شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الطبقة الثالثة من الأشراف: ((الهواشم))
ولم يطل مقام الصليحي في مكة إلى أكثر من شهر واحد لأنه ما لبث أن اختار لحكمها مؤسس الطبقة الثالثة أبا هاشم محمد بن جعفر بن محمد حفيد الحسين الأمير وهو يجتمع في الحسين هذا مع الطبقة الأولى كما يجتمع مع الطبقتين الأولى والثانية في جده الثامن عبد الله بن موسى الجون.
وقد زوّده الصليحي بالمال والسلاح وأفرد له جيشاً يستعين به على أمن البلاد ثم ارتحل إلى اليمن (1) .
ويذكر بعض المؤرخين (2) أن الصليحي اضطر إلى الرجوع عن مكة لوباء أصاب جيشه ونحن لا نستبعد أن يكون ذلك بعض من أسباب عودته أما السبب الأهم فهو فراغه من مهمته واستصفاء البلاد من الطبقة الثانية ((السليمانية)) وقد كانوا يدعون للعباسيين وتسليمها للهواشم وقد رضوا بالدعاء للفاطميين.
أبو هاشم محمد بن جعفر
وهكذا بدأ أبو هاشم يزاول الحكم بعد أن أمر بالدعاء للفاطميين. إلاّ أن الفاطميين ما لبثوا أن قطعوا عنه الإعانات التي كانوا يمدونه بها مضطرين لذلك بأسباب الشدائد العظمى التي حلت بالبلاد المصرية في ذلك العهد فاحتاج أبو هاشم إلى ما ينفقه حتى أخذ قناديل الكعبة وستورها وصفائح بابها والميزاب وصادر بعض أموال التجار من أهل مكة.
ثم رأى أن يحذف اسم الفاطميين من الخطبة ويخطب للقائم بأمر الله العباسي فخطب له في سنة 462 ثم كتب إلى حاكم بغداد يخبره بذلك فبعث إليه العباسيون بثلاثين ألف دينار وخلعاً نفيسة ورتبوا له سنوياً عشرة آلاف دينار وكتب إليه حاكم بغداد بأن أمير المدينة ((مهنا)) إذا فعل هذا أجرى له كل سنة خمسة آلاف دينار (3) .
وبذلك تمت الخطبة للعباسيين. إلاّ أن الأذان بحي على خير العمل ظل على أمره في مكة متابعة للمذهب الشيعي فانتدب العباسيون الشريف أبا طالب لإقناعه فناظره أبو هاشم طويلاً إلى أن قال له هذا أذان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقال له أبو طالب إن ذلك لم يصح عنه وإنما فعله عبد الله بن عمر في بعض أسفاره فما أنت وابن عمر؟ فأسقطه أبو هاشم من الأذان (4) .
وحاول السليمانيون من أشراف الطبقة الثانية أن يستردوا إمارتهم على مكة فثاروا على أبي هاشم وأجلوه عن مكة بزعامة أحد الأشراف حمزة بن ((وهّاس)) بن أبي الطيب الذي تولى أمر مكة فترة لم يعينها أحد المؤرخين ثم ما لبث أبو هاشم أن أعاد كرَّته واستعاد الإمارة (5) .
وإني لأحسب أن للفاطميين يداً في ثورة السليمانيين على أبي هاشم أو أنهم على أقل تقدير كانوا يساعدونها لأنه من غير المعقول أن يترك الفاطميون أمر الدعاء لهم في مكة بعد أن بذلوا في سبيله ما بذلوه من أموال وساعدوا على بناء حكومة الأشراف لتكون صوتاً لهم في مكة.
على كل فقد عاد أبو هاشم إلى مكة ظافراً بعد أن أجلى حمزة بن وهاس واستمر يدعو للعباسيين، ثم ما لبث أن سير إلى المدينة جيشاً من مقاتلة الأتراك فتغلب على بني مهنا من أود الحسين وأجلاهم عنها وضمها إلى إمارته (6) .
وشعر الفاطميون أنه لا بد من العمل على استعادة الخطبة لهم في مكة فندبوا في سنة 466 من اتصل بأبي هاشم في مكة ليقبح له خطبته للعباسيين ويبذل له من الأموال ما يرضيه. ولعلّ العباسيين شعروا بذلك فأرسلوا صحبة السلار الذي يرافق الحج العراقي أموالاً عظيمة قدمها إلى أبي هاشم في جملة الهدايا التي قدمها كما جمع أموالاً غيرها من الحجاج الذين رافقوه فقدمها إليه وقد نجح السلار في مهمته بقدر ما فشل الفاطميون.
إلاّ أن النجاح كان مؤقتاً، فقد توفي في عام 467 الخليفة العباسي المقتدى فاستأنف الفاطميون سفارتهم مثقلة بالهدايا والتحف العظيمة وكتبوا إلى أبي هاشم يقولون إن عهودك كانت للخليفة القائم والسلطان السلجوقي وقد ماتا، فاستشار أبو هاشم أصحابه فأشاروا عليه بأن يقبل العرض الذي قدمه الفاطميون وقالوا أما وقد رجعت لنا المعونة من مصر فإننا لا نبتغي بابن عمنا بديلاً وبذلك عاد الدعاء للفاطميين.
ولم يستمر نجاح الفاطميين طويلاً لأن سلار الحج العراقي ما لبث أن عاد في موسم 468 يحمل إلى أبي هاشم عروضاً جديدة منها أن يزوجوه من أخت جلال الدولة في العراق وأن يمنحوه عشرين ألف دينار كتعويض عما فات من السنين الماضية فقبل أبو هاشم وخطب للعباسيين (7) .
وهكذا ظل العباسيون والفاطميون يتناوبون استرضاء أبي هاشم أمير مكة بالهدايا والأموال عدة سنوات إلى أن كان عام 484 حيث رأى العباسيون أن الفاطميين استطاعوا أن يستميلوه إليهم فقرروا أن يعاملوه بالعنف فأرسلوا قوة من التركمان لقتال مكة فقاتلها أبو هاشم قتالاً عنيفاً ثم يئس من النصر ففر إلى بغداد، ولعلّه أراد بذلك أن يسترضي العباسيين (8) ، ويشير الفاسي (9) إلى غير ذلك من الحوادث فيذكر أن السنيين وهم أتباع بغداد، والشيعيين وهم اتباع الفاطميين في مصر اشتبكوا عدة مرات في موسم الحج أثناء هذه السنوات وكان كل فريق يحاول استخلاص الخطبة له وأن الظفر كان سجالاً بين الفريقين.
والذي نستخلصه من جماع ما تقدم أن مكة عادت تدعو للعباسيين في عهد أبي هاشم بعد أن قطعت نحو مائة سنة، وأن الفاطميين بذلوا في سبيل استرجاع الدعاء لهم كثيراً وأن الظفر بين الفريقين كان سجالاً.
ويذكر ابن الأثير (10) أن مدة الدعاء للعباسيين في هذا العهد كانت أربع سنين وخمسة أشهر، ولعلّه أراد بذلك مجموع الفترات التي ظفر العباسيون فيها بالدعاء لهم.
وعانت مكة كثيراً من الضيق والغلاء والشدة في هذا العهد، وذلك نتيجة طبيعية للنزاع الذي جرته الدعوة على منبر هذا البلد الضعيف بين قوتين عظيمتين.
وظل أبو هاشم في أخريات أيامه يدعو للعباسيين على النحو الذي أسلفنا إلى أن توفي سنة سبع وثمانين وأربعمائة (11) وكان يمتاز بالقوة والشجاعة. فقد حمل في بعض حروبه على شخص بالسيف فقطع درعه وجسده وقوسه حتى وصل السيف إلى الأرض (12) . ويذكره أبو المحاسن (13) فيبالغ في ذمه ويقول إنه كان متلوناً تارة مع العباسيين وأخرى مع المصريين ((الفاطميين)).
قاسم بن محمد: وبوفاته تولى الإمارة بعده ابنه قاسم بن محمد وظل أمر مكة في عهده عرضة للفتن التي تعرض لها أبوه قبله من جراء احتكاك العباسيين بالفاطميين في شأن الخطبة.
فقد أمر في أول عهده بالخطبة للفاطميين، ثم قطعها في عام 487 وخطب للعباسيين ثم أعيدت للفاطميين ورجعت بعدها للعباسيين في عام 489 (14) .
وفي هذه الأثناء هجم على مكة ((أصيهيد بن سارتكين)) القائد العباسي وأجلى قاسماً عنها ثم ما لبث قاسم أن أعاد الكرة على مكة فاستولى عليها وأجلى أصيهيد عنها في عام 488.
وقطع الحج العراقي في عهد قاسم عدة سنوات متفرقة وهي السنوات التي تغلب فيها النفوذ الفاطمي في مكة أو في السنوات التي اشتدت فيها الفتن الدينية في العراق من جرّاء الاختلافات المذهبية في ذلك القطر (15) .
وإذا كنا لا نرتاب في أن مكة كانت تستفيد من ميلها إلى الفاطميين فوائد مادية جمة فإننا لا نشك كذلك في أنها كانت تخسر كثيراً لقاء ذلك بسبب خلافها مع العباسيين وتتعرض في سبيله لكثير من الفتن والحروب وتعاني من غلاء الأسعار وضيق الأرزاق ما لا طاقة لها باحتماله. ولو قدر لها أن تعيش قوية بنفسها لاستطاعت أن تمنع الدعاء عن الفريقين وتقف بينهما موقف المحايد ولكن ضعفها وما منيت به من فقر في أراضيها هيأها للتأرجح بين الأقوياء.
وظل قاسم على أمره في مكة إلى أن توفي في عام 518 بعد أن حكم مكة نحواً من 35 سنة وكان أديباً شاعراً، ومن شعره:
قومي إذا خاضوا العجاج حسبتهم
ليلاً وخلت وجوهم أقماراً
لا يبخلون بزادهم عن جارهم
عدل الزمان عليهم أو جارا
وإذا الطراد دعاهمو لملمَّة بذلوا
النفوس وفارقوا الأعمارا
وإذا زناد الحرب أذكت نارها قد
حوا بأطراف الأسنَّة نارا (16)
ويذكره ابن خلدون (17) فيقول إنه عجز عن إقرار الأمن والعمل على إصلاح شؤون إمارته.
فليتة بن القاسم:
وعلى أثر وفاة قاسم بن محمد سنة 518 تولى الإمارة فليتة بن القاسم (18) وليس فيما نقله المؤرخون ما يثبت أنه كان يدعو للعباسيين أو الفاطميين إلاّ أن تقي الدين الفاسي (19) ينقل إلينا أن في عهده حج الركب العراقي ولم يذكر أنه وجد فيه ما كان يجد في أبيه من قسوة في المعاملة أو خلاف ولا أستبعد أن يكون فليتة دعا للعباسيين فوق المنبر.
إسقاط المكوس: وأسقط فليتة المكوس التي كان يجعلها آباؤه على الحجاج وأحسن إلى الناس وسار فيهم أفضل سيرة. وكان فليتة من أدباء مكة وكان له شعر محفوظ ودامت ولايته في طمأنينة واستقرار إلى أن توفي سنة 527 (20) .
أول خلاف بين الورثة من الإخوان والأشراف: وبوفاة فليتة اختلف أبناؤه على الحكم فنشب بينهم القتال واستطاع هاشم أحدهم أن يتغلب بسيفه عليهم وأن يستأثر دونهم بالحكم.
هاشم بن فليتة: ويبدو أن هاشماً لم يكن في رفق أبيه أو عدله وأنه كان على خلاف مع العباسيين وقد تصدى مرة لأمير الحج العراقي في الطواف في عام 537 ثم صادر بعض أمواله وقد دام حكمه نحو 18 سنة وتوفي في 545. ويذكر صاحب النفوذ الفاطمي في جزيرة العرب أن هاشماً دعا للعباسيين في أواخر سني إمارته.
القاسم بن هاشم: وبوفاة هاشم تولى الأمر بعده ابنه القاسم وكان في مثل شكيمة أبيه وبأسه وقد ورث عنه كرهه للعباسيين فظل على خلاف معهم عدة سنوات وفي هذه الأثناء أوفد إلى مصر عمارة اليمني (21) زيادة في توثيق الصلات بالفاطميين (22) وقد قوبل عمارة من الخليفة الفاطمي بحفاوة بالغة وأنشد عمارة قصيدة قال فيها يصف العيش:
ورحن من كعبة البطحاء والحرم
وفداً إلى كعبة المعروف والكرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها
بين النقيضين من عفو ومن نقم (23)
وفي عام 555 علم القاسم أن الحج العراقي برئاسة أمير أرغش استعد لقتاله فلما أنس اقترابه ترك مكة هارباً ومن ثم كانت الفتنة بين أهل مكة والحج العراقي بمنى وقتل جماعة من أهل مكة ولحق الباقون بأهلهم فجمعوهم وأعادوا الكرة بهم فسلبوا نحو ألف جمل من الحجاج فنادى أمير الحج العراقي في جنده ووقع القتال فقتل جماعة من الفريقين وشاع النهب ورأى أمير الحج العراقي أن يغادر منى لا إلى مكة لإتمام نسكه ولا إلى الزاهر حيث تقوم منازله بل إلى متجه الطريق الذي يعود به إلى بلاده دون أن يكمل حجه وقد عاد كثير من الحجاج ولم يستطيعوا إكمال حجهم خوف الفتنة (24) .
والظاهر أن المدافعين من عبيد صاحب مكة قطعوا طريق الحاج العراقي بين منى ومكة فاضطر أكثرهم للفرار دون أن يتموا مناسكهم.
وبكل فقد كانت أعمال القاسم في مكة شديدة الوطأة وكان يعامل الأهالي والمجاورين معاملة قاسية ويصادر كثيراً من أموالهم ومع هذا ظلت مكة تدعو للعباسيين طيلة عهد القاسم (25) .
ولعلّ قسوته في مكة أثارت عليه حفيظة المظلومين فقد ثار عليه عمه عيسى ابن فليتة فأجلاه عن مكة وتولى إمارتها في عام 556 ولكن تقي الدين الفاسي يذكر أن قاسم بن هاشم غادر مكة متخوفاً من أمير الحج العراقي فتولى الإمارة فيها عمه عيسى بن فليتة (26) .
عيسى بن فليتة: وما كاد يستقر الأمر لعيسى حتى استأنف القاسم هجومه عليه وأجلاه عن مكة في شهر رمضان سنة 557 فلم يبعد عيسى إلاّ أياماً ثم عاود الهجوم على القاسم فقتله واستولى على مكة في السنة نفسها 557 (27) .
وفي هذا العام 557 أو العام الذي قبله حج نور الدين محمود الزنكي صاحب حلب في موكب عظيم وأنفق في مكة والمدينة أموالاً كبيرة.. ولعلّها كانت حجة سياسية لها ما بعدها مما سنبينه في الفصل الآتي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :463  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 68 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.