شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الناحية العمرانية
كنا في حديثنا عن جرهم وقطورا أشرنا إلى أن العمران في مكة لم يزد عن مضارب من الشعر كانت تتلاصق أو تتباعد في حواشي الوادي وبين ليات جباله، وما أطل العهد الذي ندرسه -عهد حكومة قريش حتى كانت المضارب من الشعر قد حلت محلها البيوت مرصوصة بالحجر أو مبنية بالطين والحجر فيما يحاذي المسجد أو بالطين النيء وحده على حوافي الأباطح في أعلى مكة أو على شواطئ المسيل في أسفلها.
بناء البيوت وتبويبها: وكان سعيد بن عمرو السهمي أول من بنى بيتاً بمكة وقد قيل فيه:
وأول من بوا بمكة بيته
وسوَّر فيها مسكناً بأثافي (1)
وكانوا يبنونها بحيث لا تستوي على سقوف مربعة كما نفعل اليوم. وأول من بنى بيتاً مربعاً حميد بن زهير، واستهولت قريش عاقبة التربع في هندسة البيت، فقالت: ((ربع حميد بيتاً -أما حياة وإما موتاً)) (2) ؛ وأول من بوّب في مكة ((حاطب بن أبي بلتعة)) (3) وكانوا يجعلون بين يديها العرصات ينزل الحجاج فيها والمعتمرون، ولما شرعوا يصنعون لبعض الدور أبواباً كانوا يقصرون ذلك على بعض غرفها ويتركون مداخلها شارعة على عرصاتها دون أبواب، وقد قيل أن بنت سهيل عندما استأذنت عمر بن الخطاب في أن تجعل على دارها بابين، أبى وقال لها: إنما تريدون أن تغلقوا دوركم دون الحجاج والمعتمرين قالت: والله ما أريد إلاّ أن أحفظ على الحجاج متاعهم فأغلقها عليهم من اللصوص فأذن لها فبوبتها.
منازل القبائل في مكة: ويستطيع الباحث أن يستنتج أن العمران في مكة في عهدنا الذي ندرسه نشط نشاطاً طيباً، بعد أن تركنا المضارب تتباعد على حوافي وادي إبراهيم من أعلى مكة إلى أسفلها، ثم تعرج في ناحية منها إلى مداخل الشامية اليوم نحو قعيقعان نجدها الآن وقد اتصلت وتكاثفت واتخذت كل قبيلة منزلها من الوادي وشعابه ولم يزحف عمرانهم إلى مرتفعات الجبال وأكتافها كما نفعل اليوم. بل ظل مستوياً باستواء سطح الوادي.
فقد ذكروا أن قصياً خط للكعبة ساحة توازي صحن المسجد (المطاف) اليوم وأباح للناس أن يبنوا دون ذلك حول مدارها من الجهات الأربع وكانوا لا يبيحون لأنفسهم قبل قصي السكنى أو المبيت بجوار الكعبة ثم أمرهم أن يجعلوا بين بيوتهم مسالك يفضون منها إلى ساحة الكعبة، وأهم هذه الطرق طريق شيبة وهو في مكان باب بني شيبة اليوم (4) ولم يبوب ساحة الكعبة أو يسورها، كما أمر بأن لا يرفعوا بيوتهم عن الكعبة لتظل مشرفة عليها وكانوا يتخذون مجالسهم العامة في أفيائها، كما بنى دار الندوة لاجتماعاتهم الخاصة.
وفي استطاعتنا أن نرسم خطوطاً تقريبية لخريطة مكة نبين فيها باختصار مواقع البطون في مكة يومها وسير العمران بين شعابها اعتماداً على ما ذكره الأزرقي في تخطيطه مواقع القبائل في كتابه أخبار مكة (5) .
ولتوضيح ذلك في الأذهان نستطيع أن نجعل من باب بني شيبة نقطة ابتداء لتخطيطاتهم، فقد كان موضع ارتكاز الحركة العمرانية في أم القرى، كما كان أهم مداخل المسجد الحرام، وكانت البيوت تتكاثف حوله متجهة في الشرق إلى ((حصوة)) باب علي، وفي الشمال قليلاً إلى ((حصوة)) باب السلام تنزلها بطون من غساسنة الشام وبعض السفيانيين وتتخللها متاجر للعطارين، فإِذا مضى بنا الخط مستقيماً إلى جهة باب النبي واجهنا بيت العباس ودار جبير بن معطم ودور لبني عامر بن لؤي واستقام أمامنا زقاق أصحاب الشيرق، وهو إلى جانب زقاق الحجر حيث تقوم دار لابن علقمة ودور أخرى لآل عدي من ثقيف، فإِذا نفذنا من ذلك إلى شارعنا العام في القشاشية (6) متوجهين إلى أعلى مكة استقام أمامنا سوق كانوا يسمونه سوق الفاكهة ثم سوق الرطب، ثم رباع كانت لبعض بني عامر، وعند سوق الليل تصافحنا الدار التي كانوا يسمونها دار مال الله وكانوا ينفقون فيها على المرضى ويطعمونهم. وبالقرب من الدار يلتوي شعب ابن يوسف وهو ما نسميه اليوم شعب علي وفيه دور عبد المطلب بن هاشم ودور أخرى لأبي طالب وأخرى للعباس بن عبد المطلب وإذا عدنا إلى استقامتنا في شارعنا العام يصافحنا دار العاص في فوهة شعب بني عامر ثم يلتوي شعب بني عامر في دروب متعددة تقوم عليها دور لبني بكر وأخرى لبني عبد المطلب بن عبد مناف ونستقيم مرة أخرى في شارعنا العام فيواجهنا ردم آل عبد الله، وكانوا يعارضون به مجرى السيل ويسمونه الردم الأدنى وعنده يقف الحمّارون ونمضي قليلاً إلى المعلاة لنجد الجزارين عن يميننا في شعب أبي دب، ثم مكان المقابر وهي بعد حدود شعب عامر ثم بعض بساتين ننتهي منها إلى شعبة الجن، ثم ثنية الحجون ثم بساتين أخرى نصل بعدها إلى شعب الصفى وهو ما نسميه اليوم المعابدة (7) وفيه دور لبني كنانة وآل عتبة بن أبي معيط ودور لربيعة من بني عبد شمس.
وإذا بدأنا خطاً آخر من باب بني شيبة متوجهين إلى الشمال الشرقي في المسعى صادفتنا دور لبني عدي قائمة بين باب بني شيبة ورواق باب السلام، وفي المسعى يتوجه درب إلى يميننا كانوا يسمونه الحزامية كان فيه مكان للبانين وفيه سقيفة ودار الحكم بن حزام ودور يتخللها عرصات لبني سهم ويمضي بنا الدرب إلى بيت خديجة حتى يخرج إلى مكان المدعى اليوم.
وإلى يسارنا ونحن في المسعى طريق الساعين إلى المروة وفي المروة دور لآل عتبة بن فرقد ودار كبيرة لآل ياسر في واجهتها الحجّامون والحلاّقون وإذا مضينا في المسعى مصعدين في طريق المدعى انتهينا إلى رحبة واسعة كانت تحط فيها عير الحنطة والسمن والعسل والحبوب لتباع فيها وهي ما نسميها اليوم المحناطة وفيها دور لبني عبد شمس ودار أبي سفيان وهي في مكان ((القبان)) اليوم، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليها عندما قال يوم الفتح: ((من دخل دار أبي سفيان كان آمناً)) ثم دور لأولاد العباس تصل إلى قريب من المدعى، ثم دور لأولاد الحارث، ثم طريق إلى يسارنا يمضي إلى جبل الديلم وهو يشرف على القرارة (8) اليوم ثم نمضي في استقامتنا إلى طريق المعلاة لنمر على دور لبني غزوان وأخرى لأولاد الحارث بن عبد المطلب.
ونبدأ خطاً ثالثاً من باب بني شيبة متوجهين غرباً إلى دار الندوة لنجد البيوت تتكاثف قبل الرواق إلى جانبها دار لشيبة بن عثمان ودار لخزانة الكعبة ودار لصاحب البريد ودار لبيت المال ودار للخطاب بن نفيل ثم نصعد شمالاً إلى جهة الرواق الذي فيه باب الزيادة إلى باب الدريبة فتصادفنا دور لبني خزاعة بينها زقاق الحذَّائين نسلك منه إلى سويقة ثم نتعطف منه إلى المروة ومن جهة أخرى دور لآل زرارة من تميم ثم يمضي بنا الشعب إلى قعيقعان في مداخل ما نسميه الشامية اليوم فإِذا توجهت إلى يمينك توجه بك درب إلى ناحية الديلم بالقرب من القرارة اليوم ثمّ تصعد إذا شئت على تلال في مكان الفلق كانوا يصعدونها لينزلوا منها إلى مكان سوق المعلاة اليوم ولم يفلق هذا الطريق إلاّ الزبير بن العوام في عصره وسنعرف فيما بعد أنه فلقه ليتصل الطريق بين بساتينه بجوار المعلاة اليوم وبيوته التي اشتراها بجوار سويقة.
وإذا أردنا أن ننتقل من شق مكة الأعلى إلى شقها الأسفل تعين علينا أن نجعل نقطة ابتداء تخطيطنا ما بعد صحن المسجد أمام باب أجياد متوجهين إلى الشرق ثم إلى الجنوب الشرقي.
كانت منازل بني عائذ تبتدئ من صحن المسجد فيما يوازي ركن الكعبة اليماني ممتدة غرباً إلى ما يحاذي بئر زمزم ثم تصعد في الشرق نحو باب علي وكانت دور بعض كبارهم شارعة على مكان المسعى على يسار القادم من الصفا يريد المروة أي في ما يحاذي باب علي اليوم تقريباً.
وكانت منازل عدي بن كعب تبتدئ من صحن المسجد متوجهة إلى الصفا من ناحية وإلى أجياد من ناحية أخرى قبل أن ينقلوا إلى أسفل مكة.
وفي الطريق الذي يبدأ من باب الصفا متوجهاً جنوباً إلى باب أجياد كانت سقيفة لبني عائذ وسوق للبزازين ((القمّاشين)) وبالقرب من ذلك كان البيت الذي اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم لتجارته قبل البعثة مع شريكه السايب بن السايب.
فإِذا انتهيت إلى باب أجياد ووقفت حيث تكون القبلة في ظهرك ومداخل أجياد في وجهك امتد أمامك شعبان أحدهما عن يمينك إلى ما نسميه اليوم بئر بليلة وكانوا يسمونه أجياد الكبير وامتد الشعب الثاني على يسارك إلى ما نسميه اليوم السد وكانوا يسمونه أجياد الصغير ولست أعني بالامتداد ما يتبادر إلى ذهنك من نفاذ الجادة واستقامتها بامتداد الشعوب.
فقد كان العمران يتخلل الجادة ويعرقل استقامتها.. كان بنو تميم ينزلون حوالي باب أجياد وتمتد بيوتهم من جهة الغرب إلى قبيل حدود المسجد يومها وهي حدود صحن الكعبة اليوم وكان بنو مخزوم ينزلون في فوهة أجياد الكبير مكان الرواق الجديد اليوم.. وكان جماعة من الأزد ينزلون خلف ذلك مما يتصل بمكان الصحة العامة وخلفها كان منزل أبي جهل بن هشام لا يبعد عن ذلك كثيراً، وفي أجياد الصغير إلى الجادة المتصلة بالسد كانت منازل لآل عدي بن عبد شمس وفي أجياد مكان للحوّاتين دار لعبد الله بن جُدعان التي كان فيها حلف الفضول والتي تعاقدت فيها القبائل متفقة بأن لا يقر في مكة ظالم وفيها دور لآل سلمة بن هشام وفيها بئر يجمع بين أجيادين احتفرها آل سلمة مع جماعة من جيرانهم، وكان يردها السكان في فوهة الشعب بأجيادين وأكاد أعتقد أنها البئر الموجودة اليوم قبيل عمارة المستشفى لأنها تجمع بين طرفي أجيادين.
وإذا تركت أجيادين ماضياً في الشارع العام إلى الجنوب نحو المسفلة بدأت بسوق الحزورة بجوار باب الوداع ورأيت الدروب تمضي على يمينك إلى قرب المسجد عند حدود المطاف ومن أشهرها درب الحناطين وأعتقد أنه كان سوقاً للحنطة، فالحانط هو في اللغة كثير الحنطة وموقع هذا الدرب صالح لبيع منتجات الجنوب من الحنْطة في مكة وفي هذه الجهة كانت تنزل بطون من آل صيفي وفيها دور لآل عبد الدار وأخرى لجماعة من بني مخزوم وإذا مضيت متجهاً في السوق الصغير كنت بجوار دور لبني أسد بن عبد العزى.
وأحسبني لا أطمع في أن أعرف القبائل النازلة في الشبيكة (9) أو حارة الباب أو جرول لأنها كانت قليلة السكان إلاّ في جهات قليلة من جرول الخضراء وهي الجزء الأدنى المتصل بأطراف المسفلة من ناحيته الخلفية وإذا كانت الشبيكة قد سكنت في عهدنا الذي ندرسه بجماعة لم أتبين أسماءهم في بطون المطولات من كتب التاريخ فلا أعتقد أنها حظيت بشيء من التكاثف الذي حظيت به المنازل الأخرى.
وقد نعثر على بعض المنازل في سفح ذي أعاصير ولعلّنا نستنتج من قرائن الأحوال أن ذا أعاصير هو جبل عمر ولكننا لا نستطيع أن نعتقد أن هذا الجزء حفل بالمنازل إلاّ في أعوام متأخرة عن هذا العهد لأن النزلة سميت باسم عمر ابن الخطاب ولو كانت لبطن أو قبيلة لأطلق عليها في الغالب اسم نازلها قبل عمر بن الخطاب.
كما أننا لم نعثر إلى جانب ذلك على شيء يسير من العمران في الثنية التي نهبط من خلفها إلى جرول الخلفية وكانوا يسمونها الحزنة وهي ضد السهلة ونسميها اليوم الحفائر (10) ولم تكن الحفائر قد فلقت يومها لتخترم الطريق من الشبيكة إلى جرول الخلفية لأن الذي حفرها وسهلها للمشاة هو خالد البرمكي في عهد بني العباس ليجعلها تختصر الطريق إلى بستان له بناه فيما بعد في جرول الخلفية أو جرول الخضراء كما يسمونها.
وإذا تركنا كل هذا ومضينا في طريقنا في ظل أعاصير أي جبل عمر نحو الهجلة صادفتنا الحتمة وهي صخرات لا بد أنها كانت سوداوات لأن الحتمة في اللغة هي السواد وعند هذه الصخرات كانت دار الأزلام ومنها يبدأ منبطح السيل أسفل مكة.
ولعلّنا إلى هذا الحد استطعنا أن نرسم خطوطاً تقريبية لمكة الجاهلية ولا يفوتنا في أذيال هذا البحث أن نشير إلى الضواحي التي كان يحلو للمكيين أن ينتجعوها في الأصائل من شهور القيظ وهي عادة نرى أثرها إلى اليوم في المتنزهين من أبناء مكة في أطراف الضواحي وكأنما هم يمثلون بذلك عادة عرفها أجدادهم من نحو (1500 سنة) تقريباً.
ومن أشهر المتنزهات في مكة الجاهلية (11) الليط.. والليط في رأي بعض المؤرخين (12) هو أسفل مكة فيما يقرب من بركة ماجل متنزهنا اليوم، ويقول الأستاذ رشدي الصالح ملحس في حاشيته على تاريخ الأزرقي أنه يرجح أن يكون خلف القشلاق العسكري أي فيما يلي جرول الخلفية ولست بالذي يستبعد صحة القولين، فإن الوادي بعد بركة ماجل يتصل بالجادة التي تنتهي خلف القشلاق فلم لا يكون الليط عبارة عن امتداد من جرول الخلفية إلى أطراف المسفلة؟
وكانت في الليط أقحوانة (13) يجلس أهل مكة حولها في العشي يلبسون الثياب المحمرة والموردة والمطيبة وفي هذا يقول الحارث بن خالد:
من ذا يسائل عنا أين منزلنا
فالأقحوانة منا منزل قمن
إذ نلبس العيش صفوا ما يكدره
طعن الوشاة ولا ينبوبنا الزمن (14)
ومن متنزهاتهم شعب خم (15) وهو يتصل بالمسفلة اليوم وكان مزروعاً فيه عدة بساتين تتصل بالليط ثم تتصل بجرول.
وكانوا يخرجون إلى حائط الحمام بجوار المعلاة فقد كان لهم هناك نخيل وزروع وكانت بساتين تمتد إلى الخرمانية بقرب ما نسميه المعابدة ثم تمضي إلى المحصب في الطريق المؤدي إلى منى.
وكان لهم في المحصب دكة يجتمع المتنزهون فيها أصيل (16) كل يوم وكانت تشرف على نخيل باسق وبساتين تحتضنها شعاب الوادي الممتدة إلى منى.
وكانت لهم بساتين في وادي فخ ونسميه الشهداء اليوم وأخرى بوادي طوى في امتداده من الحجون إلى ريع الكحل وبساتين غير هذه في ضواحي مكة العليا (17) إلى مزدلفة فعرفة (18) وكانت المنازل في المناطق التي ذكرناها لا تتكاثف على قاعدة المدن الحاضرة بل تتفرق وتفصل بينها مساحات خالية على عادة العرب في بناء قراهم ومدنهم، أما الناحية المتصلة بالمسجد فكانت تضيق بنزلائها لتنافسهم في مجاورة الكعبة.
وقد بنى القرشيون في أواخر عهدهم ما يشبه السور في أعلى المدعى وبوَّبوه ولم يثبت أنهم بنوا مثله في ناحية أخرى منها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :645  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

البهاء زهير

[شاعر حجازي: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج