لا يستنتج الباحث من مطالعاته فيما كتب عن مكة أن عمرانها اتسع في هذا العهد عما عرفناه في عهد الأمويين أو أن مساحة المأهول فيها توسعت عما كانت، بل يجد أن الأمر على عكسه وأن السكان قلّ تعدادهم جداً. فقد تفرق أبناء مكة في الآفاق واستوطنوا الأراضي المخصبة واتخذوا لهم أملاكاً في مصر والمغرب والشام والعراق حتى لم يبق في مكة من أهلها إلاّ أقل من القليل مع من جاورهم من مسلمي الآفاق للتشرف بالجوار وكان من عادة حكّام مكة أن ينادي مناديهم بعد أداء الحج ((يا غريب بلادك)) تقليداً لابن الخطاب لئلا يستأثر المجاورون بثروات البلاد.
والذي يبدو أن لثورات العلويين التي تحدثنا عنها في الفصل الخاص بالناحية السياسية وما نتج منها من حروب وفتن أكبر الأثر في إقفار البلاد من أهلها وتأخر مقدراتها في العمران، على أن إقفار البلاد من أهلها لم يحرمها كل الحرمان من الإصلاحات وإن قلّت لأننا نجد الخلفاء من بني العباس عنوا ببعض المرافق فيها.
عني الرشيد بالعيون التي طمرت بعد عهد معاوية فأحياها وصرف مياهها في عين واحدة يقال لها الرشا واتخذ البرك لها في أعلى مكة وأسفلها تصب فيها الماء فيستقي منها الناس، وتلك كانت عادتهم قبل إنشاء موارد الماء في القرون المتأخرة(1) ولما لم يف ذلك بالغرض نشطت زبيدة زوجته للأمر فاشترت أرض حنين وكان فيها نخيل وزرع فألغته وبنت للماء قنوات يصب فيها إلى أطراف مكة(2) ثم اشترت أرضاً أخرى في وادي نعمان فوق عرفات وبنت قنواته ليصب في عرفه ثم أصلحت البرك الموجودة في مكة وبنت بركة غيرها ليصب فيها الماء ويستقي الناس، وقدرت نفقات ذلك بنحو ألف وسبعمائة ألف مثقال من الذهب وهو يعادل مليون وسبعمائة ألف دينار ذهبي(3).
وأمر المأمون بإنشاء خمس برك في مكة تتسلط عليها عين زبيدة فجعل إحداها عند شعب ابن يوسف (شعب علي) والثانية عند الصفا والثالثة عند الخياطين بجوار ما نسميه ((باب إبراهيم)) عند فوهة سكة الثنية(4) والرابعة عند سوق الحطب ((في الهجلة)) والخامسة في ماجل أبي صلابة(5) وجعل المسارب بين البرك يجري فيها الماء من بركة زبيدة.
وبنى الرشيد له داراً بين الصفا والمروة وشارعة على المسعى كان يقال لها دار القوارير(6) وفيها دخلت بئر هاشم وكانوا يسمونها ((سحلة)) أو بئر جبير بن مطعم لأنه اشتراها واستوهبها من هاشم وهي موجودة إلى اليوم في باب قايتباي(7) وقيل إن عبد المطلب وهبها لمطعم عندما استغنى عنها بحفر زمزم.
وأنشأ ياسر خادم زبيدة بأمرها ميضاءات على باب أجياد الكبير وأدخل فيها بئر الحفر(8) وقد دخل كل هذا في رواق باب أجياد في التوسعة الجديدة.
واشترت زبيدة دوراً أوقفتها في مكة ومنها دار الأرقم وهي الدار التي كان يختبئ النبي صلى الله عليه وسلم فيها قبل البعثة في زقاق على يسار الصاعد إلى الصفا ويسميها بعضهم دار الخيزران(9) ولكن القطبي يذكر أن دار الخيزران غير دار الأرقم وهي بجوارها(10).
وأنشأ الرشيد على رؤوس الجبال منائر تشرف على فجاج مكة ورتب المؤذنين لها لأن بعضهم كان لا يبلغه صوت المسجد فبنى على أبي قبيس أربع منائر، وعلى رأس الأحمر المقابل منارة وعلى الجبل المشرف على شعب عامر منارة أخرى تشرف على المجزرة ومنارة جبل كدى وغيرها، وبنى مولاه (بغا) غير ذلك على جبال أخرى في الفلق والمعلاة والشبيكة وأجياد وبئر ميمون في أعلى البطح ومسجد الكبش بمنى.
وكان بعض المؤذنين يسهرون فوق المآذن التي بناها الرشيد في الجبال ليؤذنوا فيها ولعلّه أذان السحر الذي كان مستعملاً، وقد أهملت هذه المنائر بتقادم الأجيال وخربت ولم يبق منها أثر(11).
وفكر الرشيد في أن يعنى بمواصلات مكة البحرية فينشئ قناة ما بين البحر الأحمر والأبيض، فأشير عليه بترك ذلك مخافة أن تتصل سفن الروم بأرض العرب، وتهدد الحرمين بأخطارها فعدل عن ذلك وما عدل عنه الرشيد نفذه الخديوي سعيد في مصر بفتح قناة السويس عام 1286هـ.
عين حنين تنبع من جبل يقال له طاد بالقرب من مزارع الشرائع في طريق الطائف وكان يصب في بستان حنين فاشترت زبيدة بستان حنين وأجرت منه الماء إلى مكة في قنوات. راجع ملحق عين زبيدة في أخبار مكة للأزرقي 2/265 وقد انتهت القنوات إلى طرف مكة من أعاليها ولم تدخل مكة إلاّ في قرون متأخرة.
دار الأرقم شملتها توسعة الصفا ويمكن معرفة موضعها إذا هبطت من درج الصفا ومضيت نحو ثلاثين متراً وجدت باباً يخرج إلى عمارة الأوقاف الجديدة وبين الباب المذكور وموضع دار الأرقم نحو ثلاثين متراً، وقد أزيل كل ذلك في التوسعة الأخيرة.