شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تِتْغَبّر دقْنُه ويتعَبْ في شِيلُه
دعونا نمشِ متساندين في إطار تُهيمن عليه روح الجماعة، فقد جرَّبنا، وجرَّبنا طويلاً فكرة الفردية فما أسأنا إلى بلادنا كما أسأنا إليها بهذه الفكرة!!
كانت أمثالنا العامة تهيئنا لفكرة الفردية وتُعِدُّنا لها إعداداً: ((أنا عود من طرف حزمة.. كيل ما هو كيلك لا تحضره، تتغبر دقنك، وتتعب في شيله)).
وليس للأمم مرآة تعكس حقائقها في صدق كما تعكس الأمثال العامة فيها هذه الحقائق.. فدعونا نتبيَّن صورنا في ضوء ما شاع من أمثالنا ونُحدد بالضبط مواطن الداء في كياننا.
(أنا عود من طرف حزمة) وأعني بهذا أنني عود في طرفها.. لا أُكلّف بشيء إلاّ بعد أن تُكلَّف الحزمة. ثم ينتقل التكليف إلى أطرافها. وفي هذا من روح الفردية ما لا يتهيأ معه تساند.
وإذا كانت هذه الأنشودة أغنية كل عود في الحزمة. فهل يبقى في الحزمة عود يُطالب بألاّ يكون في أطرافها؟ وهل يبقى فيها عود يشعر بأنه هو الحزمة؟؟
إن الجلي الواضح في شأن هذه الحزمة أن جميع أعوادها صالحة لأن تكون فيها. وبذلك تفقد الحزمة بينها عوداً واحداً يشعر بمسؤوليته فيها!!
فلا غرابة إن عاشت حزمتنا ضائعة مدى الأجيال، ولا غرابة إذا فقدت بذلك كيانها كحزمة، وأصبحت علاقة جميع أعوادها بالحزمة علاقة الطرف الناشز!!
أبقيتْ بعد هذا حزمة لها كيان يستحق أن يُطلق عليه كلمة الحزمة؟ أم أن في الأمر مجازاً لا ظل له من الحقيقة وفي البيداء أعواد لا تجمعها حزمة؟
هذه هي الحقيقة إذا أردنا ألاّ نجامل أنفسنا على حساب مصالحنا، وهذا هو الواقع إذا أبينا أن نزيف أو يخادع بعضنا بعضاً.
هذه هي الفردية المقيتة في أسخف صورها لا يُجادل في شأنها إلاّ مكابر. أما نتائجها بالنسبة إلى مجموع الأمة فقد لمسناها في جميع أغراض التأخر البادية في محيط بلادنا.
ثم هذا الكيل الذي نرتِّل له أنشودتنا في جملة منسَّقة ((كيل ما هو كيلك لا تحضره.. تتغبر ذقنك، وتتعب في شيله)) أنعني به شيئاً غير أننا نعيش محدودين بمصالحنا الخاصة؟ غير آبهين إلاّ بما يعنينا في حدودنا؟
لعلّه يتبادر إلى بعض المكابرين أن يفسِّر لنا هذا المثل تفسيراً خاصاً يدعو به إلى ترك الفضول، ومجانبة التطلُّع إلى خصوصيات الغير.. ولكن ألا يرى مثل هذا المكابِر أننا توسعنا في هذه المعاني وبتنا لا نُطلق المثل إلاّ لنعاتب به من يعني نفسه بالأمور العامة الخارجة عن اختصاص مصالحه المحدودة؟
هذا إنسان (خارق الدنيا وحاططها في حلقه!!) نعم إنه (حاططها في حلقه) لأنه يعتني بأمور غيره، ويمتد فضوله إلى الأشياء العامة التي تخرج عن حدود اختصاصه، ولأنه (يحضر كيل ما هو كيله فتتغبر ذقنه ويتعب في شيله).
أنُسمي هذا فضولاً؟.. إن للفضول بمعناه الذميم صوراً لا علاقة لها بما نحن في صدده.
قد أسميك فضولياً إذا وضعت أنفك في خاصة شؤوني التي لا علاقة لها بك.. ولكن هذه الشؤون الخاصة قد تترتَّب عليها مضار تتعدّى إلى غيري ممّا يتعلق بمجموع الأمة، فهل تكون فضولياً فيها إذا وضعت أنفك؟
تصور أنني لا أُعنى بتربية أولادي تربية صحيحة، أو لا أحفل بتعليمهم تعليماً نافعاً، أو أنني غني أكتنز في خزائني الحديدية أموالاً مكدسة لا أفهم ميزة تشغيلها. وأبت حِميَّتك إلاّ أن تُعيب تصرفاتي من هذا القبيل، وأن تتدخل فيما بيني وبين فهمي لحقائق هذه الأشياء.. لتدفعني إلى ما يجب نحو أولادي وأموالي. أو بالأصح إلى ما يجب علي لفائدة المجموع.. فهل تكون في هذا فضولياً (خارق الدنيا وحاططها في حلقه)؟ أو تكون (رجل متعمِّم بالدنيا ومتحزِّم بالآخرة)، أم تكون من ذلك الصنف الذي (يحضر كيل ما هو كيله تتغبر ذقنه ويتعب في شيله) أم أنت رجل حميٌّ تغار عليّ كما تغار على بلادي إذا نالها تصرُّفي بما يسيء؟؟
ليس في هذا فضول بل هو الواجب كل الواجب.. لأن تصرفاتي فيما أسلفت في شأن أولادي وأموالي منكر. وأنت مُكلَّف باسم الدين أن تغير المنكر، ومُكلف باسم الوطنية أن تتدخل فيما بيني وبين فهمي لحقائق الأشياء.. لتدفعني إلى إعداد أولادي إعداداً نافعاً للوطن، وتُبصرني شؤون أموالي لأُطلقها في مشاريع حيوية أبني بها صرحاً لأمجاد بلادي.
أرأيت أن وضع الأنوف لا يكون فضولاً في جميع الحالات؟ وأن كثيراً مما أسميه شؤوناً تخصُّني هي في واقع الأمر حقائق شائعة من حقك أن تضع أنفك فيها لما يترتب عليها من مصالح عامة تترك أثرها في مقدرات البلاد؟
كنت أشاهد في طريقي دائماً أحد البقّالين، وقد جمع صغاره حوله في الدكان في فسحة ما بعد العصر وألزمهم بالإكباب على كراساتهم يستظهرون محتوياتها في إرهاق واضحة آثاره على جباههم، فتجرّأت في إحدى المرات وأسررتُ إليه أن هذا الإكباب يدفعهم إلى الكلل، وأنه يُحسن صنعاً إلى نشاطهم لو أباح لهم أن يلعبوا في هذه الأمسيات بعد أن قضوا يومهم في أعمال المدرسة ليجدِّدوا ما فقدوه فيها من نشاطهم. فما كان من صاحبي البقال إلاّ أن نظر إليَّ في غضب، ثم دار على عقبه ليصيح في صغاره: ((كرر يا واد.. كرر وإلاّ كسرت نافوخك)).
فكان رداً عملياً نالني فيه من الكسوف ما ظنني أستأهله لأنني ما زدت في نظره عن فضولي يضع أنفه فيما لا يعنيه، و ((يتدخل في كيل ما هو كيله))؛ فحق عليه أن ((تتغبر دقنه ويتعب في شيله)).
ولو اتَّسعت آفاق صاحبي لأدرك أن عملي لا يمتُّ إلى الفضول بشيء، وأن ما فعلته من صميم الواجب، لأن إرهاق صغاره ستترتّب عليه إساءة إلى مجموع الأمة بعد أن بدت حاجة البلاد المُلِحَّة إلى نشءٍ يتمتع بعقول نشيطة وأذهان غير مكدودة.
ولكن، من لنا بمن يُحدِّد لنا معاني الفضول في حيِّزه الضيق، ويُعيننا على مقت فكرة الفردية التي عشنا نُدين بها، والتي ورَّثتنا عللاً وأمراضاً لا نزال نئن تحت آلامها.
نحن في حاجة إلى التفكير الجماعي، وإلى الشعور الجماعي، فلا نبيح لأحدنا أن يشعر أنه عود من طرف حزمة، لأننا ونحن نتقيَّد بمثل هذه القاعدة نستطيع أن نسمِّي أنفسنا جميعاً أعواداً في أطراف هذه الحزمة وعندئذ فسوف نبحث عن الحزمة فلا نجدها.
دعونا نكن أعواداً في الحزمة على أن يمثِّل كل فرد منا كيانها كاملاً، فلا يرى فينا عود طرف ينتظر غيره في الحزمة، ولا يرى فينا عود نشاز لا يشعر بمسؤوليته فيها.
دعونا نتساند فنضع أنوفنا في كل ما له علاقة بمجموعنا كأمة واحدة ذات وطن واحد، وإذا أبى ضيِّقوا الأذهان إلاّ أن يحجزوا علينا ما سمّوه خصوصياتهم فدعونا ننكر عليهم هذا الحجز إذا بدت لنا أية علاقة بين خصوصياتهم وبين مصالح المجموع.
فنحن لا يجب أن نعترف بحقوقهم المحدودة في أولادهم، لأنهم أولاد الأمة ولا في أموالهم إلاّ بقدر، لأنها مادة الوطن، ولا في أخلاقهم ومعاملاتهم الخاصة، لأنها مظاهر تُشرِّف البلاد أو تُسيء إليها.
إن الزارع في حقله، والصانع في عمله، والتاجر في متجره، والموظف في مكتبه، والتلميذ في معهده والمؤلف -بين أوراقه- جندي في وطنه بقدر ما هو عائل لأهله.. فلا يجب أن نتركه لما يظن من خصوصياته قبل أن نُطالبه بحقوق الأمة عنده.
يجب أن يخدم بلاده فيما يعمل إلى جانب ما يخدم من خصوصياته، ويجب أن يحرص على فائدة المجموع فيها إلى جانب ما يحرص عليه في خدمة نفسه، ويجب أن يرعى كرامتها وسمعتها إلى جانب ما يرعى من كرامة بيته وسمعته.
إذا استطعنا أن نعلِّم طوائفنا هذا القدر من التفكير الجماعي المشترَك، وإذا استطعنا أن نلغي من قواميسنا هذه الفردية المقيتة؛ نستطيع أن ننسى أمثالنا الشائعة التي تمنع الرجل منا أن (يحضر كيلاً ما هو كيله).
دعونا نفهم أن كيل الفرد منا هو كيل المجموع، وأن تجارة الفرد وصناعته وعمله كائناً ما كان هو تجارة وصناعة وعمل للمجموع.
دعونا نفهم أن أعوادنا حزمة واحدة ليس فيها طرف ولا نشاز؛ وأننا كما نحن سواسية أمام الله، فيجب أن نكون سواسية أمام المسؤولية العامة؛ لا يُميَّز أدنانا على أعلانا.
وأخيراً.. دعونا.. نمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :421  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 10 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج