شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عبد اللَّه بن الزبير
صاحب فكرة في تاريخ مكة..
كلكم يعرف أن يزيد بن معاوية ما كادت تتم له البيعة في الشام على أثر وفاة معاوية حتى كتب إلى واليه بالمدينة ليأخذ له البيعة من المعارضين فيها فأرسل الوالي يستدعي الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير فطاولاه حتى خرجا إلى مكة في جملة من أنصارهما كل في قافلة.
أما الحسين فقد توافدت إليه رسل الشيعة من العراق يطلبون إليه أن يبادر بالذهاب إلى العراق فشد رحله إليه في جملة من آله وأتباعه فما كاد ينتهي إلى كربلاء حتى أحاط به جيش بني أمية وقضوا عليه وعلى آله وأتباعه بصورة مفزعة نجدها مفصلة في مظان التاريخ مما لسنا اليوم بصدده.
وهنا يأتي دور ابن الزبير في مكة.. ولتحقيق هذا الدور علينا أن نعود إلى سنوات مضت.
لقد عاش عبد الله بن الزبير يحس إحساساً عميقاً بأهليته للخلافة من أول يوم أمَّره عثمان بن عفان على داره أيام الثورة ضده وعاش يؤلمه انتقال الخلافة إلى غير مثولها من بلاد الشام ويرى أن مكة كقبلة للمسلمين يجب أن تضطلع بشؤون الخلافة وأن تكون مركزها الدائم.
سكت ابن الزبير يوم ولى المسلمون علياً خلافة المسلمين ثم ما لبث أن انضم إلى حزب خالته عائشة أم المؤمنين، ثم سكت عندما تناقلت الأخبار أن جيوش الشام بايعت معاوية.. ورأى بعينه الأمصار تنضم إلى هذه البيعة بما فيها من أجلّة قريش وكبارها وعندما رأى معاوية يترضاه ويبالغ في التودد إليه ((مرحباً يا ابن عمة رسول الله وابن حواريه.. يا غلام احمل إليه مائة ألف.. وارفع إليّ بجميع حوائجه)).
سكت كل هذه المدة الطويلة ورأى أن يدخل فيما دخل فيه المسلمون ولكنه ما لبث بعد لأيٍ طويل أن وافته أنباء عزم من بالشام مبايعة يزيد بولاية العهد فهاله الأمر وبدأ يستقبل بعض المعارضين في داره بجوار باب الدريبة اليوم.. واتصلت أخبار اجتماعاته بعمرو بن سعيد بن العاص والي مكة للأمويين ولكنه لا يملك إلاّ أن يتغافل عنها لعلمه بمنزلة ابن الزبير بين عامة الأهلين في مكة كما اتصلت بالخليفة معاوية رضي الله عنه في الشام فشرع يعالجها بحلمه ويقابله بمعروفه وبره.
ومات معاوية وبويع ليزيد في عام 60 هجرية فأرسل يزيد كما أسلفنا إلى واليه بالمدينة ليأخذ البيعة من الحسين وابن عمرو وابن الزبير فكان ما كان ورأينا الحسين يمضي إلى العراق ليلقى حتفه وابن الزبير يظل في مكة ليوالي اجتماعاته.. والآن وقد جاءت الأنباء بوفاة الحسين بن علي وكانت منزلته تطغى على منزلة ابن الزبير مما يمنع ابن الزبير أن ينهض على قدميه ويرفع صوته بالدعوة.
نحن الآن نصعد في منعرجات وعرة في جبل الفلق.. كانت مسالكه وعرة قبل أن يفلقه ابن الزبير ويمهد دربه وبذلك سمي جبل الفلق.. أترى هذه الأنوار الخافتة تلقي أضواءها على الشجر الملتف في ذيل الجبل إنه بستان ابن الزبير مما يلي الحلقة القديمة اليوم.. هلمّ وانظر.. أترى؟.. ما شأن هذا الذي يتسلل أمامنا منحدراً بين شعاب الجبل النائية عن الدرب أحسب أنه أحد عيون الأشدق والي مكة الأموي الجديد الذي اختاره يزيد ليترصد ابن الزبير.. تعال.. تعال.. نخالفه فلا شأن لنا بما يحدث.
الواقع أن الأشدق والي مكة ما كان ليغفل عن حركات ابن الزبير المريبة ولكن ما عساه يفعل إزاء رجل له شأنه في مجامع قريش ربما قال الكلمة في طريقه إلى النقا فامتشق لها ألفا حسام من حلة المعلاة إلى بركة الماجل في أطراف المسفلة، حفل الأشدق بالأمر فبث العيون حول أنصار ابن الزبير ورتب الجواسيس ليحصوا حركة أتباعه، وسن ما يشبه نظام مراقبة الأجانب ليتعرفوا هوية القادمين ويحققوا علاقتهم بابن الزبير دون أن يبيح لنفسه التعرض لأعمال ابن الزبير خشية أن يغضبوه أو يثيروا حماس أتباعه.. ولكن ما أهلَّ عام 61هـ حتى بدا ليزيد بن معاوية أن يؤدب ابن الزبير فجهز جيشاً من ألفي مقاتل أمَّر عليه عمر بن الزبير فسار الجيش حتى عسكر بعضه في الأبطح وبعضه في ذي طوى فقابلهم ابن الزبير بمجموعة وأبادهم ثم أسر أخاه عمر وهي أول حملة تأديبية ضد ابن الزبير.. واتصلت أخبار انتصارات ابن الزبير بالمدينة وكان قد أثيرت فيها الاضطرابات ضد يزيد فكتب أعيانها إلى ابن الزبير يقولون (لما إذ قتل السحن فليس من ينازعك) وعلم يزيد بالأمر فجهز جيشاً اقتحم المدينة وأباحها لجنده ثلاثة أيام.. فأضيفت بذلك مأساة جديدة إلى قتل الحسين في كربلاء.
ما كاد جيش يزيد في المدينة ينتهي من أعماله الحربية فيها حتى صدرت الأوامر إلى قائده مسلم بن عقبة أن يتوجه إلى مكة للقضاء على ابن الزبير.. ولما كان في بعض الطريق توفي القائد فأوصى بالقيادة للحصين بن نمير فمضى بالجيش حتى انتهى إلى مكة في أواخر سنة 64هـ في ظاهرها.
وخرج إليه ابن الزبير في جموعه من مكة وبعض القبائل من أطرافها ومن التحق به من أشراف المدينة فكانت المناوشات والتقى المبارزون.. وظلوا على ذلك حتى بدأ الجند بالشام نصب المنجنيق فنصبوه ورموا التحصينات بالنفط والحجارة فاحتك ذلك بالكعبة واحترقت كسوتها وتصدعت حيطانها ويذكر بعض رواة الأخبار أن أصحاب ابن الزبير كانوا يوقدون النار وهم في الكعبة فعلقت النار في بعض أستارها فسرت النار إلى سقفها فاحترقت وهي رواية كانت أقرب إلى الاعتدال، فالأمويون لا يرمون الكعبة وهم يستقبلونها في صلاتهم، وظل القتال على حاله حتى وافت الأخبار بوفاة يزيد، ففتر الحماس في صفوف جند الشام ورأى الحصين بن نمير أنه يقاتل منذ اليوم إلى غير غاية فطلب إلى ابن الزبير أن يجتمع به في ظاهر مكة وكان من رأيه ((أن يزيد قد هلك وأنت يا ابن الزبير أحق بهذا الأمر فهلمّ وارحل معي إلى الشام فوالله لا يختلف عليك اثنان)).
ولكن ابن الزبير حسبها خدعة فرد عليه رداً أساءه فنفر منه ابن نمير -وفي رواية أن ابن الزبير ندم على ما كان من غلطته- فبعث إليه: ((أما الشام فلا آتيه لكن خذ لي البيعة من هناك إن شئت)) ويعلق صاحب تاريخ الإسلام السياسي على هذا فيقول إن ابن الزبير كان متأثراً بالفكرة القومية وهي إعادة النفوذ والسيطرة إلى بلاد الحجاز كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ولهذا أبى أن يغادر الحجاز.
وإني لا أستبعد تأثر ابن الزبير بالفكرة القومية فقد كان من أشد معاصريه تحمساً لها ولكني أفهم أن ذلك لا يمنعه من الرحيل إلى الشام لأخذ البيعة ثم العودة إليها بعد أن تستقر له الأمور وتستقر شؤونها. إذن فلا بد من عامل كان له أثره في امتناع ابن الزبير ولا أستبعد أن يكون ذلك هو خوفه من الخدعة التي أشارت إليها الرواية السالفة وليست الخدعة غريبة على مثل ابن نمير فقد يكون أرادها ليحمل خصمه إلى الشام غنيمة باردة لمن يتولى الأمر فيها وليس غريباً على مثل ابن الزبير وهو يضطلع بمهام خطيرة أن يكون حريصاً.
ومهما كان الأمر فقد اختلف الفريقان في هذا الاجتماع السلمي ورأى الحصين بن نمير أنه لا حاجة له في قتال لا يعرف غايته ففك الحصار ورجع إلى الشام أو قل بدا له أنه سيعاني طويلاً في مناجزة صناديد ابن الزبير.
وبهذا استتب الأمر لابن الزبير في مكة وما والاها وبايعه الناس فيها وفي المدينة ثم بايعه أهل البصرة والكوفة وأرسل إلى مصر واليمن فبايعه أهلها كما أرسل إلى خراسان فبايعوه واتفقت فرقة كبيرة من الخوارج على بيعته كما بايعه أهل حمص وفلسطين والعراق وسائر بلاد الشام إلاّ دمشق.. ومن يتتبع تراجم الرجال وسير أعمالهم في مظانها لا يستغرب اتفاق الأمصار على بيعة عبد الله بن الزبير، كان رحمه الله ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه بنت الصديق وخالته عائشة وكانت نشأته نشأة القانتين المتمسكين بطاعته كان إذا سجد وقفت العصافير على ظهره تصعد وتنزل لا تراه إلاّ مثله مثل الحائط.
لا يستغرب أن يصمد ابن الزبير لدعوته ويثبت وقد عرف بالجلد وقوة العزيمة والصبر. حدث عمر بن عبد العزيز قال: قلت يوماً لأبي سليكه صف لي ابن الزبير فقال: ما رأيت جاداً قط ركب على لحم ولا لحماً على عصب ولا عصباً على عظم مثله ولا رأيت نفساً ركبت بين جنبين مثل نفسه ولقد مرت أجرة من رمي المنجنيق بين لحيته وصدره فوالله ما خشع ولا قطع لها قراءته ولا ركع دون ما ركوع.
وكان إلى هذا ذا ألفة وكانت له نفس شريفة كما كان فصيحاً قوي البيان جهوري الصوت إذا خطب تجاوبه أصداء أبي قبيس.
هذه المزايا ساعدت على نجاح دعوة ابن الزبير والتفاف المسلمين في الأمصار حولها إلاّ أنه كان لا يحفل بمجاملة كبار القوم ولا يرضيه أن يغدق من أموال الله على أصحاب الأطماع الكبيرة.. كان يرى أنه يجاهد في سبيل غاية نبيلة فيجب أن يظاهره على العمل في سبيلها نبلاء لا تغريهم المادة ولا تجتذبهم إلى العمل وهي كما نرى أفكار مثالية ولكنها لا تماشي واقع الحياة. لهذا سنرى أن هذا النجاح بالرغم من جميع مقوماته لم يلبث طويلاً حتى مني بالفشل.
توفي يزيد بن معاوية في الشام كما أسلفنا فبويع معاوية بن يزيد فما كاد يتقبل البيعة حتى أعلن ((أيها الناس قد رأيت أمركم وأنا ضعيف عنه وقد تركت لكم أمركم فولوا عليكم من يصلح لكم)). ووقف الضحاك بن قيس الفهري وهو من أصحاب رسول الله على أثر هذا في إحدى المناسبات فخطب خطاباً جامعاً دعا إلى مبايعة ابن الزبير.
ورأى مروان بن الحكم أن الأمر أخذ ينتظم لابن الزبير في الشام وفي أكثر الأمصار فعزم على الرحيل إلى مكة لمبايعة ابن الزبير ولكن نفراً من بني أمية اعترضوه في الطريق وأثنوه عن عزمه ((أنت يا مروان كبير قريش وخالد بن يزيد بن معاوية غلام وعبد الله بن الزبير كهل وإنما يقرع الحديد فلا تناوئه بهذا الغلام، وارم بنحرك في نحره ونحن نبايعك.. أبسط يدك فبسط يده فبايعوه بالجابية في 3 ذو القعدة عام 64هـ.
ثم سار معه بنو أمية فالتقوا بأنصار ابن الزبير من أهل الشام على رأسهم الضحاك بن قيس فنشب القتال بينهم عنيفاً فقتل الضحاك وتفرق أصحابه واستقر الأمر لبني أمية في الشام بينما استقر في بقية الأمصار لابن الزبير وبويع فيها خليفة على المسلمين.
وربما تعين علينا البحث هنا أن نتتبع أسباب الخلاف في بلاد الشام بين أنصار ابن الزبير وأنصار بني أمية إن الأمر في هذا سيبدو أعمق مما تراءى بين الأمويين والزبيريين، فالمعروف أن بلاد الشام كانت تنزلها سلالات هاجرت أصولها القديمة من اليمن قبل الإسلام بعهود طويلة فطال استيطانها ثم ما لبثت أن طرأت عليها مع الفتح الإسلامي قبائل حجازية شاركتها الاستيطان وقد عرفوا باسم العدنانيين أو -النزاريين ثم غلب عليهم اسم القيسيين وقد تكاثر اليمنيون والقيسيون فعموا بلاد الشام بما فيها الأردن وفلسطين، ولا شك أن اليمنيين كان يتيهون على القيسيين بأصولهم فقد كانوا في أحد أدوار التاريخ سادة الجزيرة العربية وكان الخزاعيون حكّام مكة قبل قريش من اليمن كما كان الأوس والخزرج في المدينة يمنيين مثلهم كما لا نجهل أن القيسيين وهم سلالة الفاتحين في صدر الإسلام يتيهون على اليمنيين بأنهم هداة البلاد فكان لهذه المفاخرة أثرها في التحيز للعصبية التي نهى عنها الإسلام.
لقد شعر معاوية أن في الشام احتكاكاً بين القيسية واليمنية فدارى ذلك في سياسة عديمة النظير، وجاء يزيد بعده فلم تعجزه المداراة كثيراً ولكن ما إن قضي عليه حتى عادت القبيلة إلى الاحتكاك واستطاع مروان بن الحكم أن يستفيد من احتكاكهم، استطاع أن يستعين بسيوف اليمنيين وهم كثرة هائلة على القيسيين الذين أرادوها رمحاً لمكة في شخص ابن الزبير قبل أن تكون ربحاً للزبير نفسه.
نجح مروان بن الحكم في إخضاع أنصار ابن الزبير في الشام واستطاع أن يستصفي الخلافة له في جميع بلاد الشام ثم ما لبث أن جرد جيشاً قوياً قاده بنفسه إلى مصر لطرد عامل ابن الزبير وجيشاً آخر إلى جهة العقبة بقيادة ابنه عبد العزيز وقد نجح الجيشان.. واستولى مروان على مصر كما استولى على موقع استراتيجي في مدخل البحر الأحمر كما جهز جيشاً إلى العراق وآخر إلى الحجاز ولكنه مات قبل أن تصل إليه نتيجة أحدها.
لما تولى الأمر بعده ابنه عبد الملك استطاع أن يقضي على بعض الفتن التي أثارها بعض الزبيريين في بعض بلاد الشام واستطاع أن يستولي على العراق ويطرد عامل ابن الزبير ولم يبق أمامه ما يمكن أن يسمى خطراً هاماً إلاّ مشكلة مكة في شخص ابن الزبير.. ولقد كانت سياسة بني أمية حكيمة عندما تركت ابن الزبير يذوب تدريجياً في بعض أحنه، فإن شيعة العراق اختلفت مع ابن الزبير في بعض مبادئه.. وأعلنت عصيانها فندب سويداً أخاه ليقضي على الفتن يناجز هؤلاء وأولئك بجيش اتسعت عليه الميادين وطالت آمادها فأضنته وأرهقه إمساك ابن الزبير فأطفأ جذوته واستطاع الأمويون أن يطوّقوه وأن يتركوا بِدَرَ الأموال تمشي في طلائعهم إلى قوات مصعب وعذب الأماني ينثال إلى صفوف رؤسائهم حتى حققوا من النصر ما هيأهم للزحف على الحجاز انثالت جيوشهم تقطع القفار في طريقهم إلى الحجاج بن يوسف الثقفي وقد رأى الحجاج أن يبدأ بالطائف مسقط رأسه.. فاحتلها وشرع يرسل سراياه إلى عرفة فتقابله سرايا ابن الزبير ثم لا تلبث أن تهزم فزحف الحجاج إلى منى وعسكر فيها. وأهل عام 72هـ فاستطاع الحجاج أن يتقدم بجيشه إلى الحجون فلاذ الزبيريون بالمسجد يتحصنون بالكعبة فأمر الحجاج بنصب المنجنيق وشرع يرمي بها بعض المتحصنين فنالت بعض الأحجار بعض جدار الكعبة للمرة الثانية في عهد ابن الزبير. اشتد الحصار وطال أمد الكرب ولكن هذا لم يفت في عضد ابن الزبير فالشجاع لا يصيح لنداء العقل في أكثر أحواله وسورة الأعصاب التي أسلمت المسلمين مع كل أسف في كثير من أزمنة التاريخ إلى الأخطاء والكبائر تنسي في أكثر الأحيان قدسية المشاعر وحرمة دماء المسلمين.
لقد كان ابن الزبير شجاعاً وكانت شجاعته من نوع ممتاز حسبنا أن نعلم أن الأمويين كانوا يحملون على باب من أبواب المسجد فيشد عليهم ابن الزبير وليس معه أحد حتى يخرجهم منه إلى الحجون كما يذكر الرواة ولقد اجتمع عليه بعض كبار مناصريه وكلموه في شأن الصلح فأبى فضاقوا به وأخذوا يتسللون إلى الأبطح طالبين الأمان.
وضربت أمه بشجاعتها مثلاً لم يسبق إلى مثله:
- أماه لقد خذلني أنصاري وتفرق عني أقرب الناس إليّ.
- ولداه: إن كنت تعلم أنك على حق فاصبر عليه فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية.
- أماه: هذا والله رأيي.. ولكنني أحببت أن أعلم رأيك.. فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا ولا أخشى شيئاً إلاّ أن يمثلوا بي.
- ولداه اخرج إلى غايتك حتى أنظر ما يصير إليه أمرك وما عليك أن يمثلوا بك فالشاة لا تبالي بالسلخ بعد موتها.
هذه تضحية لا توصف بالثبات لا.. ولا توصف بالشجاعة إنها في رأيي أرقى من هذا وأكبر. إنها شيء فذ كأني بأي تاريخ يتحدى معجمات اللغة لتعطيه تفسيراً يؤدي هذه المعاني أداءً صحيحاً فلا تستطيع.
مضى ابن الزبير على أثر هذا فصلى الفجر في ثبات المطمئن ثم حث الفئة القليلة الباقية حوله على الصبر وبادر القتال وأصحابه بحملات قوية كشف فيها مقاتلة الأمويين عن باب المسجد حتى أعادهم إلى الحجون فأصابته أجرة في وجهه ففلقت رأسه فلما وجد سخونة الدم تمثل:
ولسنا على الأعقاب تدمي كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ثم أغمي عليه وسقط على الأرض فأسرعوا إليه فقتلوه وبقتله سقطت حكومته في مكة ودخل الأمويون المسجد فطافوا بالكعبة وتعلقوا بأذيالها حامدين شاكرين لله ساجدين وكان ذلك في 17 جمادى الأولى عام 73 للهجرة.
وأمر الحجاج بابن الزبير فصعد على ثنية كدا عند الحجون بأعلى مكة وأرسل الحجاج إلى أسماء أم ابن الزبير أن تأتيه فأعاد إليها الرسول لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك من قرونك فأبت وقالت: والله لا آتيه حتى يبعث إليّ من يسحبني من قروني.. فانطلق الحجاج حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتني صنعت بعبد الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك. وفي رواية أن ابن الزبير ظل مصلوباً حتى أمر الحجاج بدفنه فدفن في الحجون بعد أن غسلته أمه وكفنته وطيبته وأقام الحجاج في مكة بعد أن أخذ البيعة من أهلها لعبد الملك بن مروان ولم يحجم عن التنكيل ببني هاشم وكان يبالغ في ذلك لولا أن عبد الملك بن مروان منعه من ذلك -وعندما غادر مكة إلى الشام اصطحب معه نفراً كبيراً من الصحابة والتابعين إلى الشام فبايعوا عبد الملك مكرهين.
أما عبد الله بن العباس فقد اعتزل الأمر قبل أن يستفحل وغادر مكة إلى الطائف وظل فيها بعيداً عن مجرى السياسة حتى توفي بها.
وبذلك انهارت الفكرة التي تعتقد أن ابن الزبير أبلى في سبيلها ما أبلى ليعيد لمكة نفوذها الديني ومركزها في خلافة الإسلام. ورب سائل بعد هذا يسأل عن ثنية كدا التي صلب عليها ابن الزبير عند الحجون.
لقد تعارفنا وتعارف الناس من أجيال سحيقة قبلنا على تسمية هذه الثنية الماثلة أمامنا الحجون والواقع أنها سميت بذلك بعد الإسلام فقيل عنها ثنية الحجون الإسلامي وكانت في عهد قريش قبل الإسلام تسمى ثنية المدنيين إذن فأين الحجون الجاهلي وأين ثنية كدا عنه.. هنا تختلف روايات المؤرخين ولعلّ أقرب شيء في رأيي إلى الصحة أن تكون الثنية أو الجبل الصغير المتصل بشعب عامر أمام الحجون الحالي على يمين الصاعد إلى أعلى مكة هي ثنية الحجون وإلى جوارها ثنية كدا -بالفتح- وهناك فيما يبدو لي قبور الجاهلية في سفح الجبل الصغير بجوار بيت الرشيدي وربما كانت الساحة أمام بيت الرشيدي تتصل بالقبور أو هي جزء منها وقد بلغني أن بعض الحفريات لتأسيس بعض البيوت في تلك الجهة كشفت عن آثار قبور قديمة.
ولا أستبعد أن قبور المسلمين عندما نقلت إلى المعلاة أطلق على الثنية المطلة على القبور ثنية الحجون استعارة من اسم الحجون الذي كان يطل على قبور الجاهليين.
وربما قيل عن الجبل المجاور لقبور المعلاة إنه جبل كدا -بالفتح- ومبلغ معرفتي أن كدا في شعب عامر بجوار الحجون القديم وجبل كدا -بالفتح- غير كدا أو كدى بالضم وهما يقعان في نهاية مكة من جهة المسفلة وهما غير كداء (بالهمزة وضم الكاف) وهو جبل يقع عند مقبرة الشيخ محمود في أوائل جرول.
هذا ما استطعت استنتاجه مما قرأت ولعلّ غيري يرجح غيره فأستفيد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
طباعة

تعليق

 القراءات :557  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.