شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أهَذه فكرة الحج الصحيحَة؟
لو عُنِيَ المسلمون بروح دينهم عنايتهم بالطقوس لكان لهم غير هذا الشأن الذي يقاسون اليوم آلامه.
ربما غشينا المساجد في زحام، وأهاب الخطيب بنا فمصمصت شفاهنا في تبتل. ربما صام الصائمون منا في عزم واكد، ربما تكلّف المريض أو المسافر فنسي رخصة الشرع وأصر ألاّ يمسك، ربما فتح المزكي أبوابه لينهل الفقراء من صدقاته، ربما حج الحاج ولم يقنع حتى يكرر ما فعل، ربما فعلنا هذا وأكثر من هذا، ومع ذلك فالأمر لا يزيد في أكثر ما نفعل عن طقوس درجنا عليها وأعمال نشأنا حريصين على التزامها.
لكنَّ شيئاً اسمه روح الدِّين يتجلّى في خشوع المصلّي، وتقوى الصائم، وإخلاص المزكي، وإنابة الحاج لا نكاد نجد أثره في أكثر أعمالنا معاشر المسلمين.
قد يغضب الغاضب فينا لقائم يصلي بنعاله؛ لأنه يجهل جواز الصلاة بنعال، وتثور ثورة المتزمت فينا لمفطر رآه لأنه لا يعرف أن الله يحب أن تُؤتى رخصه، وينكر المنكر فينا أية غلطة لأن سماحة الدِّين لم تشذب غلظته.
قد يغضب ويثور وينكر لأن شيئاً اسمه روح الدِّين لم يلمس مواطن الإحساس في نفسه.
قد يحتدم المغتاظ فينا لأن وظيفته في الوعظ تحتم عليه الغيظ، وقد يستمرئ القسوة لأن عمله في الإرشاد يغريه بالقسوة، وقد يشتط في عقوبة جاهل لأنه يملك ما يؤدّب به الجاهل، وقد يستعدي الجماهير على خاطئ لأن الجماهير تنساق بطبعها لمن يجيد إثارة أعصابها.
قد نحتدم ونقسو.. وقد نشتط ونستعدي في غير تبصر؛ لأن شيئاً اسمه روح الدِّين لم يخالط ملكات الفهم في أذهان أكثرنا معاشر المسلمين.
لا أدري كيف مضى بي هذا السياق؟
وأنا ما جئت اليوم إلاّ لأكتب عن أعمالنا في الحج.. أعمالنا التي تقلّصت في روتين بتنا مع كل أسف نحرص عليه حرصنا على الطقوس التقليدية.. أمّا روح الفكرة، أمّا حكمتها الدقيقة، أمّا غايتها السامية فقد ضل سبيلنا إليها.
لعلّ الجامع في كل شيء هو عنايتنا بالروتين في فرائضنا ومسنوناتنا وإهمالنا شيئاً اسمه السمو الروحي.
جئت لأقول إنّا ضللنا سبيلنا إلى الحج فتقلّص الحج في حركات وأعمال بدنية تبدأ بضجة الجيران قبل سفر الحاج من داره، وتنتهي ببيت المطوِّف حيث تزاحم للتصعيد إلى عرفات والإفاضة منها، ثم نلج في طلب العودة كما يلج طالب الإفراج من حبسه.
أهذا هو الحج؟؟
أهذه حكمته الدقيقة وروحه الغالية؟
أهذه فكرته الصحيحة وغايته التي فُرض من أجلها؟
أحججنا لنظفر بلقب الحاج، وكررنا العودة إليه ليُقال إننا معيدون أو معاودون؟
ثم لماذا كان الحج مجمع الفقراء وأوساط الناس بين فلاح باع طينته، وعامل رهن قيراطه، ومأخوذ استدان نفقته، وساذج لا يعرف من معاني الحج إلاّ أشواطاً يطوفها، ومسافات يسعاها، وأبعاداً يركبها، وألواناً من الهدايا يتأبطها عائداً مع سلامة الله إلى بلاده.
أين كبراء المسلمين ولا أقول أغنياؤهم؟؟ أين أصحاب الرأي ولا أقول عبيد الجاه منهم؟؟ وما بالهم لا يذكرون الحج ولا يفكرون في استغلاله كفرصة تلم الشعث، وتعالج وجهات النظر، وتتسع للتقارب والتعارف والتفاهم؟!
قل إني لا أدري؟؟ إنها جرأة على الله. أنا أدري أن روح الإسلام العالية باتت لا تلمس مواطن الإحساس فينا، وأن تعاليمه السامية استحالت إلى طقوس تقليدية، وأن معانيه الدقيقة عز عليها أن تخالط ملكات الفهم في أذهاننا.
مررت من أيام بحجاج يزدحمون في ظل حصيرة نصبوها على حافة أحد الشوارع، فعرفت أنهم لا يملكون ما يسكنون فيه.
ومررت بآخرين تفرّقوا في مسالك بعض الأزقة ليقضوا حاجتهم فعلمت أنهم عاجزون عن ستر سوءاتهم.
ومررت بغيرهم بسطوا أيديهم للمحسنين قبل أن يخلعوا ثياب الإحرام عن أجسادهم، ففهمت أن الجوع اضطرهم.
ومررت بنفر يماكسون في شراء إبريق في إلحاح متطرف، فبدا لي أن الفاقة تعلمهم المماكسة والإلحاح.
ومررت بجماعة يجادلون المطوِّف ليقبل سكنى عشرين شخصاً في غرفة فعرفت أن الفقر ألجأهم.
ومررت، ومررت، ومررت، فانتهيت إلى نتيجة مقنعة تتلخص في أن غالبية الحجاج في بلادنا مأخوذون بروعة الحج كطقس تقليدي، وأنهم يتكلفون ما لا يستطيعون، ويقحمون أنفسهم فيما لا يرضاه الدِّين لكرامة المسلم فربما أثموا أكثر ممّا يُثابون.
سوف يتعرّض المستظلون الحصيرة في هجيرة الشمس لضربتها، فنصبح مسؤولين عما أصيبوا به.
وسوف تتعرّض الناس لأذى المتفرّقين في الأزقة لقضاء حاجتهم فنصبح ملومين لما تعرّضوا له.
سوف تتعرّض سمعتنا لما يشينها بانتشار متسوّلي الحجاج فلا يُقال إن المتسوّلين أجانب عن البلاد.
وسوف تتعرَّض لما يؤذيها بالمماكسين في شراء التوافه من أسواقنا فلا يقال إن الإلحاح بالمماكسة هيأ ما يحدث.
وسوف تتعرّض لما يلوثها بحشد الحجاج في علب السردين فلا يُقال إنه خطأ الحاج الذي لا يقبل أن يدفع لسكنه شهراً وبعض الشهر أكثر من عشرين ريالاً.
أهذا هو الحج؟؟
أنتكلّف الحج لنستظل من وهج الشمس بحصيرة؟ ونعجز عن قضاء حاجتنا في غير الأزقة، ونقضي أيامنا لا نجد ما نطعمه إلاّ ما نتسوّل ولا نستطيع شراء الإبريق إلاّ بعد أن نلح في المماكسة، وإذا سكنا فلا تتسع جيوبنا لغير علب السردين، أهذه حكمة الحج الدقيقة وروحه العالية؟؟
أهذه فكرته الصحيحة وغايته التي فرض من أجلها؟؟
أيستطيع الإسلام أن يستفيد لكيانه في هذا الصعيد المزدحم بالضعفاء والفقراء والمتسوّلين؟
أين كبراء المسلمين ولا أقول أغنياؤهم، أين أصحاب الرأي ولا أقول عبيد الجاه منهم؟ ما بالهم لا يذكرون الحج ولا يفكرون في استغلاله كفرصة تلم الشعث، وتعالج وجهات النظر وتتسع للتقارب والتفاهم والتعارف؟!
وأخيراً أين علماؤهم وقادة الفكر منهم؟ ما يمنعهم أن يغضبوا لسمعة المسلم فيتقدموا إلى أصحاب الشأن في بلادنا أن يمنعوا دخول الحاج العاجز عن صيانة كرامته، ولا يبيحوا الحج لغير المستطيع القادر تمشياً مع نص القرآن وضناً بسمعة المسلمين وتكريماً لقدسية البلد الأمين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :394  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 70 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.