شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الحسن بن أبي نمي
واستقل الحسن بإمارة أبيه على أثر تنازله، فعالج أموره بحزم وقوة، وكان لا يقل عن كفاءة أبيه، إلاّ أنه كان أكثر تسامحاً وأوسع عدلاً، وقد حاول أن يخفف من غلواء الأوتوقراطية التي ابتدعها أبوه، ولكن أصحاب الميزات كانوا قد استمرؤوا ذلك بتقادم الأيام، وأصبحوا يشعرون أنها حق طبيعي يجب أن يتميزوا به عن عامة الناس، فذهبت محاولاته عبثاً، وكان العثمانيون في هذا العهد يرون أن من الخير لسياستهم ألاّ يتعرضوا لسياسة الولاة الداخلية وأن يقنعوا بأسمائهم تتلى على المنابر ((وفرمانهم)) الذي يوقعون عليه بالموافقة على الأمير المنصوب.
وحسن بن أبي نمي هو أول من كتب في التوقيعات ((يجري على الوجه الشرعي والقانون المحرر المرعي)) وتبعه على ذلك من جاء بعده من أمراء مكة، وكان يكتب على ((الإنهاءات)) المعروضات ((يجاب على سؤاله زاد الله في نواله)) (1) وفي هذا ما يدل على سماحة نفسيته وطيبتها، وكان يمهر على ((الحجة)) و ((الإنهاء)) بختمه ويكتب على التقارير اسمه فقط من غير أن يمهر عليها (2) وقد بنى داراً له أسماها السعادة كانت أمام باب أم هانئ، وباب أجياد، وقد دخلت في توسعة المسجد الجديدة في جنوبه الغربي كما بنى أخوه ثقبة داراً له أسماها الهناء بجوار السعادة من جهة الجنوب (3) وقد ظلت دار السعادة سكناً لذوي زيد كما سكن دار الهناء ذوو بركات وهما فرعان من أولاد أبي نمي يأتي ذكرهما.
وفي عهد الحسن فقد مفتاح الكعبة سنة 996 من حجر سادنها عبد الواحد الشيبي فوقعت الضجة وأغلقت أبواب المسجد وفتش الناس فلم يظفروا به، وكان مصفحاً بالذهب، ثم وجدوه مع أعجمي في اليمن مع مسروقات أخرى في بيت له، فأُعيد المفتاح إلى مكة (4) .
وكان الحسن شديد الفراسة فارط الذكاء.. ذكروا أنه وجد حبلاً نسيه أحد اللصوص في مكان سرقته، فاستدل من رائحته على أن السارق عطار، ثم ما لبث أن تحرى عن العطار حتى عرفه، وفي مرة أخرى اختصم شامي ومصري في جمل فأمر بذبحه ونظر فرأى مخه معقوداً فحكم به للشامي وأمر بتغريم المصري وقال: إن الشاميين يعلفون جمالهم ((الكرسنة)) وهي تعقد المخ، أما المصريون فإنهم يعلفونها الفول وهو يعقد الشحم، ووجد مرة عصاً في مكان مال مسروق بالمزدلفة فعرف من شكلها نوع القبيلة فاستحضر جماعة منهم وتحرى عن صاحبها حتى عرفه (5) ولهذا فقد استطاع أن يخيف كل مقدام فاتك حتى ضبط الأمور على أحسن نظام وأشاع الأمن. وفي عهد حسن بن أبي نمي كثر وفود الحجاج وكثر المهاجرون إلى مكة والمجاورون فيها فتضاعف عدد السكان، وكان المعروف أن ينادي ولاة مكة على أثر الفراغ من الحج: يا أهل الشام شامكم ويا أهل اليمن يمنكم، فلما تولى ألغى ذلك ورغب الكثير في المجاورة (6) .
وكان حسن إلى جانب هذا جواداً وكان يشجع المؤلفين ويمنح الشعراء وقد تربو جوائزه عن الألف. واستمر الأمر في مكة على طمأنينته التي ذكرت نحواً من سبعة عشر عاماً شمل فيها عدله طبقات البلاد وعمّ الأمن جميع البوادي والحواضر حتى كانت القوافل تسير بأموال التجار في عموم البوادي لا يحرسها خفير، وكانت قبل ذلك نهباً للعابثين والفاسدين، واستعان حسن على عادة الأشراف بأكبر أولاده ثم توفي فاستعان بابنه أبي طالب فشاركه الحكم بتأييد من السلطان العثماني (7) . ويذكر الغازي (8) من طرائف الحسن أن الشيخ عبد الرزاق الشيبي استأذنه مرة للسفر إلى الهند فأنشده بيت الطغرائي المعروف:
فيم اقتحامك لج البحر تركبه
وأنت تغنيك عنه مصة الوشل
 

نسِل محمد أبي نمي الثاني

ويبدو فيه أنهم تفرَّعوا إلى ذوي بركات وهم في أقصى اليسار وذوي زيد وهم في الوسط والعبادِلَة وهم أقصى اليمين وقد ظهر أجداد الفروع في إطارات مميّزة

فأجابه الشيبي من القصيدة نفسها:
أريد بسطة كف أستعين بها
على قضاء حقوق للعلى قبلي
فاستحسن بديهته وأمر له بألف دينار.
وفي سنة 986هـ سار الشريف حسن إلى نجد في جيش عدته خمسون ألفاً فحاصر بعض جهات نجد وقد طال مقامه فيها وقتل فيها رجالاً ونهب أموالاً وأسر بعض رؤسائهم فأقاموا في سجنه سنة ثم أطلقهم بعد أن دفعوا ما أرضاه وقد أمَّر فيهم محمد بن الفضل (9) .
واستوزر الشريف حسن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتيق الحضرمي (10) وكان من أظلم الناس وأشدهم جرأة على الباطل فأساء ذلك إلى الشهرة الطيبة التي كان يتمتع بها أمير البلاد.
واستطاع ابن عتيق أن يوهم الأمير ويحتال لمنزلته عنده حتى وثق به فتسلط على شؤون البلاد وتصرف في حكمها بما يشاء، وكان الشريف حسن لا يرد له أمراً ولا يسمع ضده شكوى.
ذكروا أنه كان يستأصل أموال الأموات من الأهالي والحجاج فيحرم ورثتهم، وكان يحتال لذلك بحيل شرعية يستخدم فيها بعض موظفي المحكمة فلا يستطيعون عصيانه، وكان يجمع لهذا الغرض أختام المتوفين من قضاة مكة ونوابهم، فإِذا قضى أحد الأغنياء في مكة أقام دعواه على تركة المتوفي بدين يستغرق التركة، وكلف من كتاب المحكمة من يزوّر له حجة بذلك المبلغ ثم ختم الحجة بأحد الأختام المحفوظة لديه بأسماء القضاة السابقين وأمر عبد الرحمن المحالبي -ولعلّه كاتب المحكمة- أن يكتب اسم القاضي بخطه إلى جانب الختم زيادة في الإيضاح ثم وقعها بشهادة الشهود وهما في العادة أخواله علي بن جار الله وعبد القادر بن جار الله ثم تذيل الحجة بعبارة ((رسمية)) نصها: ((تأملت هذه الحجة فوجدتها مسددة)) وشهد بذلك محمد بن عبد المعطي الطبري وابن عمه صلاح الدين ابن أبي السعادات الطبري وأحمد بن عبد الله الحنبلي، وبذلك تكتسب الحجة قيمتها الشرعية ويستطيع بموجبها أن يستولي على تركة المتوفى عن آخرها.. وكان بعض الناس يقرأونها ويعرفون أسلوبها في التزوير ولكنهم يعجزون عن أن ينبسوا ببنت شفه (11) .
وطلب ابن عتيق من أحد الأروام (الروم) واسمه خضر أفندي أن يشهد له زوراً في دعواه على دار أراد اغتصابها فرفض خضر أفندي -وكان رجلاً صالحاً- إجابته إلى ما طلب فأسرها في نفسه حتى استطاع أن يسعى ضده في مجلس الأمير وأن يقنعه بمساعيه ضد حكومته وأنه يكتب إلى أمراء الأروام وينسب إليه الظلم والمظالم ثم نصحه بأن يتلافى شروره بإبعاده من البلاد حتى استطاع أن يستصدر أمره بالموافقة على ذلك.
ومن ثم بادر بتنفيذه على الفور وأبى أن يرجئه حتى يصفي أملاكه، وما كاد يفصل عن مكة حتى وضع يده على دوره واستصفى جميع ما فيها لنفسه بعد أن باع أثاثها في مزاد علني، وقد بلغ ذلك خضر أفندي فمات لوقته من هول المفاجأة (12) .
وهكذا تأبى أحداث الحياة إلاّ أن تسيء إلى سمعة رجل لم تظفر إمارة مكة بمثله مروءة وعدلاً إلاّ في القليل وأن تهيئ له من بطانته من يطوي عهده الناصع بأسوأ ما تطوى به الصفحات في التاريخ.
والواقع أن الشريف حسن كان في خلاله النادرة ما يرفعه إلى مصاف المشهورين بالعدل والنصفة وما أقلهم في التاريخ إلاّ أن هذا لا يخليه من مسؤولية البغي الذي كان يرتكبه من استوزره في الحكم واستصفاه لمعالجة أمور الناس.. ولقد كنت أتمنى لو استطعت كمؤرخ أن أنتحل بعض الأعذار براً بسيرته الطيبة فأحيل ذلك إلى جبن الرعايا الذين تباطأوا عن تبليغ الحقائق إلى الشريف في أوقاتها إلاّ أن هذا لا يخليه من المسؤولية بحال لأن الشجاع الذي يقوى على مكاشفته بالحقائق سوف لا يأمن عاقبة الوشاية التي ساقت خضر أفندي إلى ما ساقته.
وإن في المأساة القاسية التي تجرع مرارتها خضر أفندي ما يشير إلى أن صلة الشريف حسن برعاياه لم تكن مفروشة بالرمل الناعم بالرغم من محبته للعدل وشهرته به والجريء من رعاياه لا يكفي أن يكون جريئاً على المكاشفة إذا لم يظفر بحصانة يأمن معها غائلة الأقوياء.
ولو أعدّ الشريف حسن رعاياه للمكاشفة وتركهم يجربون حصانته من الغوائل لما عدم النفوس الحية من صفوف بني عمومته الأشراف أو من يليهم من أعيان الأهالي أو عامة الشعب لأن الأحياء من هذا الصنف لا يخلو منهم زمان خصوصاً إذا توفرت الحصانة.
إذن فقد كان الشريف حسن مسؤولاً عن أخطاء من استوزره وأنه ليسوؤنا أن نطوي صفحته التاريخية على شيء لا يتفق مع سجاياه العالية وما شاع من شهرته بحب العدل.
ويؤيدنا فيما ذهبنا إليه من أن الشريف حسن لم يترك رعاياه يجربون حصانته إذا كاشفوه أن ابنه أبا طالب ما كاد يتلقى نبأ وفاة أبيه حتى أمر بالقبض على ابن عتيق وإرساله إلى السجن (13) .
وقد كان أبو طالب من أجرأ الناس في رأي من ترجموا له فلا يسكت عن مساوئ ابن عتيق ولا يرجئها إلى اليوم الذي يصل فيه إلى الحكم إلاّ لأنه كان عاجزاً عن مكاشفة أبيه وفي عجز الابن ما يعطي أبلغ دليل على مقدار ما يفصل بين الشريف حسن ومن يليه. فضلاً عن الرعايا.
وظل الشريف حسن على أمره إلى أن خرج في عام 1010هـ إلى نجد مقاتلاً فوافته منيته في مكان من نجد يقال له القاعية على مسافة عشرة أيام من مكة بسير الإبل وذلك في 3 جمادى الآخرة وقد حمل في محفة على البغال إلى مكة حيث احتفل بطوافه بالكعبة على عادة الأشراف ودفن بها (14) .
وعندما شعر بعض أولاده بدنو أجله في عصر الأربعاء أرسلوا البراذين إلى المنازل ((المحطات)) صوب مكة لتتعاقب كخيل البريد في نقل الجثمان فلما توفي في ليلة الخميس أسرعوا بنقله فلم تنتصف ليلة السبت حتى كانوا قد انتهوا به إلى مكة (15) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :659  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 136 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.