شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أما لهذا الليل من آخر؟
لسنا ننكر أنه ما من أمة واجهت الشمس عالية الرأس رفيعة الجانب إلاّ هبط ميزان الحرارة في جسمها على مر الأيام طالت هذه الأيام أم قصرت.
ذلك أن بناة حياتها يوم بدأت تبني كان عزمهم مصروفاً إلى البناء بصورة واكدة وربما خلف بعدهم وبعدهم من نشأ على نهجهم بتأثير ما نفث البناة الأول في أرواحهم.
ولكن هذا التأثير لا يلبث أن تهبط حرارته من جيل إلى جيل حتى يحل محل البناة الأول وتابعيهم ممن ورثوا عزمهم خَلفٌ لا يدري من شؤون البنيان وما بذل أصحاب البنيان إلاّ أن يتمتع هذا الخلف بظلاله الوارفة ويترف في بحبوحة ما ورث.
ويخلفه جيل ينشأ على لين العيش ويستكين لطراوته فيفسد اللين تربيته..
ولا تنفك الأجيال على هذا النحو تتوالى.. كلما جد جيل هبط في سلم البناء درجة عما قبله حتى ينتهي آخرهم إلى الحضيض فيستنيم لظلامه الدامس وليله الغافي.
ولكن أليس لمثل هذا الليل من آخر؟
بلى.. وأنا أقول: بلى وأنا أعتقد أنه ليس بين وجوه أمتي -أمة الإسلام إلاّ من يقول بقولي: بلى.. ليس بين أصحاب الحضيض وبين أن ينقشع ليلهم الغافي إلاّ أن تتأذى أحاسيس بعض أصحاب الإحساس المرهف فيغضبون لكرامتهم غضبة صادقة يدوي صداها بين صفوف النائمين فتقض مضاجعهم وتبدد أحلامهم وتفتح عيونهم على واقع الحضيض هذا الذي هم فيه، واستناموا إليه.
تعالوا يا قوم نستنطق التاريخ فيما زعمنا من حياة الأمم تعالوا نستنطق تاريخنا كمسلمين لنعرف الأدوار التي مرت بنا في أكثر من جولة صافحنا فيها وجه الشمس ثم تردينا لنعانق التراب ثم تأذت أحاسيس المرهفين منا فغضبوا لكرامتهم الغضب الصادق الذي دوى صداه بين النائمين فأقضَّ مضاجعهم وفتح عيونهم فاستفاقوا واستأنفوا مسيرتهم حتى صافحوا وجه الشمس ثم عادوا فتراجعوا حتى هزتهم الصيحة فاستأنفوا صحوتهم من جديد على غرار ما سن الله للكون ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ألم يأتنا نبأ بلادنا يوم كانت تغمرها جهالة الوثنيين وترَّهاتهم وانحلالهم وشتات كلمتهم.
لقد غضب لكل هذا رجل واحد.. لا نشك أنه كان موهوباً مؤيداً وإلى جانب هذا كان مرهف الحس، كان يأخذ طريقه من شعب الهواشم في مكة حيث يسكن عليه السلام إلى سوق الرطب فيما نسميه اليوم القشاشية فيأخذ نظره الباعة المطففون والتجار المرابون.
وكان ينحدر في طريقه إلى الكعبة بين دور لآل عدي من ثقيف لبني عامر من لؤي فيأخذ الطريق عليه غبار المتنازعين من الفريقين وهم يتواثبون مشرعة رماحهم مخضبة سيوفهم تسيل بينهم دماؤهم في قلق لا يعدو خلافاً على امرأة ونزاعاً على صاع من اقط.
ويمضي به الطريق في ألم ممض ليصافح الكعبة فيصافحه في ظلها العراة والعاريات لا يفصل بينهما فاصل ولا يستر سوءتهم ساتر وتطالعه في ركنها الجموع الحاشدة تتمسح بأقدام هُبل وتبتهل إلى سادنه ليستقسم لهم بأزلامه فيأمرهم بما تأمر الأزلام وينهاهم عما تنهاهم عنه.
كل هذه مهازل آلمت إحساس النبي صلوات الله وسلامه عليه فآلى أن يقشعها وأن يضرب بيد من حديد عجرها وبجرها بتوفيق الله.
كان يعلم أن أمة تتقاسمها وثنيتها وانحلال أخلاقها وموت ضمائرها وتتنازعها شتات كلمتها فتمتشق الحسام في امرأة داعر أو خلاف في صاع من إقط لا يرجى لها بقاء ولا يناط ببقائها أمل.
وكان يعلم إلى هذا أنه مختار وأن قوة لا يملك عصيانها قد ندبته ليغضب وليصيح صيحته المدوية: الله أكبر..
هو ذا على درج الصفا:
يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف يا بني لؤي يا بني تميم يا بني مخزوم، يا بني كنانة، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين..
فتتقاذفه السخرية وتتحامل عليه وجوه القبائل.. ولكنه الرجل.. الرجل.. إنه لا يبالي في سبيل الله سخراً.. ولا يقف دون غايته تحامل ولا يعوقه عائق ولا يثنيه إغراء.. والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.
نبرة حاسمة يجمع العم الشيخ في نهايتها عباءته لينصرف وهو يشد على يديه: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسألك شيئاً تكرهه.
ويذهب، يذهب ليمضي في دأبه إلى نهاية الشوط.. يذهب لا ليقضي على ترهات مكة وأباطيلها فقط، بل لينشئها خلقاً جديداً، ويمشي على رأس صناديدها ليفتح العالم، ليقضي على طغيان الأباطرة وعتو القياصرة.. يذهب ليرسم للأرض خارطة جديدة تدين لهذه البطحاء بوثبتها وتتوجه في أشد الأزمات إلى قبلتها وتعتز في أحلك الأوقات بكلمتها: الله أكبر.
لقد استطاع أن يواجه الشمس.. استطاع أن يرفع رأس أمته عالياً وأن يترك كلمتها تدوي بين الأفق والأفق -الله أكبر-.
وأنا لست في حاجة لأن أقول خلّف بعده من نشأ على نهجه بتأثير ما نفث فيهم وبث في أرواحهم وليس بيننا من يخفاه طرف ولو ضئيل مما بذلوا لبناء الإسلام وتوطيد أركانه.
ولكن هل لي أن أسأل: متى هبط هذا المستوى؟ مبلغ علمي أنه هبط أكثر من مرة في أكثر من ظرف ولكن العناية تأبى إلاّ أن تهيئ لكل حالة لبوسها ممثلاً في مؤمن غيور مرهف الحس لا يلبث أن يغضب لإسلامه فيثيرها جذعة يقض بها مضاجع قومه ويفتح عيونهم على واقعهم حتى يستفيقوا ويستأنفوا مسيرتهم فيصافحوا وجه الشمس في مسيرة رجل واحد يهتف باسم الله.. الله أكبر..
تحضرني بهذه المناسبة ونحن لا نزال مرضخين إلى حين تحت وطأة النكبة في فلسطين قصة الغضبة التي أثارت صلاح الدين فصاح صيحته التي دوى صداها بين مضاجع النائمين فأيقظتهم بل قل فتحت عيونهم على واقعهم.
وأي موقع هو:
كانوا قد استكانوا لطراوة الحياة فهبط حظهم في سلم البناء حتى كاد أن يستوي والحضيض فاهتبلها البيزنطيون فرصة واستطاعوا أن يشعلوها صليبية وأن يتواطأوا مع أشد أمم الإفرنج عداوة للإسلام فانسالت جيوشهم الجرارة حتى احتلت مدن الشام وفلسطين ولبنان وأحالتها إلى مستعمرات تعبث فيها بما شاء لها الطغيان.
كانت دولة العباسيين -كما تعلمون- قد شاخت يومها كما هزلت دولة الفاطميين وقامت على أنقاض الدولتين دويلات منقسمة على نفسها تتربص الدوائر ببعضها.. أثار الحيف الطاغي غضبة صلاح الدين فصاح صيحته المدوية: الله أكبر.
ومشى فيما يملك من عتاد يقود فيالق أرهقتها النوائب ليلقى جيوشاً أسكرتها خمور النصر وضاعفت نشوتها.. مشى في عزيمة المؤمن الصادق بعد أن بايع قواده على الموت وآلى أن ينتصر أو تتقاسم جثمانه الوحوش.
وكان لعزيمته أثرها الفعّال في كل ميدان يخوضه أو لقاء يقتحمه حتى دانت أمامه الصعاب وفتحت في وجهه المدن مدينة بعد أخرى وأدرك المسلمون في طول البلاد التي شرع يفتحها أنهم وجدوا ضالتهم في شخص منقذهم العظيم فالتفوا حوله مستسلمين فتكاثرت جموعه وتوسعت إمكانياته لكثرة ما غنم.
واستطاع أن يمضي في زحفه المستميت حتى استعاد هيبة الإسلام ورفع رايته فوق أعلى سارية في بيت المقدس.
هي ذي غضبة المؤمن الصادق الذي تتأذى أحاسيسه لواقع أمته فلا يلبث أن يهيب بهم في ضجة مدوية ليستفيقوا ليستأنفوا يقظتهم ليفتحوا عيونهم على واقع الحضيض الذي هووا فيه واستناموا إليه.
يا قوم إننا اليوم في أشد الحاجة إلى الأحاسيس المرهفة التي تغضب للإسلام وفي الإسلام فتدوي صيحتها عالية لتوقظ الأحاسيس الغافية لتفتح عيوننا على الطراوة التي استنمنا إليها.
أصبنا في فلسطين، أصبنا في الفلبين، أصبنا في الأفغان أصبنا في الصومال، أصبنا في الحبشة، أصبنا في قبرص، أصبنا في أندونيسيا، أصبنا في كثير من بلاد أفريقيا، أصبنا في الصين، أصبنا في ممالك وممالك من شرقي أوروبا تكالبت علينا الدول الكبيرة فناصبتنا العداء أو ظاهرت علينا.
ما بال إخوان لنا وبينهم المثقفون والواعون وحاملوا الدرجات العالية تنطلي عليهم أباطيل الشيوعية فينسون مواهبهم وحظوظهم من الاستقلال الفكري ويستسلمون لدعوات لا تثبت أمام الاستقراء والتطبيق العملي.
فما بالهم لا يطبقون الأقوال العريضة على واقع الحياة خلف الستار الحديدي حيث يصادر الرأي وتحارب الكلمة ويقيد الحر فلا يتنفس إلاّ في إطار من الرسميات المفروضة بقوة النار والحديد.
هل أغرتهم بوعودها وفات على ذكائهم ما جرَّت مثل هذه الوعود على غيرهم قبلهم وكيف استدرجتهم حتى أسلمتهم لقيودها وفرضت أغلالها على سائر بلادهم.
يا قوم، ما حك جلدك مثل ظفرك.. فإذا لم نتول أمورنا في حذر وإذا لم نحقق الصديق قبل الطريق، وإذا لم نعمل لجمع شتاتنا في مسيرة واحدة فسنظل في مكاننا من الحضيض.. سنغري بنا من يقتنصنا ونعطيه الفرصة ليقتنص أطرافنا في كل يوم طرف حتى يحين الحين، من الدهر فإذا بنا وكأن لم نكن شيئاً مذكوراً على خريطة الأرض.
يا قوم إن داءنا الدوي في شتات كلمتنا واختلاف مشاربنا.. يا قوم إن بيننا من سكت عنا كمسلمين في قضايا الأفغان وانحاز لغيرنا في مشكلة قبرص وساعد علينا في مآسي اليمن يوم مآسيها وظاهر علينا في أكثر من بلد أفريقي ولم يتبرع بكلمة لما أصاب المسلمين في إندونيسيا والصومال والحبشة وغيرها من بلاد الإسلام.
أهازلون نحن أم جادون وليس بيننا من يجهل وميض البرق الخلَّب..
ليس بيننا من يجهل أن حاجتنا اليوم ماسة إلى أن نغير أسلوبنا في الحياة، ليست الحياة أقوالاً فقط ننمقها ولا أشعاراً نترنم بها ولا منابر تهتز لأصواتنا ولا مجالس ننظم عقودها لتنفض عن قرارات تملأ بها دفاترنا وحفائظنا. لا.. وليست صحفاً نبرز عناوينها بالقلم العريض الأحمر ولا مراسلين يموهون علينا حقائق الأحداث ولا وكالات تصوغ الأنباء كما يملى عليها ولا إذاعات تجيد تصنيف القول وتوضيبه.
ليست الحياة في شيء من هذا إلاّ إذا أعقبته النية المخلصة والوئام الصادق والعمل الفعّال وردد صداه السيف البتار.
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدِّم ومن لا يظلم الناس يظلم
 
طباعة

تعليق

 القراءات :504  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.