شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
البيوت القديمة في مكة
ولعلّ من المناسب أن نستطرد في هذا السياق إلى ذكر البيوت القديمة في مكة وإذا كنا قد أغفلنا ذلك فيما سبق من بحوثنا عن العهود السابقة لتعذر وجود المصادر التي يصح الاعتماد عليها فلا أقل من أن نلم في هذا العهد بما يمكننا لقرب عهدنا بمن نؤرخ عنهم ولأن أكثر أخلافهم لا يزال يعيش بيننا اليوم ونحن نعتمد فيما نرويه في هذا الفصل على كتاب إفادة الأنام للشيخ عبد الله الغازي لأنه ينقل عن مؤلفات مخطوطة اطلع عليها ولا نكاد نجد اليوم أثراً لأكثرها.
آل الشيبي: هم ذرية شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحجبي من أولاد عبد الدار وقد ظل بيتهم خالداً في مكة كما ظلت خدمتهم في الحجابة خالدة تالدة مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام خذوها يا بني عبد الدار خالدة تالدة إلى يوم القيامة لا ينزعها منكم إلاّ ظالم وإذا كان بعضهم قد هاجر إلى الآفاق في مناسبات عدة من عهود التاريخ فإن المعروف أن نسلهم لم ينقطع عن مكة (1) .
وقد ذكر الغازي (2) أن جماعة وفدوا من الآفاق يدعون انتسابهم إلى آل الشيبي إلاّ أن دعاويهم ما كانت لتثبت لقلّة البراهين أو لأن الحكّام في مكة كانوا لا يرون التوسع في موضوع شائك وبحسبهم أن يتركوا النسل المتوالد في مكة يمثل الحجابة ويقتصر عليها من ذلك ما عزاه الغازي إلى العلامة علي القاري في شرحه على شرح شيخه في نزهة الفكر ويتلخص في أن يمنياً ادعى الشيبة وشهد له على السماع اثنان من مكة وكاد يناله النجاح لولا أن أدركته منيته.
آل نائب الحرم: وهي أسرة قديمة ذكرها الغازي في تاريخه وقال إن نيابتهم في الحرم هي نيابة عن أمير البلاد في شؤون المسجد ومراقبة موظفيه من خدم ومؤذنين وأئمة وهي غير مشيخة الحرم التي يتولاها والي جدة من الأتراك وتخوله الإشراف على شؤونه العمرانية.
ومن الأسر القديمة في مكة ما أوردناه في الفصل الخاص بالناحية العلمية عند ذكر البيوت المشهورة بالعلم عدا الأسر العريقة من الأشراف الذين لا يزالون يستوطنون مكة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي يلاحظه المؤرخ أن أكثر العائلات التي وفدت في أوائل هذا العهد واستوطنت مكة كانت من المصريين والمغربيين وأهالي الشام والأتراك والذي أظنه أن المصريين من أقل الناس هجرة ولكن فتوحات محمد علي باشا في مكة شجعتهم على الانتقال إلى مكة والاستيطان بها.
ولا يبعد أن يكون أكثر المنتقلين كانوا من أصحاب العلاقة بجيش محمد علي وقد اختاروا الإقامة بعده لهذا فلا نعجب إن وجدنا العائلات المنحدرة من أصل مصري لا تنتمي إلاّ إلى جد واحد بعد جلاء المصريين عن مكة إلاّ نادراً ومن أشهر العائلات المصرية بيت القطان والزقزوق والرشيدي والمنصوري والدمنهوري.
لم تنقطع هجرة المغربيين والسوريين والأتراك والأكراد والسودانيين في كثير من عهود مكة أما العراقيون فمن أقل الأجناس هجرة إلى هذا البلد (3) وكذلك شأن الإيرانيين.
ومن أشهر المغاربة القدماء بيت حميدان الذي أنشأ بستاناً بجوار بركة الماجل.
ومن أشهر العائلات التركية بيت الدرابزلي والقرملي وكوشك والخشيفاني والوشكلي وغيرهم.
أما الهند وجاوى فقد جاءت هجرتهم إلى البلاد متأخرة كثيراً عن غيرهم فقلما تجد في عهود مكة السالفة بيتاً مجاوراً من الهند أو جاوى لبعد المسافة بينهم وبين هذه البلاد خصوصاً قبل استعمال السفن البخارية في المواصلات إلاّ أنهم عندما شرعوا يهاجرون إلى مكة ما لبث أن طغى تعدادهم على الجاليات الأخرى والذي أحسبه أن دافع الهجرة عند أهل الهند كان نشاطهم التجاري على عكس الحال بالنسبة للجاويين فقد كان مهاجروهم يستوطنون مكة لطلب العلم وقد برز منهم كثير من أجلة العلماء.
ولعلّ أقدم الجاليات المهاجرة من الهند كانت من الفتن ((كبيت الطيب وملائكة. وشمس. وقطب. وجلال. وخوج. وعبد الخالق. وحبيب. وجستنية. ومن أشهر الهنود غير الفتن بيت خوقير الدهلوي والبوقرية وميرا وفدا.
كما أن من أشهر بيوت الجاويين بيت البتاوي والسمباويا وزيني والمنكابو والقستي والفنتيانة والبوقس والفلمبان وقدس وسمس والفطاني.
ومن الجاليات التي اتسعت هجرتها إلى مكة جاليات الحضرميين ولعلّه كان رائد السابقين منهم النشاط العلمي ثم أضيف إليه النشاط التجاري فازداد طلاب الرزق من كبار التجار إلى صغار الباعة والمستخدمين ثم اتسعت هجرتهم وأصبح المجاورون يكادون يستقلون بأكثر حوانيت البيع في البلاد وانتفع الأهالي بخدمة صغارهم في البيوت ومن أشهر عائلات الحضارم بيت باجنيد وباحارث باناجة وباناعمة والعادة وباحكيم وبازرعة وباعيسى وباعشن.
وهنا يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال له وجاهته: ((هل استطاعت مكة أن تهضم هذه الجاليات وتصهرها في بوتقة واحدة؟)).

الواقع أنها لم تفشل كثيراً في هذا لأن الذي نشاهده أن أشهر الأسر في بلاد الحجاز اليوم إذا استثنينا الأشراف والشيبيين وبعض العائلات العربية، ينتمون إلى أصل هندي أو مصري أو مغربي (4) أو مثل ذلك ومع هذا فقد نسوا أصولهم ومضت مواكبهم تحمل طابعاً جديداً في ألبستهم وعاداتهم ولغتهم ولست أدعي أن هذا الطابع عليه سمات قريش ولكنه على كل حال طابع عليه سمات مكة بعد أن ازدحمت بشتى الأجناس والجاليات أثرت في تكوين طابع مكة، حتى إذا استقام ذلك الطابع استطاع أن يدمغ جميع القاطنين والمجاورين بدمغة واحدة يبدو أثرها في أكثر تقاليدهم وعاداتهم ولغتهم وطريقة حياتهم.
ولو وقفت الهجرة عند حدها في هذا العهد ولم تستمر إلى ما بعده لنسي الناس أن بينهم مصريين أو هنديين أو جاويين ولكن امتداد حركة الهجرة هو الذي ظل يذكر كل جالية بأصولها ويجمعها بالطارئ من أجناسها وهكذا كان الشأن في جميع ذلك مما يتعلق بالمدينة أو جدة.
ولعلّ مظاهر المجتمع في هذا العهد الذي ندرسه كانت أقرب إلى التوحيد في الزي والعادة منه فيما أتى بعده من عهد إلى الآن لأن الأهالي من طبقة العلماء والطلبة كانوا يتفقون في ارتداء الجبة والعمامة مع فارق بسيط يميز العلماء فقد كانوا يلفون عمامتهم على ما يشبه الطربوش الخوص يزينه غطاء مزخرف بألوان عدة من القماش يسمونه (ألفية) ويضيفون إلى الجبة كساء آخر تحتها كانوا يسمونه (شاية) يتمنطقون فوقه بحزام من قماش رقيق وينتعل كبارهم الخف بينما يكتفي الطلبة بالجبة ويلفون عمامتهم على غطاء رقيق للرأس يسمونه ((كوفية)) أو ((طاقية)) ويشارك العلماء في زيهم أكثر الأعيان وأصحاب المناصب بينما يشارك الطلبة كثير من الطبقات غير العمال وبذلك نجد أن الطبقات تتشابه في زيها مع فوارق لا تكاد تذكر إذا استثنينا طبقة العمال.
وكانوا يطلقون على طبقة العمال ومن شاكلهم من صغار الباعة والمحترفين (أولاد الحارة) خروجاً بهم عن طبقات المتعلمين من صفوف العلماء والطلبة وأعيان البلاد وموظفيها وتجارها.
وكما اجتمعت تلك الطبقات في زي متقارب اجتمع أولاد الحارة في زي أكثر تقارباً وأوضح بساطة فهم يكتفون بالثوب يرتدونه ولا يضيفون إليه إلاّ حزاماً يشدون به وسطهم ليزيد في صلابتهم أثناء العمل كما يعتقدون وهو زي عام يجمع سائر الطبقة الثانية لا في مكة وحدها بل في سائر البلاد التابعة لها ويضيفون إلى الحزام أحياناً (سداري أو سدرية) أو معطفاً قصيراً يسمونه (ميتان).

صورة تمثل شخصين من طبقة السوقة ويسمونهم إلى الآن أولاد الحارة ويبدو أحدهم إلى اليسار يلبس (الميتان) القصير وزميله إلى اليمين يتمنطق بالحزام وهما نوعان كان لبسهما شائعاً في الطبقة المذكورة وقد أخذ في الزوال إلاّ في أحوال قليلة

ويقول البتنوني (5) : إن الحجازيين استعاروا الحزام من الشام والذي أتبينه أن الحزام فكرة شرقية قديمة الشيوع، وأنه كان في أكثر أدوار التاريخ شعاراً للقوة والجمال في آن واحد وأن فرسان المماليك وقواد العباسيين قبلهم كانوا يستعملونه وأن ميادين الجمال في عصور الإسلام الذهبية كانت تعرف الفاتنات يتمنطقن بالأحزمة تتألق فيها الأحجار الكريمة وما توارثت الأجيال الحزام من عصور قديمة إلاّ لأنه كان مثلاً من أمثلة الجمال ونموذجاً لمعالم الأبهة والقوة.
وعاشت مكة في هذا العهد مستقرة أكثر مما كانت في عهود سابقة لأن المتنافسين على حكمها من الأشراف خضعوا لتنظيم العثمانيين وأحكامهم في توجيه الإمارة -كما أسلفنا- فتمتع الأهالي بطمأنينة اجتماعية وأخذوا ينعمون بأرواحهم من خيرات العثمانيين وصدقات الحجاج الذين تدفقوا على أداء الفريضة ألوفاً مؤلفة بعد أن علموا بشؤون الاستقرار، وزاد تدفقهم على أثر شيوع البواخر ومساهمتها في نقل الحجاج في عام 1291.
أثر هذا في ثروة البلاد الاقتصادية فنعم المكيون بهناءة العيش وعادوا إلى الإسراف في نعيمهم إلى الشأن الذي كان عليه الأمر في عهد الأمويين فبنوا قصور النزهة في ضواحي مكة من عدة جهات وأكثرها في وادي فخ عند مرقد الشهداء، وكانوا يخترعون المناسبات والأعياد ليخرجوا في مواكبهم إلى الجعرانة أو وادي ميمونة أو وديان فاطمة أو وادي الشهداء في زينة بادية وأنواع من الأطعمة الشهية فيقيمون حفلاتهم المؤنسة يطربهم المغنون وأصحاب الوتر والمنشدون، ولم يكن للنساء مجال واسع في هذا الإيناس، لأن روح البادية التي كانت تسود الناحية النسوية في عهد الأمويين كانت قد خبت فيما تلا ذلك من عصور ولم يحل هذا العهد حتى كانت فكرة الحجاب ساقتهن إلى المخابئ والخدور.
واشترك كثير من طلبة العلم وأساتذتهم من العلماء في لوثة هذا الترف وكان بعضهم لا يتحرج من محافل الطرب ويأنس بما تحويه من لعب كان أكثره نزيهاً ولعلّهم كانوا يشجعون بعض هذه الأعياد فيحبذون الخروج إلى وادي الشهداء ووادي ميمونة وأمثالها باسم زيارة القبور ثم يمتعون أنفسهم ويروحون عنها بما يجتمع فيها من معاني الترويح والانبساط وبذلك يصبح الغرض من الخارج إلى تلك الزيارات مزدوجاً.

الشيخ حسن عرب ويبدو في اللباس التقليدي المعروف لعلماء مكة لعهد قريب

وكان العامة يعنون بالاستكثار من المناسبات ليحتفلوا بها في صخب ولعب ومرح فيحتفلون بأول السنة الهجرية وبآخر أربعاء في صفر بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي رضي الله عنه في ربيع الأول، كما يحتفلون بدخول رجب وخروج شعبان وجميع ليالي رمضان وبالأخص في أواخره وبعيد شوال فتدق طبولهم وتشدو مزاميرهم في كل منطقة من أحيائهم، وكثيراً ما يترك الإيناس أثره فيهم فيرقصون في حماس على دقات طبولهم ويلعبون بعصيهم الغليظة حول نار يؤججونها في حلقاتهم، فإذا أمعن الحماس فيهم اشتبكت وقامت بدورها في قرع الرؤوس وكسر العظام وأكثر ما يقع هذا بين الطبقات من العمال وصغار الباعة الذين يسمونهم ((أولاد الحارة)) وقد يشاركهم من الطبقات الأخرى هواة تستثيرهم الحماسة وقد ظل ذلك حتى أنكره العلماء في العهد السعودي الثاني وأمرت الحكومة بمنعه كما سيأتي.
وكان أولاد الحارة يجعلون لمناطقهم التي يسكنونها حدوداً يفرضون حرمتها على جيرانهم من المناطق الأخرى ولا يسمحون لهم في المناسبات الصاخبة بالمرور بها وكانت حفلات العرس تصطدم بهذه القواعد لأن أصحاب المناطق لا يسمحون لجيرانهم المحتفلين بعرسهم أن يمروا من حدودهم إلاّ بعد أن يستأذنوهم، وفي الحالات التي يأذنون لهم فيها يقفون عند حدودهم مستقبلين بمباخر العود والند، وإذا ما رفضوا الأذن فإن عصيهم الغليظة تتولى منع موكب العرس من المرور وتفرق شمل المحتفلين به، وكذلك كانوا يفعلون في استقبال مواكب الأمراء فيقف سكان كل منطقة عند حدودهم لاستقبال الأمير ثم يمشون في ركابه إلى نهاية الحدود من الطرف الآخر ليستقبله أصحاب المنطقة التي تليهم ولا يبيحون لأنفسهم السير في موكب الأمير إلى أكثر من الحدود لأنهم سيعرضون للعب العصي الغليظة التي تطيح رؤوسهم أو تثخنها جراحاً وتكسيراً.

نموذج لحجاب المرأة في العصر الذي ندرسه

وكان أولاد الحارة هؤلاء كثيري التنازع حتى في غير المناسبات كان أصحاب كل منطقة منهم يشتبكون مع جيرانهم عند حدود المنطقة في منازعات يسمونها هوشات، وأعتقد أن هذه الظاهرة كانت شائعة في هذا العهد في أكثر بلاد الشرق الأوسط نتيجة تساهل حكامهم العثمانيين في ذلك.
واشتد ميل المكيين في هذا العهد إلى اقتناء الملابس الملونة بألوان زاهية فيها الأزرق والأصفر والأحمر وكانوا يعنون بنظافتها وصقلها أو كيها بقطع ناعمة من الودع قبل استعمال أدوات الكي كما يعنون في بيوتهم شديد العناية بزخرفة الأثاث وتنسيقه تنسيقاً بديعاً كما يعنون بأطعمتهم وتنويعها إلى أنواع كثيرة يستعيرون فيها أنواعاً من أطعمة جميع الأجناس الذين يهاجرون إليهم.
وتكاد حياتهم في هذا العهد تكون محدودة بهذا اللون من العيش فلا نزاعات سياسية تقوي مطامعهم في الحياة ولا نزوات عامة تغذي مشاعرهم أو تثيرهم إلى نوع من التذمر.. حسبهم من الحياة خيرات يغدقها العثمانيون أو صدقات يبذلها الحجاج فينعمون ويلعبون ويترفون (ويتهاوشون) ثم يأوون إلى مضاجعهم داعين لآل عثمان بالنصر والتأييد شاكرين الله الذي جعل أفئدة الحجاج تهوي إليهم في كل موسم وسخر لهم غيرهم في بلاد كل المسلمين والكفرة ليصنعوا لهم ما يحتاجون إليه لضروراتهم أو ينعمون به في كمالياتهم.
ويذكر الغازي عن هذا العهد أن رجلاً من الصواغ يدعونه أبا بكر الملا كان يستخرج الفضة من جبل في الجعرانة فكان يحمل الأحجار الكريمة إلى بيته ويعالجها ثم يبيعها فضة ولكنه ظهر فيما بعد أن محصولها لا يزيد كثيراً عن نفقاتها فترك ذلك (6) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :657  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 205 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج