المستويات ويوجد فيها الآن آلاف المدارس والمعاهد وتضم عدداً من المراكز العلمية والجامعات وما أرى هنا ضرورة للإحصاء والتعداد في هذا الحديث الخاطف.
إذ أن الانطلاقة التعليمية تحتاج إلى حديث طويل لتسجيل مسيرة التعليم رغم عمرها الزمني القصير والأخذ بكافة أسباب الرقي والوسائل التربوية والتعليمية. وكانت تلك النهضة التعليمية مناط الفخر وموضع الإعتزاز حيث بلغ عدد الطلاب اليوم أكثر من مليون طالب وأكثر من مائة وثلاثين ألف معلم وعشرة آلاف مدرسة، وتبقى التجارب والذكريات محفورة في أعماق الوجدان وخلجات الإحساس.
وكل فرد في هذه الحياة لا بد له من تجارب وذكريات في أي ناحية من نواحيها العلمية والإجتماعية والتربوية والاقتصادية، هي حصيلة تجارب وصور مفعمة بالموقف والوقائع والأحداث تجسد تاريخاً ومنعطفاً في هذه الحياة، وتتيح فرصة التأمل الواعي الدقيق كماً وكيفاً لمسيرتنا ونهضتنا الحضارية المشرقة التي ننعم بها اليوم. وكم هو جميل تدوين تلك التجارب والذكريات من خلال كتب المذكرات والسيرة الذاتية. وهي اليوم تلقى إقبالاً كبيراً من القراء في كثير من البلدان ويتهافتون على شرائها لإكتساب معارف وخبرات جديدة أو حب الاستطلاع وكشف أسرار النفوس الإنسانية وما مر بها من تجارب. ولقد كانت الحياة في الثمانينات تختلف إختلافاً كبيراً عما هي عليه الآن، ولعل الحديث عن ذلك أو شيئاً منه هو حديث عن مخضرم يعطي تاريخاً عن بلادنا وعن تطورها السريع، وهي ذكريات عطرة ما زالت عالقة في الذهن ومضمخة بعطره ومشحونة بحلوه ومره، ففي ذلك الوقت لم يكن السفر مريحاً وكان المفتشون خلال جولاتهم التفتيشية يواجهون صعوبات ومشقة لقد كان التفتيش أو التوجيه كما يسمى اليوم على المدارس مهمة شاقة، وأذكر في هذه المناسبة بالتقدير بعض المفتشين الأوائل وكانوا علماء في تخصصهم وأفاضل في خلقهم وتعاملهم وصبرهم، من أمثال الأساتذة محمد الجاسر وصالح خزامي وإبراهيم النوري وعبد الله بغدادي ومحسن باروم وناصر المتقدر وإبراهيم الحجي وعبد الرحمن التونسي وإبراهيم علاّف وحمزة عابد وجميل أبو سليمان وعبد الله الدهيني وصالح باوزير وغيرهم، فقد كانوا يجولون الفيافي بحرِّها وبردها وتركوا بصمات في مسيرة التعليم، ومن الذكريات في هذا المجال أذكر ذات مرة في فصل الشتاء ونحن بالقرب من إحدى بلدان الوشم داهمتنا سيول جارفة وكادت تجرف سيارة (الونيت) التي نستقلها وبلطف من الله وتوفيقه إذا بأحد الأعراب يسوق قطيعاً من الإبل فتركنا سيارتنا وامتطى كل واحد منا جملاً، وقد مر بنا موقف طريف فمع فرحتنا بالنجاة كبا الجمل بأحد الزملاء من الإخوة المتعاقدين حيث اندفع بقوة عن السيل ولعله تحرش واستفز الجمل من شدة حرصه على مغادرة مجرى السيل ولكن الأعرابي كان حازماً وقوياً فهيأ له جملاً آخر أكثر طوعاً وانقياداً وكان بحق رائداً في معرفة الطريق في التلال والسبل الوعرة..
 
إن الذكريات ذاتُ شجون في هذا المجال ولقد كان جيلنا ومن قبلنا يطلق عليهم بحق جيل الصبر، الذين صبروا على خشونة العيش وشظف الحياة، وسلكوا الطرق الوعرة والدروب الخشنة وأرهقوا أنفسهم في سبيل العمل وشقوا طريقهم بشتى المصاعب، فبذلوا الجهد وجادوا بالعطاء مع قلة الإمكانات والخدمات واختلاف الظروف الاقتصادية وسوء الطرق حيث كانت متعبة وغير معبدة، ولكن الله منحهم العزيمة والصبر والقوة رغم صعوبة المواصلات وبعد الاتصالات وعدم وجود مصابيح الكهرباء وأنوارها التي يتمتع بها جيل اليوم.
 
وقد تفوق الجيل السابق في دراساتهم وتحصيلهم وخاضوا غمار الحياة بعزيمة سواء في الكتاتيب أو المدارس فكانوا مثالاً في الطموح والعطاء ولا يشغلهم شيء عن العلم، وكانت الحياة بسيطة وغير معقدة، وليس هناك من وسائل الإعلام ما يشغلهم وكانت هناك بركة في الوقت وكانت الروح العلمية لها سيطرتها..
كما أن الأساتذة بدون إمتراء كانوا يحرصون على تربية الطالب تربية روحية وعلمية مستقيمة وقد بارك الله في عملهم ومجهوداتهم وطلابهم وكان هدفهم نشر العلم وإشاعة المعرفة (3) .
ومن التجارب والذكريات التي عايشتها ففي عام 1380هـ كُلفت من قبل معالي وزير المعارف آنذاك وكان وقتها الشيخ عبد العزيز بن حسن آل الشيخ بأن أقوم برحلة وزيارة لمسح منطقتي سدير والوشم بالوسطى، والتعرف على حاجة كل هجرة وقرية ومدى حاجتها إلى إفتتاح مدرسة بها. ولقد كانت الدولة حريصة على بث الوعي ونشر التعليم وتعنى بهذا الجانب وتعول عليه وتعطيه من مالها واهتمامها وحرصها الشيء الكثير، فالتعليم منطلق لرفع مستوى الأمة وإعلاء قدرها وبناء تاريخها المجيد. فبعد تهيئة مستلزمات الرحلة وأدواتها بدأت بمنطقة الوشم وكانت تشمل مناطق متعددة كعفيف والشعراء والدوادمي وشقراء والجمش ودياره المتعددة، حيث بقيت فيها فترة من الوقت فكنت أتنقل بين قراهم وهجرهم ومراعيهم لمعرفة عدد أولادهم وننتظر الآخرين ليلاً لتسجيلهم بعد مجيئهم من المراعي مع دوابهم وماشيتهم، ويمتد الانتظار إلى ما بعد الهزيع الأول من الليل حيث يتأخر وصولهم من المراعي وفي بعض الأحيان نذهب في الصباح لتلك المراعي التي تحفل بأفانين النبات وشذاها التي يفوح عبيرها وتكثر طيورها، وذلك للوقوف على معرفة عدد أولادهم، وكان أحد الإخوة من أبناء البادية يقول نريد المدارس هنا في هذه الرياض حيث أشجار السلم والرمث والعرار وشذاه العطري والخزامى والشيح والنصي والطلْح مما يذكرني بقول الشاعر جحدة بن معاوية القشيري:
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
وبين رياضها فقف المطايا
فإن العيس تحبس بالقفار
 
وقول الآخر:
بنفسي تلك الأرض ما أجمل الربا
وما أحسن المصطاف والمتربعا
 
فكنت أقول سوف ننصب لكم الخيام في وسط هذا الربيع والمهم أن تلحقوا أبناءكم بالمدرسة. وكان معي في هذه الرحلة مدير تعليم الوشم الأستاذ محمد المانع والمفتش الأستاذ على المقوشي، خلال هذه الجولة لمسح بعض مناطق الوشم لمعرفة احتياجاتهم من المدارس ابتداءاً من شقراء والدوادمي والجمش وسائر منطقة عالية نجد، وكانت الطرق في ذلك الوقت غير ممهدة وبعض البلدان طرقها وعرة رملية وتكثر فيها النتوآت الصخرية الخشنة مما يسبب لسيارتنا العطب والتوقف..
وقد ينتهي بنا الزاد والماء ولكن الإخوة في هذه المناطق سرعان ما يهبون لنجدتنا ونسير على الأقدام لأقرب قرية حتى يتم إسعاف السيارة وجلب الوقود لها، حيث لم تكن محطات البنزين متوفرة بل يأخذ المرء معه برميلاً في السيارة وكلما نفد البنزين نقوم بتوصيله للسيارة من خلال (شافط) لهذا الغرض، وخلال البقاء مع السكان كنت أبذل الكثير من الجهود نحو توضيح رسالة المدرسة وأهميتها وضرورة إلحاق الأبناء بها، وقد كنا نصطدم بعض الأحيان بالكثير من المعوقات.. بسبب اختلاف الآراء حول مكان المدرسة ومقرها وموقعها ومن سيكون مدرساً بها وغير ذلك من النقاش والكلام الطويل، وكنت أدعوهم إلى الارتفاع عن الخلافات والنزاعات وأقوم بقياس الأرض ونحرص على توسطها بين القرى والهجر المتجاورة تلافياً للنزاع والمشاحنات التي تعقب ذلك؛ ولا أنسى دور زميليَّ مدير التعليم محمد المانع والمفتش المركزي الأستاذ علي المقوشي وما امتازا به من حكمة ورحابة صدر.
أذكر ذات مرة في إحدى الهجر التي زرناها وإذا بأحدهم يقول لا نريد المدرسة، فقلت ولماذا؟ فقال: إنها سوف تأتي لنا بالغرباء، وقد يوجد منهم من يشرب الدخان إلخ فقلت له سامحك الله إن المدرسة سوف تكون لكم عوناً لإصلاح أولادكم وتهذيب أخلاقهم، وستلقن هؤلاء الشباب دينهم الإسلامي ولغتهم العربية ولن يكون فيها أي شيء مما أشرت إليه وسيُختار لها أصلح المعلمين وأحسنهم خلقاً وسلوكاً وديناً. فقال إذ كانت هكذا فأهلاً وسهلاً، ثم فوجئت في مكان آخر بمن يقول: إذا كنتم مصرّين على فتح المدرسة فلا بد من تعيين إمام المسجد والمطوع معلمين بالمدرسة فكنت أعدهم بتحقيق ذلك بعد موافقة الوزارة..
والذكريات كثيرة في هذا المجال والمرء يستعرضها ليحيا فيها من جديد. والذكريات صدى السنين الحاكي..
وبعد ذلك ذهبنا لمنطقة السر وبها العديد من القرى وبعد زيارتها ومعرفة إحتياجها من المدارس مضينا في طريقنا إلى الدوادمي وعفيف حيث كان اللقاء مع أسرة التعليم في الدوادمي في جبل (البيضتين) وهما هضبتان حمراوان على شكل بيض وحجارتهما ملساء. ومن هذه الربوة شاهدنا أعلام الجبال والمعروفة شهرة ومكانة في الشعر العربي، وبعد تمضية يوم حافل مع الإخوة الكرام في تلك المنطقة انطلقنا إلى منازل البادية ومسح تلك المناطق.. ومعرفة إحتياجها من المدارس، وبعد إنتهاء المهمة في هذه المنطقة الواسعة بمغانيها وسهولها وجبالها ووهادها.
إتجهت لمنطقة سدير عبر كثبان رملية، كدت مع السائق أن نندفن بها لولا رعاية الله فقلت ويحك؟ كيف تجتاز بنا هذا الطريق الرملي وهناك طرق أيسر منه أعرفها بالطبيعة والفطرة وطرق مرابعها ومراتعها.. فقال إنه مختصر ولكنه يحتاج إلى هذه المغامرة فإما حياة أو ممات.. فكم مات فيه من أناس دون أن يعرف بهم أحد..
كما رأيت رمالاً مخيفة لا يوجد بها إنس ولا جان ثم أخذنا في الإنحدار التدريجي من فوق الكثبان الرملية، ولكم تذكرت قول الشاعر:
أقول لصاحبي والعيس تهوي
بنا بين المنيفة والغمار
تمهل لا أرانا الله سوءاً
وأنجانا من الأرض القفار
 
والذي قيل فيه:
بلادي على ضفة الشعَّر
بظل
كأن النخيل على ضفته
عقود الزمرد والجوهر
كأنك في أطلسي الكائنات
شعاع يضيء مدى الأعصر
 
ثم لاحت لنا (أشي) القرية التاريخية المشهورة بالقرب من مدينة المجمعة والتي حن إليها شاعر اليمامة زياد التميمي وقد ترددت في حزونها وغيطانها وتقلبت في أحضانها ولقد قال:
وحبذا حين تمسي الريح باردة
وادي أشي وفتيان به هضم
كم بهروا من فتى حلو شمائله
جم الرماد إذا ما أخمد البرم
الواسعون إذا ما جر غيرهم
على العشيرة والكافون ما جرموا
والوشم قد خرجت منه وقابلها
من الثنايا التي لم يقلها ثرم
 
موجودة بأكملها في كتاب شرح ديوان الحماسة لأبي تمام "س 231هـ شرح التبريزي طبعة بولاق 1296هـ"، وهي قصيدة طويلة يتغنى الشاعر بهذه المواطن ومنذ أن دخلنا بلدان سدير ونحن نرنو إلى جبل طويق بشماريخه الطويلة الفارعة وهو جبل اليمامة الأشم وكما قيل:
فأعرضت اليمامة واشمخرت
كأسياف بأيدي مصلتينا
 
وقول الآخر:
يا أيها العملاق زدنا خبرة
عمن أقاموا في ذراك معاقلا
 
ويمتد هذا الجبل بما يزيد على ألف كيل وقال أحدهم:
وأكاد من شغفي بما أنشدته
أطوي إليك تهامة والعارضا
 
ومن عاصمة سدير (المجمعة) انطلقنا سوياً مدير التعليم المرحوم إبراهيم العبد الوهاب والمفتش المرحوم محمد بن مقحم. وفي هذه المنطقة قمنا بزيارات متعددة لمناطقها وهجرها النائية ومناهل المياه القريبة من مضارب البادية بوضاء "وجراب" "وأم الجماجم" "وأم رجوم" و "مبايض" "ومشاش" "والحسي" "والاركاوية" وغيرها. ومن الذكريات التي واجهتُ فيها بعض الصعوبات زيارة (عقل الزلفى) وهي جمع عقلة وهي قرى ومزارع داخل نفود الثويرات وسميت عقلاً أخذاً من عقال الراحلة التي يمكن أن يؤخذ الماء من آبارها تتناولها فهي بمثابة الأحساء في جوف هذا الرمل وتحيط بهذه العُقل الرمال من جميع جوانبها وتبعد عن الزلفى حوالى 18 كيلا في جنوبه الغربي..
فكنت حريصاً على زيارتها والاجتماع بسكانها ومعرفة احتياجهم للمدارس، وكان إجتياز هذه الرمال في النهار صعباً وكنا نذهب إليها ليلاً فبعد صلاة المغرب نتوجه إلى هذه العُقل مشياً على الأقدام لصعوبة إجتيازها بالسيارة، فزرتها عقلة عقلة ووجدت من بعض أهلها ترحيباً بالمدرسة وعدم حماس من الآخرين وبالنقاش والتوضيح لدور المدرسة وأهميتها والاهتمام بتحقيق شروط سكانها ورغباتهم تم بحمد الله افتتاح مدارس بها.
وخلال العمل ندبت للتدريس في كل من لبنان في عصره الذهبي 1388 و 89هـ والجزائر ووهران وتلمسان المدينة 1384 - 1385هـ التي ألف ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع فيها مقدمته سنة 779هـ والتي شغلت أذهان العلماء والمفكرين طوال عصور التاريخ ونالت العناية والإهتمام أضعاف ما ناله تاريخه الكبير؛ وقد وضع بمقدمته أصول علم التاريخ وأصبح رائداً في مختلف العلوم وكذا المِقَّري صاحب كتاب نفح الطيب، وأذكر لكم شيئاً مما كانوا يسألوننا عنه فكثيراً ما يتساءلون عن المواضيع والأماكن التي لها عبق وذكر في التاريخ وترنم بها الشعراء، يسألون عن أماكن في الحجاز ومواضع في نجد ويقولون هل ما زالت تلك الأماكن باقية وكم نتمنى أن نستنشق عبيرها فقلت إنها روح الشعر والأدب والإسلام في قلوبكم ويعيش في وجدانكم. وخلال العمل هناك كانت لي بعض المشاركات الشعرية في المناسبات الثقافية ومنها على سبيل المثال.
حقاً ما أكثر الذكريات وكما قيل:
ذكريات الصبا خطرن ببالي
حالمات الرؤى طرقن خيالي
 
لقد كانت أياماً من أجمل أيام العمر وأحفلها بالذكريات الطيبة وكنا نبتهج خلال العمل في وزارة المعارف بافتتاح أي مدرسة وننسى المتاعب والصعوبات ونمارس عملنا بكل تفاعل وحيوية وحب، وإن ما تحقق اليوم من تطور تربوي ونهضة تعليمية شامخة تجعلنا نشعر بالفخار والاعتزاز وما نراه اليوم هو بلا شك إمتداد لجهود الأوائل ومحاولاتهم وبدايتهم، ولقد أصبحت النهضة التعليمية الشاملة في جميع مراحل التعليم في المملكة من أبرز سمات النمو والتطور في هذا العصر. ولا ننسى في هذا المجال الرواد الأوائل للتعليم فقد كانوا نماذج مشرفة لهذه النهضة الحضارية، فلقد خاضوا الطريق الصعب الوعر ودرسوا في ضوء الشموع والمصابيح الباهتة وما أحرى شباب اليوم وقد تهيأت له الوسائل والأسباب والسبل أن يقرأ تاريخ أسلافه ويتعرف إلى تجاربهم وبكل ما حفلت به لكي يتعلم منها الجيل الناشىء الذي يتطلع إلى إثبات ذاته وإلى الإسهام في حركة النهضة والتنمية الوطنية، ويعمل بجد وإجتهاد على إعلاء شأن أمته وبلاده فالعلم هو الدعامة والركيزة التي يقوم عليها مجد الأمة وتاريخها وبها تعلو مكانتها. وقبل أن أختم القول في هذه الذكريات العامرة بالصبر والإيمان والمتسمة بالبساطة وفيها الكثير من المعاناة وشظف العيش وقسوة الطبيعة والحافلة بأطياف الماضي، والكل يدرك ظروف بلادنا منذ أربعين عاماً وبين حياتنا اليوم وما توفر فيها من رقي وتطور ووسائل للراحة والرفاهية، وهذه من نعم الله الكبرى ومن هذه الذكريات المتواضعة لا أعتبر نفسي في ذلك من جيل الرواد الذين بذلوا الجهد والعطاء والعناء وإنما واحد من الجيل المخضرم ويصح عليه قول الإمام الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم
وأرجو أن أنال بهم شفاعة
 
ومن العمل في التعليم انتقلت لموقع آخر وهو دارة الملك عبد العزيز طيب ساحة ثراه، في عام 1400هـ حيث عملت مديراً للإدارة الفنية والبحوث والنشر ثم أميناً عاماً للدارة، ولا أطيل عليكم، فلست في موقع حديث مستفيض ولكن أومىء بإيجاز فقد تأسست دارة الملك عبد العزيز في عهد جلالة المغفور له الملك فيصل رحمه الله، في الخامس من شهر شعبان 1392هـ (1972م) بموجب المرسوم الملكي الكريم، رقم م/ 45.
وقد يسأل سائل ما معنى كلمة "الدارة" فالدارة كلمة عربية صحيحة الإستعمال ومن صميم اللغة ومن معانيها اللغوية أنها كل أرض واسعة بين جبال، وأيضاً ما أحاط بالشيء كالدائرة وهي تجمع على "دارات" ودارات العرب معروفة قديماً، فقد تغنوا بها شعراً، وأفاضوا في وصفها بأجمل الأوصاف، لكونها أرضاً سهلة تنبت الطيب من الأزهار، والنافع من الأشجار، واليانع من الثمار، تنساب منابع المياه من جوفها وتكسوها خضرة يانعة، يجد فيها من يقصدها المأوى والمغنم، والأمان والاطمئنان.
ودارة الملك عبد العزيز بما تقوم به من بحوث ودراسات، وما تقدمه للباحثين وراغبي العلم ورواد المعرفة من مواد ومصادر ومراجع، ووثائق، كأنها البستان قد امتلأ بأزهى ألوان الورود والزهور، والفاكهة، والنبات، والأشجار الوارفة التي يفوح عبيرها في الآفاق، فيجذب شذاه الرواد من كل صوب، كل يسعى كي يغترف من معينها العذب الفرات فيحصِّل من ألوان المعرفة وصنوف العلم مأربه ومبتغاه، فعطاؤها دائم لا ينضب معينه، ذلك لأنه متصل ومقترن باسم الملك عبد العزيز، رحمه الله. والذي أرسى أسس النهضة العلمية والفكرية الحديثة والتي شقت طريقها بقوة وكان لها الأثر البالغ في إثراء هذه النهضة الحديثة.
ثم إن إقتران كلمة (دارة) باسم الملك عبد العزيز يضفي عليها الذيوع والانتشار، فتستمد الكلمة الحياة من جلال الاسم، فلا تبلى من كثرة الترداد، بل تبقى أبداً متجددة، ولعل في ذلك دلالة وإشارة إلى أن إحياء التراث من أهداف وغاية الدارة.
وفضلاً عما تقدم فإن إطلاق اسم الملك عبد العزيز على الدارة إنما هو وفاء بحقه على أمته وشعبه، وتقدير لدوره البطولي الفذ، في توحيد وتأسيس مملكتنا الشامخة في عزة وإباء، ولقد أصدرت الدارة مجموعة من البحوث والكتب، كما يسرني أن ألقي الضوء على مجلة الدارة التي عَلِمْتُ مديراً لتحريرها منذ عام 1402هـ وأن أذكر بالفضل والتقدير الأستاذ الصديق العزيز المرحوم محمد حسين زيدان أحد فرسان هذا المنتدى والذي عمل رئيساً لتحرير مجلة الدارة ولقد كان بحق شخصية رائدة وموسوعة علمية، وكانت علاقاتنا رائعة وممتازة والحديث عنه طويل فقد دُمْنا أصدقاء لسنوات طويلة جداً، ولقد صدر العدد الأول من مجلة الدارة في غرة شهر ربيع الأول عام 1395هـ وذلك تنفيذاً لما ورد في الفقرة "و" ومن المادة الثالثة من نظام الدارة.
وهي مجلة فصلية محكمة تعنى بتراث وفكر المملكة، والجزيرة العربية والعالم العربي والإسلامي مما له صلة بالجزيرة العربية اتخذت المنهج العلمي أسلوبها وسبيلها.
وهي تواكب الأحداث العلمية والثقافية والفكرية على الصعيدين المحلي والعالمي، وتسهم في تغطية المؤتمرات والندوات والدراسات والأبحاث التي تدخل في مجال إهتمامات الدارة.. وعلى نفس المسار والنهج الإسلامي الذي تنتهجه المملكة.. وقد صدر منها حتى الآن 86 عدداً، تعد مراجع لرواد العلم، وهي تخطو في ثقة وعزيمة لتحقيق أهدافها، في عامها الثاني والعشرين، واستحوذت على إعجاب الباحثين والمثقفين، ومحبي التراث الإسلامي من داخل المملكة وخارجها. لما لها من تميز في موضوعاتها.
ومجلة الدارة تعايش الأحداث المهمة والمناسبات الوطنية وتبرزها على شكل إصدار أعداد خاصة وتذكارية، ولقد أكدت دورها الريادي في ميادين العلوم والآداب عبر رحلتها الحافلة بالعديد من البحوث والدراسات والموضوعات العلمية والإسهام في تقدم البحث العلمي والاهتمام بالتراث وإبراز ذلك في ثوب علمي ومنهج بحث أكاديمي، كما تضم الدارة بين جنباتها مكتبة تحتوي على ثلاثين ألف مجلد وأكثر من200 دورية والعديد من الرسائل الجامعية باللغتين العربية والانجليزية، إلى جانب الاهتمام بحفظ وتنظيم الصحف والمجلات السعودية والعربية وجمعها ويوجد فيها أعداد متكاملة منذ صدورها، وخلال عملي بالدارة حرصت على تطوير المكتبة لتصبح مركزاً متخصصاً للمعلومات المتعلقة بتاريخ المملكة وآدابها وتراثها وآثارها.
كما تضم الدارة مركزاً للوثائق والمخطوطات يبلغ عدد المخطوطات 1550 مخطوطاً وبها وثائق عربية تزيد على خمسة آلاف وثيقة وثمانية آلاف وثيقة عثمانية، وسبعين ألف وثيقة انجليزية، وحوالي ثلاثة آلاف وثيقة بلغات مختلفة، وتلك الوثائق والمخطوطات مادة أساسية للتاريخ والبحوث لما لها من قيمة في تدعيم المواقف والآراء والوقائع والأحداث التاريخية وخدمة الباحثين في مختلف التخصصات.
كما أنشأت الدارة قاعة تذكارية للملك عبد العزيز عملاق التاريخ الحديث وهي عبارة عن متحف يضم ما قامت الدارة بجمعه من مقتنيات وصور تذكارية وأثريات وتراث شعبي ولوحات وخرائط تسجيلية وغير ذلك مما له دلالة تاريخية. ولقد عاصرت خلال عملي بالدارة مجموعة من الباحثين الذين أفنوا شطراً من العمر في دراسة التراث وتحقيق المخطوطات والسعي بين رفوف المكتبات، وأعضاء مجلس الإدارة وثلاثة من الوزراء تولوا رئاسة مجلس إدارتها وَهُم المرحوم حسن آل الشيخ والدكتور عبد العزيز الخويطر والدكتور خالد بن محمد العنقري وقد عرفت منهم النبل والخلق والتعاون والإخلاص، وكانت لهم جهودهم الطيبة وبصماتهم الجيدة في أن تبقى الدارة صرحاً تاريخياً تضيء الطريق لرواد العلم وتمهد الجادة للباحثين وخدمة تراث هذه البلاد بخاصة والتراث الإسلامي بعامة.
ولقد أسعدني الله خلال عملي بالدارة فتشرفت بالتعرف وإستقبال العديد من العلماء والأدباء والباحثين وزوار المملكة من رؤساء الوزارات والوزراء وغيرهم - كما قام رائد الفضاء صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بالقيام بزيارة الدارة بعد عودته مباشرة في 1/2/1406هـ للمملكة وقد اصطحب معه للفضاء ساعة الملك عبد العزيز الخاصة وهي إحدى مقتنيات الدارة وقد رحبت بزيارته في حفل ثقافي بقصيدة وهي:
تحية لرائد الفضاء
بمناسبة زيارته لدارة الملك عبد العزيز
في 1/2/1406هـ
بلدي به نحو العلا فتيان
يزهو بهم عند الفخار زمان
(عبد العزيز) موحد لبنائها
ورجاله من حولـه شجعان
وبنوه شادوا.. ثم زادوا مجدها
مجداً به ثبتت لنا أركان
(الفهد) وطد ثروة علمية
عُمرت بها الأقطار والأوطان
ربى الشباب على الطموح بوثبة
بسفائن مخرت بها الشبان
في (الجو) بين نجومه وسديمه
عزم به قد أثمر الجَوَلان
وعلى الشباب عميدهم وسليلهم
وأميرهم في حزمه (سلطان)
(سلطان) بين شبابنا بنبوغه
بين الشبيبة في الورى عنوان
جابت سفينته الفضاء بهمة
وبها ازدهى في عصرنا الإنسان
رباك في دار العلوم مهذب
وأب لـه في المكرمات مكان
(سلمان) رائدنا بدا (برياضنا)
نجم له ببلادنا لمعان
إن زرت من (عبد العزيز) عرينه
في داره بتراثه تزدان
فلأنت (يا سلطان) منه حفيده
والكل من عزماتكم جذلان
(عبد العزيز) وهذه آثاره
وفعاله يروى بها العطشان
لو أن جدك قام ثم رآكمُ
وبنوه كل للعلا ربَّان
لرأى الذين هموا لـه في سيرة
ولهم لسيرة جدهم تحنان
لا ريب إن تك للمحامد والعلا
خدنا فإنهما لك الأخدان
وجميع من فيها بحبك مخلص
حبا تسر به حِجَىً وجَنَان
أبقى لنا المولى مليكاً مخلصاً
من دأبه الإصلاح والعمران
وأخوه (عبد الله) يمشي خلفه
وكلاهما في سعيهم إخوان
وهما وأمتنا العظيمة دولة
في العالمين سما لها بنيان
 
أما تعاملي مع الكلمة فقد كان من زمن الدراسة، فقد كنت أقرأ الصحف والمجلات كالمنهل واليمامة والهلال والرسالة والثقافة، وكتب أساطين الأدب كالجاحظ والأغاني والكامل للمبردِ وقصائد الشعراء العرب والزيات ومندور ومحمود شاكر والمنفلوطي والمناقشات المحتدمة بين الرافعي والعقّاد وبين طه حسين والعقاد وغيرهم من أصحاب المدارس النثرية المعاصرة وأحببت أسلوب طه حسين وفكر العقاد ولغة الرافعي، من النجوم المتألقة من الشعراء والأدباء في بلادنا وفي العالم العربي وقرأت افتتاحاً من كتبهم وكانت المجالس والمسامرات الليلية عامرة بمناقشة ما يدور في الساحة الأدبية من شعر ونثر وقصة، إلى جانب النقاش والاهتمام بأدباء وشعراء العصر الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي والأندلسي والعصر الحديث، وكنا نستفيد من توجيهات أساتذتنا في كلية اللغة العربية بأهمية دور الفكر والأدب والثقافة في بناء حضارة الأمة، فاستهوتني مذاهب أدبية وفكرية عرفت ابن تيمية من خلال كتبه وابن حزم وابن عبد البر وابن القيم وما لهم من قدرة وعمق واتساع ثقافة وسلامة عقيدة.
وأخذتني الرغبة بالنشر ونشرت: الكثير من إنتاجي في بعض صحفنا ومجلاتنا كصحيفة البلاد التي نشرت لي أول مقالة بعنوان "يوم في قرقري" وكانت بداية عهدي بالكتابة وعكاظ وقريش والقصيم والجزيرة واليمامة والمجلة العربية والفيصل وقافلة الزيت والخفجي والمنهل التي نشرت الكثير من رحلاتي وإنتاجي على صفحاتها وما زلت مستمراً معها، ولقد تعرفت إلى الشيخ عبد القدوس الأنصاري رحمه الله هنا في جدة في عام 1383هـ بمطابع الأصفهاني حيث كنت أشرف على طباعة بعض المقررات الدراسية وكنت أعمل وقتها مديراً للكتب والمقررات بوزارة المعارف، وكان رحمه الله يتمتع بشخصية رائدة في كل النواحي، وقد تعرفت إلى الكثير من الأدباء بواسطة الأصفهاني كالزيدان والعطار والعواد وطاهر زمخشري رحمهم الله وغيرهم من الأدباء ورجال الصحافة الذين أعتز بهم جميعاً وأحمل لهم التقدير والاحترام، ولا أريد أن أعود بالذكريات إلى نقطة البداية ومع رحلة الحياة من أولها فهي باقية في خبايا الفكر وحناياه ومعذرة أيها الأخوة فإني أشعر أني أثقلت عليكم وأظن أني لو طاوعت نفسي لاسترسلت في الكلام حول الأمور الفكرية والثقافية ونحمد الله على ما تحفل به الساحة الأدبية اليوم من الأدباء والشعراء المدعوين الذين نعتز بهم في هذا المجال. وأنتقل بالحديث إلى ميدان آخر تفتحت لي آفاقه وهو الرحلات، فكانت من روافد ثقافتي وهي عالم فسيح ولقد شاقتني الرحلات فأتحت لنفسي أن أجوب ما استطعت ارتياده من كثير من بلدان العالم، ولقد كانت الرحلات عنصراً قوياً في حياة المجتمع الإسلامي في عصوره الزاهرة. ولقد زرت العديد من البلدان في الشرق والغرب وألواناً من المكتبات كمكتبة المتحف البريطاني والكونجرس الأمريكي ومكتبة الأسكوريال ومراكز البحث والثقافة والجامعات وشهدت ليلة عربية في إحدى الجامعات الأمريكية وألقيتُ فيها قصيدة.
ولقد دون الكثير من رحّالي العرب أخبار أسفارهم ورحلاتهم فذكروا المدن التي زاروها والمسافات التي اجتازوها والصعوبات التي تغلبوا عليها، ونشأت عند كثيرين منهم محبة المجازفة وليس من المصادفة أن يكون رائد (فاسكو دي جاما) في اقتحامه بحر الهند من رأس الرجاء الصالح هو رائد عربي رحالة من أبناء هذه البلاد يسمى أحمد بن ماجد.
والرحلات مصدر للمؤرخ والجغرافي وعالم الاجتماع وفيها قدوة للمقتدي ويروى عن الإمام الشافعي قوله:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج همٍّ واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
 
وقد عارض الطرطوشي الأسفار وما يصحبها من الأهوال والمتاعب بقوله:
تخلف عن الأسفار إن كنت طالباً
نجاةً ففي الأسفار سبع عوائق
تفكر إخوان وفقد أحبة
وتشتيت أموال وخيفة سارق
وكثرة إيحاش وقلة مؤنس
وأعظمها يا صاح سكنى الفنادق
فإن قيل في الأسفار كسب معيشة
وعلم وآداب وصحبة فائق
فقل كان ذا دهراً تقادم عهده
وأعقبه دهر كثير العوائق
 
ولقد دأب العرب منذ القديم على الحركة والترحال لأسباب كثيرة تجارية ودينية أو إقتصادية أو عسكرية وغيرها، ونمت عندهم رغبة تلقائية للمشاهدة والوصف والملاحظة؛ ولقد اكسبهم ذلك مقدرة على اكتشاف الظواهر الطبيعية والحياتية في مختلف جوانبها وفي شتى الأمكنة والبقاع واعتادوا على رحلتي الشتاء والصيف، وبعد ظهور الإسلام وإتساع الفتوحات الإسلامية كانت الجيوش تصحب معها المحدثين والحفاظ والفقهاء والعلماء والشعراء فظهرت حاجة جديدة للترحال لغرض نشر الثقافة الإسلامية والتعريف بمبادئ الإسلام ومُثِله وغاياته، والرحيل إلى الحواضر الإسلامية التي كانت مراكز إشعاع فكري يقصدها العلماء للالتقاء بالشيوخ والدراسة على أيديهم والتلقي منهم وقد لقب بعضهم بأسماء المدن التي رحلوا عنها والمدن التي قصدوها.
وتواصلت الرحلات وتعددت أهدافها واختلفت اتجاهاتها ويمكن أن نقول: إنّ الرحلات في التاريخ العربي شهدت فترتي نشأة متميزة.
الفترة الأولى بدأت منذ عصر الفتوحات الإسلامية ونشطت باتساع رقعة العالم الإسلامي وإلى القرن التاسع الهجري.
والفترة الثانية التي ازدهرت فيها الرحلات بدأت مع حركة النهضة العربية الحديثة في القرن الثالث عشر للهجرة وأستمرت حتى الوقت الحالي.
ولقد قيل:
سفر الفتى لممالك وديار
وتجول في سائر الأمصار
علم ومعرفة وفهم واسع
وتجارب ورواية الأخبار
 
ولقد استأثر أدب الرحلات باهتمام كثير من المثقفين والمؤرخين قديماً وحديثاً، وعني به أعلام وأدباء عبر حقب التاريخ فتركوا ثروة تعتبر من أهم روافد الثقافة على إختلاف مناهج الرّحالة، ولقد كانت الرحلات فيما مضى عملاً شاقاً وأسلوباً مضنياً لما يتعرض له المسافر من وعثاء السفر وتقلب المناخ وتبدل الأجواء ومخاطر الطريق، ويروى عن أحد الحكماء قوله: المسافر يجب أن يكون له عينا صقر ليرى كل شيء وأن يكون له ظهر جمل ليتحمل كل شيء وأن يكون له ساقا عنزة لا تتعبان من المشي وأن تكون له حقيبتان أحدهما مالاً والأخرى صبراً، حقيقة إن الرحلات تحتاج إلى وسائل شتى وإمكانات عدة وصبر وتحمل، وفي العصر الحاضر أصبح السفر بفضل الله ثم بفضل المخترعات الحديثة متعة ووسيلة مريحة، لأنه وفر على المسافر كثيراً من التعب والجهد والمال والوقت، والمهم أن يستفيد المرء من رحلاته بحيث يجسد مشاهداته ويدون انطباعاته ويطلع ويرى ويستفيد من الأماكن التي يزورها والبلدان التي يراها، فالرحلات سبيل من سبل المعرفة. وكما قيل:
سح في البلاد إذا أردت تعلما
إن السياحة في البلاد تفيد
 
ولقد أوصى حكيم عربي صديقاً له أراد سفراً فقال:
إنك تدخل بلداً لا تعرفه.. ولا يعرفك أهله فتمسك بوصيتي تكتب لك السلامة، عليك بحسن الشمائل.. فإنه يدل على الحرية، ونقاء الأطراف فإنه يشهد بكرم المنبت، والمحتد، ونظافة البزة فإنها تنبئ عن النشوء في النعمة، وطيب الرائحة فإنها تظهر المروءة، والأدب الجميل فإنه يكسب المحبة، وليكن عقلك دون دينك وقولك دون فعلك ولباسك دون قدرك، والزم الحياء والألفة فإنك إن استحيت من الفظاظة اجتنبت الخساسة، وإن أنفت من الغلبة لم يتقدمك نظير في مرتبة.
وأوصت أعرابية إبنها في سفر فقالت: يا بني، إنك تجاور الغرباء، وترحل عن الأصدقاء ولعلك لا تلقى غير الأعداء، فخالط الناس بجميل البشر واتق الله في العلانية والسر.
ويقول الشاعر:
يزين الغريب إذا ما اغترب
ثلاث فمنهن حسن الأدب
وثانية حسن أخلاقه
وثالثهن اجتناب الريب
 
ويقول آخر:
ما آب من سفر إلا وأرقه
شوق إلى سفر بالبين يجمعه
كأنه وهو في حل ومرتحل
موكل بفضاء الله يذرعه
 
ويقول أبو تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق
لديباجته فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة
إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
 
وإن الذي يلقي نظرة على كتب الرحلات ودورها في تاريخ الأدب العربي يدرك الدور الذي تركه أسلافنا وما خلفوه من تراث غزير في هذا الميدان..
ونستعرض في هذا الحديث ثلاث رحلات وهي رحلة ابن فضلان إلى اسكندنافيا والتي اعتبرت أقدم تسجيل كتبه شاهد عيان عن حياة مجتمع (الفايكنج) في شمال أوروبا، فهي وثيقة فريدة تصف بدقة أحداثاً وقعت منذ أكثر من ألف سنة، ولقد وصفت تلك الرحلة بأنها أول رصد تاريخي لتاريخ روسيا وبلغاريا وتركيا في تلك الفترة من القرن العاشر الميلادي وتجسد أسلوب الحياة في ذلك العصر أفضل تمثيل ولقد قامت تهامة بطباعتها بعنوان مغامرات سفير عربي منذ ألف عام ورحلة ابن جبير وهي رحلة جديرة بالدراسة من الناحية الأدبية واللغوية فصاحبها أديب متمكن سلس الأسلوب قام من وطنه الأندلسي بثلاث رحلات فقضى فيها ثلاث سنوات طائفاً في البلاد العربية وجزر البحر المتوسط، وكان يدون معلوماته في مفكراته اليومية ويذكرُ ما يشاهده في تلك البلدان من عادات وتقاليد وأسلوب حياة، وقد إجتمعت تلك المذكرات بعد وفاته التي ظهرت باسم (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار) وقد أخرجها واهتم بها جماعة من المستشرقين سنة 1852م فجاءت سفراً أدبياً ممتعاً لما اشتملت عليه من وصف أدبي وجمال وصف للحياة والواقع ونقد لبعض الحالات، فقد تحدث عن سوء معاملة البحارة للركاب والحجاج مما صادفه من أهوال خلال ركوب البحر وهو دقيق في توضيح ما يود تعريفه ويشيد بأهل الخير والشهامة والمكارم ويصب جام غضبه على أهل الظلم والفساد والانحراف.
أما الرحلة الثالثة فهي رحلة ابن بطوطة والتي بدأها من طنجة في المغرب وقضى فيها نحواً من 28 سنة يجوب مختلف البلدان ويتعرض لمتاعب الأسفار وأهوال البحار والأمواج والرياح، وهناك رحلات كثيرة كرحلة المسعودي وهو أديب ومؤرخ جغرافي ورحالة إلى فارس عام 921م والهند والصين، وجال في المحيط الهندي إلى مدغشقر ثم إلى عمان وفي سنة 926م قام برحلته الثانية إلى أذربيجان ثم إلى الشام وفلسطين وأنطاكية ثم استقر في مصر وألف ودوّن ما شاهد ورأى وسمع أثناء رحلاته، ورحلة ابن حوقل وهي رحلة جغرافية علمية قضى فيها حوالي ثلاثين سنة يطوف أنحاء العالم الإسلامي حتى جمع مادة علمية لمؤلفه (المسالك والممالك). ورحلة المقدسي "وهي رحلة جغرافية قام بها المقدسي في ربوع العالم الإسلامي" ثم ألف كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) ورحلة أبي دلف فقد زار الهند والصين وتركيا وهو شاعر كثير المُلح والطرائف وقد كانت في عام 942م.
ورحلة البيروني 1017م حيث قام برحلات عدة في بلاد الهند فجمع المعلومات التي ضمنها كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذلة) وقد تحدث عن الهند وتاريخها ومعارفها في العلوم وخاصة في الرياضيات والفلك وأساطيرها، ورحلة الإدريسي حيث تجول في إسبانيا والمغرب وفرنسا وآسيا وانتهى به المطاف في صقلية وألّف كتابه الموسوعي (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) إلى غير ذلك من الرحلات كرحلة السيرافي وابن وهب القرشي واليعقوبي وغيرهم. ومن الرحالة العرب لهذه البلاد إبراهيم رفعت الذي صور في كتابه "مرآة الحرمين" وقائع رحلاته الأربع إلى الديار المقدسة إذ كان أميراً للحج المصري خلال السنوات 1318 - 19 - 20 - 21 - 1325هـ ولعل أشهر رحلتين هما رحلة خير الدين الزركلي في (ما رأيت وما سمعت) سنة 1920م ورحلة أمين الريحاني (ملوك العرب أو رحلة في البلاد العربية) سنة 1922م وكلاهما أديب وشاعر كما هو معروف؛ وقد اهتم الزركلي بالمخطوطات وتحقيق المواضيع والآثار وكذا "إبراهيم المازني" رحلة إلى الحجاز 1930م ورحلة الأمير شكيب أرسلان "الإبتسامات اللطاف" 1931م ورحلة محمد حسين هيكل "في منزل الوحي" 1937م ورحلات عبد الوهاب عزام سنة 1937م ورحلة بنت الشاطىء "أرض المعجزات" 1951م وقد كانت هذه الرحلات من أهم الوسائل الفكرية في التعريف ببلادنا ومعالمها وآثارها وآدبائها وقد يحتاج هذا الموضوع إلى وقفة طويلة ليس هذا مكانها.
أيها السادة أشكر لكم إصغاءكم والحديث شجون، ورحلة الذكريات طويلة ولا أريد أن أطيل عليكم وآمل ألا يكون قد أصابكم الملل وقد نثرت لكم بعض ما في كنانتي عليكم، وإني لأوثر وقتكم الثمين هذا وقد استعرضت لكم أيضاً من فيض باقة من بستان وحسبنا قلادة ما أحاط بالعنق ومن القول ما يشبه قول شاعرنا العربي القديم:
فلو لم يكن إلا معرج ساعة
قليلاً فإني نافع لقليلها
 
وإني لأشعر أن بياني قاصر عن القول بما يوفي هذا اللقاء الأدبي ويتناسب مع هذا المقام متعللاً بقول الشاعر العربي:
إن القليل من الكلام لأهله
حسن وإن كثيره ممقوت
 
أما خاتمة القول ومسك كل شيء ختام، فلكم شكري الصادق ودعواتي الخالصة وتحياتي الطيبة وأسأل الله أن يجعل اللقاء موصولاً دائماً بيننا في كل مناسبة ولكل حين، وشكراً لمن أتاح هذه الفرصة الذهبية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
طباعة

تعليق

 القراءات :2501  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 173 من 187
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.