شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بين النقد والجمال (1)
(3)
ليس أشقى للنفس من أن تبقى غامضة عند من تنكشف له عن أعمق وأخفى مكنوناتها. ذلك معنى من البعد ينتهي عنده جهد القرب والدنو، أو معنى من اليأس يقف عنده سير الأمل والرجاء.
وما نظن أن حسرة تكون أبقى في القلب وأدوى له من حسرة شاك يفتح مغاليق قلبه بين يدي من يتوسم فيه الارتياح والإصغاء والمسايرة فإذا بلغ غاية أمره في شكواه، كان بينهما مدى مترامي الأطراف تضيع الأصداء في مخارمه الصماء.
كتبت عن الجمال في عددين فائتين من أعداد هذه الجريدة (2) ، ما حسبته غاية في الوضاحة، صادراً فيها عن تجارب نفسي وواقعها، وعن خبرتي العميقة بالحياة والنفوس، فإذا هو الدعوى التي لا تنهض بها حجة، ولا يستقيم لها قياس، عند صديقي الأديب عريف، وإذا كل نصيب حقائق الفكر والنفس بيننا أن تكون جدلاً مردداً، يدور به الكلام، وتتجدد المحاورة، وليس فيه بعد ذلك إلا أنه سبيل أن يلقي أحدنا السلاح.
وما بي والله إن ألقى السلاح، أو يلقيه هذا القرن الصامد ولتكن بي أن أكون مكفوف الصطا في هذا الجمال الذي تصطلح على تقييد انطلاقي فيه قيود من العرف الآبد، وقيود من الود الوثيق، وقيود الفطنة لطاقة الحياة الفكرية عندنا ولطبيعة إدراكها اللموحة.
وقد سئم الناس -أو كادوا- أن أقول فأطيل القول في تدعيم نظراتي إلى الجمال وقرضها، وحسبوها محاولة ظاهرة الدلالة أتحرى بها الأغراب والشذوذ، فيما تخادعهم عنه نفوسهم في حقيقة الجمال ومعانيه، وفي حقيقة الشعور به.
وأكثر الناس مطمئنون إلى حياتهم وإلى مذاهبهم الهينة في فهمها، وتفسير قوانينها. والإحساس بالجمال والقبح فيها وحريصون على أن تبقى لهم الفرحة، وتدوم المتعة بها كأنما هم في جلسة التفرج الهادىء أو المفكر السائم المنصرف عما في الحياة من جد ولهو بما في نفسه من طمأنينة وارتياح أو فتور وملل. فما يسر من كانت هذه حاله أن يقتحم عليه خلوته الناعسة الكليلة، أديب تسبقه الطبول إيذاناً بإشهار الحرب على الجمال وتجريده ورج جوانبه.
والناس إن لم يطيقوا الفجيعة في هذا كانوا على حق. فما يطيق الفجيعة في عقيدة من عقائد نفسه، أو في خيال من أخيلته إلا من فجعته الحياة في حقائقها الزائفة، وحججها الباطلة المدفوعة.
وشأن الأديب في العرف أن يضاعف محاسن الحياة، ويزيد الشعور بمسراتها لا أن يمسخ صورها الجميلة ويهدمها ولكن هل يسع كل أديب أن يكون هذا مذهبه، فذاك حيث ألقى الناس كما لقيتهم بجديد هو لغة الهدم والبعثرة والإقلاق في نفوسهم ومعتقداتهم الفكرية، ولغة البناء في منطق فكري واعتقاده.
وما تزال أدق البصائر، أفطن لعيوب الحياة وحقائقها المشوهة كما هي أفطن لمحاسنها وحقائقها الصحيحة.
ومن يظن أن المتشائمين ثائرون على الحياة ومسراتها، أو كارهون لمباهجها إنما هي ثورة الراغب المستزيد، لا ثورة الكاره المحتوى.
وقد تفطن الأستاذ عريف إلى أن سلاح الحيدة عن مناقشة نظراتي وقرعها بالحجة الدامغة هو السلاح الذي يضمن له أن أتكلم وحدي، وأن يكون صوتي المسموع لتكون الحرب بيني وبين سواد القراء، حرباً أكون فيها المهاجم الشاذ لا يبالي إن تقع بطشته من نفوسهم وعقائدهم الفكرية، فيلقى الأستاذ الكلمة لا تستوي علاقتها بما نجول فيه أو تحوم حوله ويكون عند القراء قد رد العادية وجال مجاله فيها، ونصيبي من الكد والجهد الناصب بعد ليس نصيبه، ولكنه ينحدر إلى نفوس الناس هذا المنحدر السهل الرقيق والسهولة ما تزال عندهم أداة، الزينة والمسرة وشارة التعلل والعزاء، أو هي مادة الاجترار التي ما تنتهي بها النظرة البارحة إلى إصغاء.
ولقد يكون من الممتع حقاً أن يظن الأستاذ الصديق أن هذا محك الحقائق والنظرات، وغاية النفوس والعقول، وهو في حقيقته العارية غاية الاسترخاء والتهويم.
فإن كنا لا نكتب إلا لأوساط الناس فقد وأدنا خير عناصر الجمال، وأقوى وأحفل معاني الفكر والنفس، ولم يكن أثرها جهدنا المبذول أكثر من متعة يزجى بها الفراغ ويتاح اللهو للنفوس الراكدة والعقول المهمومة.
وما أراني وأراه أمام القراء إن سلكنا هذا السبيل إلا في حلقة الملاكمة لا يعرف فيها سبيل المقارنة الدقيقة، والحكم الفني الصحيح، إلا من تضيع أصواتهم في دعكة الضجة المنطلقة، والهرج العالي. ثم لا معنى بعد إلا للضربة القاضية وأين هي مني ومنه، إن كانت الوسيلة إليها إن استمر على تدعيم حجة يغفلها الرد، وينصرف عنها النقد، وأن تكون الكلمة لي، ولي دائماً.
فهل يسعني أن أبقى هكذا كالمتهم بالجرم كل شأنه أن توجه إليه الأسئلة وأن يجيب.
لقد عرف الناس عني. كما أعرف عن شأن نفسي أنني لا أضيق بالكلام ولكني أكره أن أطيل الجولان حول نقطة لا يعدوها البحث، ولا يتخطاها الشرح والتفصيل، وما تعنيني والله راحة الناس، أو دفع الظنة عن بصري بالعيوب والمفارقات، إنما هي سآمة من يشعر أنه يضرب في أحشاء الفضاء.
فإن كانت هذه لغة الهزيمة، وإلقاء السلاح. فلتكن براءة مني لصديقي الأستاذ الأديب، يكتسب بها فوزاً جديداً عند من تكون الحياة في أبصارهم متحفاً من الصور الجميلة والأحجار المنحوتة والخشب المنجور. لا يفصل بينهما وبين الجمال الزائل المتغير القابل للإصغاء. وفقدان التأثير في النفوس إلا أنها باقية وهو متغير، وجامدة وهو منطلق. مدهونة لامعة مزخرفة، وهو بسيط عاطل من الزخارف والوشى.
ولهذا أخلق بأن يجعلها أجمل عندهم وأبقى أثراً في نفوسهم، وأغلى موقعاً فيها. ما دام هذا منطق من يخافون الفجيعة ويفرقون من مفازع الحرية والانطلاق ومفاجآت الزمن الراكض.
وهب أن هذا شأن أوساط الناس ومبلغ فهمهم للحياة والجمال ومقدرتهم على تفسير رموزها ومعانيها، أفيكون أيضاً شأن الأستاذ الأديب؟ أم هو لهو الفراغ وثرثرة البطالة الفكرية، يسوقاننا إلى تسويد الصحائف وإطالة النقاش في غير جدوى؟
يقول الأستاذ إنه لو كان له أن يستقبل ما استدبر في نقد نظراتي إليها لسلك طريقاً غير طريقه الذي سلك وأنه لا يصرفه عن التنكر لي إلا حرصه على ألا يعصف بصلة الود بيني وبينه.
فما أحبه إليّ عبدا يريحني من عناء قيد حز في قدمي حزه الأليم. ويحسب الأستاذ الصديق من أن تكون نفسي أعمق النفوس ارتياحاً إلى الصدق والتجريد ولو عندي بعد عقيدة مؤمن ما تزلزلها أقوى المؤثرات عنفاً فكيف بها إزاء هذه اللمحات العابرة.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :655  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 38 من 71
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الأول - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج