شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(6)
كتاتيب ومعلمون
طالت إقامتي في الكتَّاب كما طال ترددي على خالتي حسينة دون أن أنجح في (فك الحرف). فقد كانت قراءتي كلها آلية بشهادة جميع معارف أبي وجيرانه.
وأُشيرَ على أبي أخيراً أن ينقلني إلى غير هذا الكتاب فألحقني بكتاب في باب الدريبة، ثم بآخر في جبل الهندي ثم بغيره وبغيره، حتى انتهيت إلى كتاب أوسع كان قد أسسه نابغة جيله الشيخ محمد الخياط في مكان القبان اليوم بجوار المدعى وقسَّم طلابه إلى فصول بعضها أعلى تحصيلاً من بعض، وكان الشيخ عبد الرؤوف الصبان من تلامذة فصوله العليا، فألحقت فيه بفصل المبتدئين، وشرعت أعالج التهجِّي من جديد.
ولم يكن حظي في الكتَّاب الجديد بأحسن مما سلفه من كتاتيب، إلا أن طول الاستمرار كان له أثره الضئيل؛ فقد كنت قضيت من عمري إلى أن التحقت بكتاب القبان نحو ست سنوات استطعت في نهايتها أن أختم (جزء عم) وأن أقرأ في ركاكة واضحة بعض الكلمات من الخطابات التي تصل إلى أبي ويأبى إلا أن يمتحنني بقراءة ما فيها.
وأسس الحسين بن علي في عهد إمارته أول مدرسة عربية أمام باب السلام (1) ، وكلف الشيخ محمد خياط أن يديرها، وأن ينقل طلاب كتابه من القبان إليها، فنقلنا جميعاً إليها، والتحقت بالفصول الأولية.
وفي هذه الفصول شرعنا نتعلم الخط، وبعض مبادىء الحساب ثم أضيفت إلينا دروس في الفقه والتوحيد، والإملاء والتجويد وفنون أخرى بدائية كان لا بد منها لمدرسة تحضيرية. ولقد سر أبي بخطواتي الجديدة، ولكنه كان يطمع في تبريز أوضح. ويبدو أن شعوره بآلام أميَّته كان يثير قلقه، ويؤثر في حدة أعصابه، ويحيله إلى شخص خيالي يتطرف في آماله ويمعن في أحلام يتمناها لحاضري لا تتفق مع ما هيأني له في ظروف خاصة من بلادة ذهنية سوف لا تنقشع -إذا انقشعت- إلا بفعل الزمن وبعد أمد طويل.
كان يقول لي: ((هادا ولد القمّاش لا يكبرك إلا قليل وهو يطلب العلم -يا حافظ- عند الشيخ الدهان في المسجد، وهادا ولد الساعاتي أصغر منك يخرج من يده خط زي اللولو، وهادا ولد المهرجي في باب السلام -ربنا يخلي له- يقرأ في الدكان تسمع قرآنه كما أنزل.. وأنت يا واد اللي ربنا عاميك وطامس على بصايرك)).
كنت أسمع هذا الكلام وأكثر من هذا، فيسيء من حيث لا يشعر إلى معنوياتي، ويقلل ثقتي بنفسي، ولو علم رحمه الله وعلم مثله كثير من الآباء على غراره، أنه من الخير أن يشجعني ويحمد أفعالي إلى حد موزون لأحسن بذلك إلى معنوياتي وتركني أثق في نفسي، وأمضي إلى الأمام في خطواتي، ولكنه وأمثاله رحمهم الله كانوا لا يرون الخير إلا فيما اعتقدوا.
كان رحمه الله يسألني أن أطلعه على خطي فكنت أقدم إليه سطراً مكتوباً بيد الأستاذ يسمونه (مشقاً) وهو كناية عن نموذج يعطى لنا لتحسين خطوطنا على غراره كما تعطى كراسات الخط لتلاميذ اليوم.
كنت أقدم له هذا (المشق) مدّعياً أنه خطي فلا يكاد يلقي نظرة حتى يرميه في وجهي متبرماً. ((هادا يا واد خط عفاريت مو خط ناس يتعلموا في مدرسة!! بكره تشوف إن فلحت تعال (..) على قبري)) ثم يسألني في حدته التي لم تهدأ (فين خط الشيخ هات أشوفه) وعندئذ أعمد إلى سطر من خطى الرديء -بحق- فلا يكاد يقع نظره عليه حتى تنفرج أساريره ويهيب بي (شوف الخط الحلو كيف!! شوف طالع يا واد كيف نضيف!! كأنه لولو مرصوص!!). فلا أكاد أتركه يتم جملته حتى أضحك.. ولا أكتم ضحكي، بل أفسره في وقاحة (يا ريتك تدري يا بويا.. هو هادا خطي اللي شفته حلو والله العظيم!! أما الأولاني اللي رميته في وجهي فهو خط الشيخ!!). فلا يكاد يسمع ذلك مني حتى تثور ثائرته ويصيح في وجهي: (قم يا ملعون من قدامى.. أنت جاعلني مهزأة.. أنا أضحك على عشرين من أشكالك.. شوفوا يا ناس الواد ابن ستين كداب. وحياة ربك إن ما كنت تقوم من قدامي أخليك ستين وصلة.. امش قوم من قدامي).
وهكذا أقوم وفي نفسي ألف كلمة أتمنى لو أستطيع أن أقولها ولكنه.. أبي!!.
ولعل القارىء يدرك أن سخط أبي على خط الأستاذ الذي ظنه خطي كان يفيد معنوياتي، ويعطيني فكرة صحيحة عن حقيقتي التي لا يريد أن يعترف بها أبي؛ لأن السلبية في نظر هؤلاء الآباء كانت ضرورة لازمة للحزم والتربية العالية!!
عفا الله عنهم فقد كانوا يرون الخير فيما يسلكون.
وزادت مطامع أبي في نجاحي بازدياد الأيام واشتد قلقه من أجل تعليمي، فكان يود بجدع الأنف أن لا يراني إلا مكباً على قراءة أو كتابة، وألا يسمح للعبث أو اللعب أن يشغل دقيقة واحدة من أوقاتي الثمينة، فكنت إذا اضطررت للاستجمام لجأت باسم (قضاء الحاجة) إلى بيت الراحة أقضي فيه بعض الدقائق التي تدفع عني السأم كما كنت أفعل في الكتَّاب.
وكانت شؤوني التعليمية بحثاً يستنفد أكثر أوقات أبي بالإشتراك مع أكثر معارفه وأصدقائه وجيرانه -: (شوف يا أخ حمزة الواد قرايته فيها لكلكة.. والله يا شيخ ما أدري هو أحد دعا عليه، وإلا من فين جاب هادي البلامة، إيش تشوف.. تقوم معايا نروح للشيخ الخزامي في الحرم نقل له خلي الواد يجوِّد عندك القرآن بعد المغرب!!).
وليت والدي كان يعلم أن إكبابي كان مبعث (بلامتي) وإن حاجتي إلى العبث واللعب أكثر منها إلى إضافة حصص جديدة أجوِّد فيها.
وكان في طريقه إلى صلاة العصر يحلو له أن يمر في باب الدريبة بحفار أختام تركي ويباحثه في شؤوني التعليمية: (الواد إلى الآن ما يعرف يبري القلم.. كمان خطه أشوفه مو شيء.. ما أدري الولد أبله أصدع.. أقل له: (يا واد تلاتة حاجات تخليك سيد الناس قطة القلم -ولطعة المهر (يعني الختم) واستقامة السطر!! لكن الولد كأنه أحد دعا عليه بهذه البلادة.. إيش تشوف يا صبري أفندي أنا نفسي أخلي الولد يجي عندك ساعة كل يوم بعد العصر والا ساعتين، عشان يده تندار في الخط شويه).
وبذلك تضاف إلى إكبابي حصة جديدة أتعلم فيها كيف أدير يدي في الخط وكيف (ألطع المهر وأقط القلم -البوص- وأقيم السطر!!).
ويقف إلى دكان عم سعيد الحوات ليشتري لوازمه، فلا يلبث أن يدور البحث في شأني ((تقدر يا شيخ سعيد تسوي (مشق) للولد يخط زيه.. دخيلك أنا أرسل لك هو إذا جاء من المهرجى ياخذ المشق منك)).
وأذهب كما أمر أبي إلى الشيخ سعيد الحوات لأستلم منه (المشق) سطراً مدبجاً في خط مائل من أعلى زاوية في يمين الورقة إلى آخر منحدر في اليسار من أسفلها.. مكتوب فيه: (قدوة الأماجد وعمدة الأعيان سيدي العزيز الأعز الأحشم أطال الله حياته وأدام بقاه آمين). ولا يكاد المهرجي يلمح (المشق) الذي كتبه الحوات بين أوراقي في اليوم الثاني حتى يعبس ويسألني عن الحكاية فأخبره بها، فيحتد ويصيح في وجهي: (هل هادا خط؟.. أنت لعاب يا واد، وأبوك لعاب) ثم يطردني وأعود إلى أبي. فيعود إلى المهرجي ليسترضيه ثم يأمرني أن أخفي خط المهرجي عن الحوات، وخط الحوات عن المهرجي، وأستفيد من الاثنين في وقت واحد رغم تفاوتهما في القاعدة والأسلوب كما علمت فيما بعد.
ويجتمع أبي في القهوة مع أحد أصحابه فلا يلبث أن يدور البحث في شأني ((تعرف واحد يعلمه الحساب. إيش رأيك في عمر شاكر المصري اللي يكتب عند العامود في باب السلام)).
والله جبتها.. ولكن أين الوقت الذي أذهب فيه إلى العم شاكر، إن جميع الساعات قد توزعت بين المدرسة والمهرجي والشيخ الخزامي والحوات ودراسة البيت.. إن هذا لا يعجزه فيوم الجمعة ((فاضي)) طول النهار.
وهكذا أجلس إلى جوار عم شاكر (ركبة ونص) وأتسلم منه جدول الضرب على أمل أن أحفظه، فيغلق دونه فهمي ويمر بي والدي فلا يجد في يدي إلا ورقة واحدة أطوحها يميناً وشمالاً وأنا سابح في آفاق بعيدة بين برحة المروة وخان السداري فيصعب عليه جلوسي في مثل هذا الفتور، ويلحظ العم شاكر ذلك فيهيب بي أكتب يا واد: (بركة تصب فيها ثلاث حنفيات: الأولى تملأ البركة وحدها في 15 دقيقة، والثانية تملأها في عشرة، والثالثة في خمسة، فلو فتحنا جميع هذه الحنفيات على البركة ففي كم دقيقة تملأ البركة؟
- نجمعها يا عم شاكر.
- طيب اجمعها.
- جمعتها 30 دقيقة.
- يعني؟
- يعني تتملا البركة في 30 دقيقة.
يا واد إذا كان حنفية واحدة تملاها في 5 دقائق كيف 3 حنفيات تملاها في 30 دقيقة -هذا كلام معقول؟
ويسبقني أبي الجالس على قيد ذراع منا.. يتسمع مسروراً بهذا اللغز الحسابي.. يسبقني إلى الجواب (لا.. كلام غير معقول).
وأكون في هذه الآونة قد عدت من سبحاتي في برحة المروة بين لاعبي (الكبت) وتنبهت حواسي من غفوتها.
- صحيح غير معقول 30 دقيقة.
- نطرحها يا عم شاكر.
- تطرح إيش من إيش.. هادي تلاتة أعداد يا واد كيف تطرحها؟
أجمع 10 و5 تساوي 15 وبعدين أطرحها من 15.
- يعني كم يبقى.
- يبقى صفر.
- وهل تتملا البركة بصفر؟
- لا.. غير معقول، ويهز أبي رأسه موافقاً العم شاكر بأنه غير معقول.
وأعود أنا من سبحتي في برحة المروة!! وأفهم أن الحل غير صحيح فأركز ذهني جيداً ثم أقول:
- نضربها يا عم شاكر؟
- تضرب إيش في إيش يا واد؟
- نضرب عددين يكفو.
- والعدد التالت فين يروح؟
- بلاش منه.
- أنت لعّاب يا واد.
ويوافق أبي أني لعّاب.. وأني كذلك لا أنفع للتعليم.
- طيب اضربها يا واد وريني.
- خلاص اضربها يا عم شاكر.
- اضربها حتى أشوف.
- نقول خمسة في عشرة تساوي خمسين.
- وليش ما نقول خمسة في خمستا عشر أحسن؟
- علشان ما أعرف الـ 5 في 15 تساوي كم يا عم شاكر.
- طيب إذا ضربت خمسة في عشرة وصارت خمسين.
- إيش يعني؟
- يعني نملي البركة خمسين مرة.
ويتحرك أبي في ملل ويهم بضربي ولكن العم شاكر يطلب منه الصبر والأناة، فيصيح أبي:
- لكن يا واد مين قال أن قصدنا نملليها خمسين مرة.. نحن ما نبغي نملليها إلا مرة واحدة، يعني نملليها في خمسين دقيقة.
- لا يا بويا.. غلط.
- طيب هات الصحيح.
- نقسمها يا عم شاكر.
- نقسم مين على مين؟
- نقسمهم كلهم على بعض.
- اقسمهم وريني.
- ما أعرف القسمة والله.. بس سمعت بها.
وينفد صبر العم شاكر فيختطف الورقة من يدي ويشرع في حل المسألة بطريقة النسبة والتناسب، ثم ينتهي إلى النتيجة وهي: (دقيقتان وبعض كسور الدقيقة) فيكبر شأن العم شاكر في نظر أبي ويقول. هذا كلام معقول.
وأرى أنا أنه كلام معقول ولكني لم أفهم كيف بدأ الحل، وعلى أي حال انتهى. وأنى لمثلي أن يفهم النسبة وتحصيلي في الحساب لم يفرغ من الضرب.
ويلتفت العم شاكر إلى أبي وهو يقول (لا تزعل يا عم صالح هو تعليم المدارس بطّال)!.
إذ كانت حسبة ما زادت نتيجتها عن دقيقتين وكسور يعجزوا عنها، هادا يسير تعليم؟
فيوافق أبي مقتنعاً بأن المدارس (ما فيها تعليم) والله العظيم تلاته ما فيها تعليم!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :453  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 80 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.