شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-2-
صديقي:
عشت..
أتذكر أننا في معرض المبالغة في التعبير عن غَضوب تهيَّجت أعصابه نقول: (إنه كان مهتاجاً كالعفريت، أو أننا حاولنا أن نمسك به فكان كالعفريت!!).
إنها أساليب في التعبير تعطي عن العفريت صورة من أهول الصور العاتية، الصاخبة. فهل أنت مصدّق إذا قلتُ إن الأمر في العفاريت هنا -أو في هذا الحي منهم- على العكس ما نتصوّره؟.
وإن في كثير منهم من الدماثة، ولين الجانب، وسعة الصدر، ما ليس في كثير من بني آدم على وجه الأرض!!
وإن في بعض العفاريت برود السكسوني، ورشاقة الفرنسي، واستقامة السويسري، وأدب الياباني، ممّا يدعو إلى دهشة كل أنسيّ لم تتسع تجاربه لهذا الثقل من المخلوقات.
يكتنف مسكني في قاع الوادي جماعة من العفاريت، أتمتع بينهم بهدوء قلَّما أتمتع به في حي من أحياء الإنس، وتطل شرفتي الخلفية على غرفة ضيقة يسكنها عفريت طويل القامة، نحيفها، في وجه أعجف، وأنف مسنون لا تكاد تشعر بوجوده لفرط هدوئه، ولا تكاد تسمع صوته رغم أنه محدِّث بارع حلو الفكاهة.. أمّا محيّاه الأعجف -وهو مكان الغرابة- فلا تكاد تريم عنه الابتسامة العذبة. قلت له مرة: علمت أنك عانيت فيما عانيت من حياتك صعاباً قاسية. ويعجبني أنك برغم ذلك تحتفظ لسيماك بهذا الطابع الوضيء. فالتفت إليَّ في هدوء، وابتدرني في صوته الرخيم، وكلماته اللينة المقاطع، يقول: ليس في الحياة إلاَّ الظلال التي تلقيها أنت على نفسك.
هذه سعادة، وذلك شقاء.. هذا سار، وذلك مُسيء.. هذا جميل، وذلك رديء.. ألوان لا أصل لها في نفسك، وظلال لا يوشبها إلاَّ تلوينك..
قد تقول لنفسك لو جاءت الحياة بغير هذا لكنت سعيداً، ولو صادفني التوفيق بأحسن من ذلك لكنت أسعد. وليس في الأمر سعيد أو أسعد إلاَّ كان مصدره نفسك، وأسلوب تلوينك.
يا صاحبي: إذا تعلّمت أن الحياة أرخص من أن يهولك فيها مكروه، وأنها أصغر من أن تأسف فيها على فائت، وأن أحداثها مهما تنوعت ألوانها لا تستحق منك العناية التي تُعنى نفسك بها، والتي تُطيل بها أمد اهتمامك، لخرجت وأنت أكبر من أن تنالك الأحداث، وأعظم من أن تلعب بلبِّك الأماني الغريرة.
ما ظنُّك بقوم أُرهف إحساسهم فكان كالوتر المشدود، تمسُّه النغمة بأخفت أصواتها فيمضي مضيها، ويعبث به اللَّحن النشاز فيئز أزيزه الناشز!
إلا شيئاً من ارتخاء العصب يحول دون إرهاقه، وقليلاً من الانحلال يُريحك من أوصاب لا نهاية لمداها.
يعجبني في عالمكم سكان المناطق الباردة لبرودهم، وفتور طباعهم.. ويغيظني في بني جلدتك ما يغلي في عروقهم من دماء!
قلت إنها من مآسينا.. أضاعت علينا دولة في الأرض ما كانت تستثني من خِراجها سحابة في السماء!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :506  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 85 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.