شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-13-
صديقي:
عشت.
كان حديث ندوتنا اليوم فكرة طالما بحثناها معاً. ولم ننتهِ فيها إلى نهاية مقنعة.
أفي الحياة وجود لما نطلق عليه اسم الحظ؟؟
وهل لتأثيره من القوة ما يمكن أن نفسر به بعض الأحداث في الحياة؟؟
وهل فيه غِنية عن العمل بشتى وسائل السعي.. أم هو خرافة لا أصل لها إلاَّ في الأساطير؟
هذه أسئلة كانت أمس مدار بحث مستفيض في ندوة الجن، وإليك أهم ما دار فيها:
بدأ الأستاذ حديثه عن الكون، وما اكتشف إلى اليوم من قواعده ونظمه. ثم قال: إنه بالنسبة إلى القليل الذي اكتشف من قواعده لا زال أمامنا آماد وآماد أوسع من أن ننتهي فيها إلى نهاية، وأبعد من أن يحل ألغازها عقل.
قد تراني أكبر شخصية بارزة إكباراً يجل عن الوصف، فتعمد إلى امتحاني في تفسير الأسباب المعقولة لهذا الإكبار، فلا أجد ما يكلفني إقناعك لأني سأجد في بعض خلاله المبرزة من سماحة أو كرم أو إباء ما يعترف بإكباره قواعد الكون ونظمه، فلا تلبث أن تطمئن إلى عقيدتي في هذا الإكبار؛ ولا تجد وجهاً للاعتراض عليها. وقد أمقت شخصية أخرى، وأحتقرها، وتناقشني في أسباب هذا المقت، فأكشف لك عن خلال فيه تقر قواعد الكون مقتها وحقارتها، فلا تلبث أن تسلم معي فيما ذهبت؛ وتقر معي ما أقرت قواعد الكون.
ولكنك ستقابلني في ناحية أخرى من مناحي الحياة حيث تجدني أدين لأشخاص بهيبة لا يستحقونها مني، وأعنو (بهامتي) إجلالاً لهم.. وقد يجمعني بهم نقاش فأشعر بصغاري بالنسبة إليهم في أعماق نفسي، وأجدني أحاول الكلمات فلا تسعفني، وأتصيَّد المعاني فتفلت مني.. إنهم أشخاص مهيبو الطلعة لا أكثر، وإن في طالعهم من السؤدد ما تعنو له جباه غيرهم في صور لا تملك تفسيرها، ولا تجد في قواعد الكون ما ينظمها انتظاماً صحيحاً.
وإلى جانب هؤلاء أشخاص آخرون أستثقل ظلهم، ولا يغصني شيء ما تغصني مصافحة وجوههم، ولا يُكدرني هم ما يكدرني لقاؤهم. وتناقشني في هذا فأغدو أعلِّل لك من خلالهم ما أحاول أن أفسر به شعوري، ولكنك تأبى أن تقتنع بما أعلِّل لأن في خلال الألوف ممّن استثقل ظلهم ما يُعادل سيئات ثقلائي أضعافاً، وأنا مع هذا لا أغص بهم غصتي بثقلائي، ولا يُكربني منهم يكربني من أولئك.. إنها صور لا تملك تفسيرها؛ ولا تجد في قواعد الكون ما ينظمها انتظاماً صحيحاً.
ننتهي من هذا إلى أن الكون أوسع من أن تنتظمه قواعد، وأن وراء الأمد الذي استطاع العلم أن يعالجه آماداً وآماداً أبعد من أن يتطرق إليها العقل، وأعصى من أن يحل أحاجيها تفسير.
فإذا صادفنا في مثل الحالات السالفة علماء نفسيون يأبون إلاَّ أن يعلِّلوا شعورك بالصغار أمام من تهابه، واستثقالك ظل من استثقلت بأشخاص مشابهين، مضى عليك من حوادثهم ما طوته الذاكرة، وبقيت آثاره مطبوعة في قرارة عقلك الباطن فلا تستنكف من مضاربتهم العلمية، ولا تستبعدهم من حسابك لأننا سنرى أنهم إذا نجحوا مرات فلا بد أنهم مخفقون في أكثر منها. فليست علومهم إلاَّ محاولات في آماد أوسع من أن تنتظمها قواعد أو تحدها علوم.. وما العقل الباطن، وما انطباعه بآثار حوادث منسية إلاَّ فروض لقواعد قد يجوز تنظيمها في حيِّز محدود، وقد لا يجوز بالنسبة إلى اتساع الكون على النظم والقواعد.
ويصادفك إلى جانب هؤلاء فلاسفة قد يكون للنادر منهم ملكاته في تفسير شواذ الكون، فلا تضيق بما يفسرون، ولا تصدق جميع ما يقولون. فليس ثمة إلاَّ مضاربات لها ضجيجها يحاولون تطبيقها على أسرار الكون، وأسراره آماد أوسع من أن تنتظمها قواعد.
((قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك)).
((وقال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك)).
فهل كان ممّا يقبله قواعد الكون أن ينتقل عرش بلقيس من أطراف اليمن إلى مقر سليمان، في ظرف لا يتعدى قيام القائم أم كان من نظام الحياة أن ينتقل إليه في ارتداد البصر؟
الواقع أنها قدرة الله لا تحدها نهاية، وأنها أحداث لا تتسع لها ملكة العقل، وأنها آماد وراء نظم الكون لا تفسرها قواعد.
وإذا كان العلم قد اكتشف في عصور متعاقبة ظواهر محدودة من أسرار الكون، فدل على مبلغ الآماد التي كانت مغلقة على القدامى، فإن في هذه الظاهرة ما يدل في الوقت نفسه على احتمال وجود آماد أوسع لا تزال رهينة الأسرار المغلقة في الكون.
وإن نظرة مبسطة إلى عنصر واحد ممّا اكتشفته العصور الحديثة، وعلاقته الإيجابية بآخر مثله في عناصر الكون، وما يحدثان من أثر من جراء تلامسهما لقمين بأن يفتح أمامك آفاقاً أوسع من أن تنتهي فيها إلى غاية، أو تصل عندها إلى تنظيم محدود.
قلت مرة لرجل من علماء الحسِّيّات: لا أعتقد أن تعصبك للأدلة الحسِّية يمضي بك إلى نهاية الشوط فيما تذهب، فأنت تشاهد أنواعاً من التفاعلات بين عناصر الكون لا تملك أن لا تصدق بها وتؤمن.. فإذا رأيتني أدَّعي لك من باب المقابلة أن في ريق إنسان معين عنصراً فعالاً تظهر آثاره إذا لامس داءً خاصاً، ويؤدي تفاعلهما إلى نتيجة خاصة. فما بالك تتأبى عليَّ القبول، وتلوي باحثاً عن تفاصيل أخرى رجاء أن تلمس شيئاً حسياً فيها.. إنك بهذا تتعسف وتأبى إلاَّ أن تسلم ببعض القاعدة وتضرب عن بعضها الآخر.
إننا نخلص من جميع ما أسلفنا إلى نتيجة نستطيع أن نقول في نهايتها أن في الكون أسراراً لا تزال تستعصي على الحل، وأن فيه حقائق لا تزال في مكانها في المغيّبات، ولا يزال العلم عاجزاً عن مناقشتها، واستنتاج ما تلمسه اليد من أدلتها.
فإذا صادفتك شخصية مهيبة، أو روح تستثقل ظلها، فدع علماء النفس والروح يحاولون فك ألغازها، فإذا أعوزك الاقتناع فلا تكلّف نفسك أكثر من أن تحيلها إلى آماد الكون وأسراره المستغلقة.
وقس على هذا تأثير عنصر خاص عند ملامسة عنصر آخر، قد يجمع بينهما تجاوب خاص لم يفسره العلم، ولم تصل إليه بعد ملكات العلماء.. فيجب ألاَّ تتعصب لما لا تفهم كما يجب ألاَّ تمض سلس القياد للمخرِّفين.
ولا تنسَ أن تدرج فيما أدرجت بعض الظواهر التي تلوح في حياة المحظوظين على أن تحتاط ما أمكنتك الحيطة.. فقد درج الناس على التوسع في إطلاق الحظ على كل ناجح، وقد يكون في هذا الإطلاق غمط للعاملين، وخلط بين المجدودين والمجدين..
وما انتهى الأستاذ الجني إلى حدّه هذا في البحث حتى كان قد أذن الوقت بالانصراف، فأرجأ بقية الحديث إلى ندوة الغد.
وسأرجىء لك بدوري البقية إلى رسالتي في الغد. وأرجو أن أكون قد أيقظت في نفسك عوامل البحث، كما أرجو أن تكون قد طمأنت والدتي على أمري.. واسلم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :319  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 96 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الرابع - النثر - مقالات منوعة في الفكر والمجتمع: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج