شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
إلى وزارة العمل
سيدي وزير العمل والشؤون الاجتماعية..
أهم ما يلفت نظر الحاج المسافر بين مكة والمدينة ملاحقة الشحاذين له في سائر القرى التي يمر بها.
فسيارته لا تقف في أي محطة لتتزود بالبنزين، أو ليأخذ قسطه من الراحة حتى يزدحم حوله الشحاذون يسألونه الصدقة في إلحاح.
بل ربما اصطف بعضهم في قرى أخرى على جانبي الطريق أثناء سير السيارة وهي مارة بهم كالسهم ليصيحوا بطلب الإحسان في مسكنة غريبة.
على أن بعضهم ربما عرض للبيع نوعاً من المنتجات عندهم كالبيض أو البطيخ أو التمر في صورة مشرفة، لكنَّ كثيراً من هؤلاء الباعة لا يلبثون أن يمدوا أيديهم بطلب الإحسان.
أنا لا أنكر أن بعضهم ربما دعته الحاجة إلى طلب الإحسان، ولكني أعتقد أن الكثرة منهم يمكنهم أن يستغنوا عنه لأن مَن يعولونهم موزعون على أكثر المدن يتكسبون فيها من أعمال شريفة، ويوالون رعايتهم وإرسال ما يكفي لنفقاتهم.
إذن فما معنى هذا التهالك المزري على احتراف التسول.
ليس لديَّ إلاّ تعليل واحد ربما استاء له بعضنا ولكنها الحقيقة يجب أن تُقال مهما كانت مرارتها.
هذا التعليل يتلخص في أن هذه البلاد عاشت مئات السنين ترتزق أكثر ما ترتزق من الحجاج، وكانت لا تدقق كثيراً في أنواع التكسب، فالحاج في نظرها حاج ما جاء إليها إلاّ لينفق ويعطي، كما أن مصادر الكسب عن غير طريق الحاج كانت مفقودة إذا استثنيت أعمال التجارة وبعض الاحتراف في بعض المهن اليدوية الصغيرة، ذلك لأن المهيمنين على الحكم يومها كان لا يعنيهم من أمر هذه البلاد إلاّ أن تظل حياتها تعيش على برِّهم وبر المحسنين، فلم يهيئوها للعمل المثمر الذي هيّأوه لسائر الممتلكات الإسلامية الأخرى.
وكان أمر سكان البادية أشد وأنكى. فقد عاشوا فقراء لا يتكسَّبون من غير الحجاج مهما كان لون هذا التكسب.
إذن فنظرتنا إلى الحاج كمصدر للرزق والإحسان ليست جديدة علينا؛ لهذا فقد بات بعضنا بحكم العادة لا يستنكف أي محاولة للارتزاق من الحاج في أي صورة استطاعها حتى ولو كانت من طريق الإحسان.. بل ربما تعالى بعضهم عن أن يمد يده إلى محسن من المواطنين بينما لا يرى أية غضاضة في أن يمدها حتى إلى أفقر الحجاج.
تأصلت العادة وربما ظل أثرها باقياً إلى اليوم بيننا، وهي في بعض بوادينا باتت أكثر تأصلاً لكثرة الفراغ بين الفارغين منهم.
ونحن بعد أن حمدنا لوزارة العمل نشاطها في علاج التسوّل في أكثر مدننا نتمنى عليها أن توجه أكثر من هذا الالتفاف إلى إخواننا في البادية.
والغريب في الأمر أن أكثر حجاجنا في سنواتنا الأخيرة يصافحون بلادنا وهم فقراء، ولو قيست نسبة ما تحمله جيوبهم إلى أكثر مواطنينا العاديين لحق للحجاج أن يكونوا هم المتسوّلين ومع هذا فلا يزال بيننا من يؤمل إحسانهم بالرغم من أن إحسانهم حتى لو جادوا به فقد بات لا يزيد عن القرش أو أقل من القرش إن وجد.
إن في استطاعة وزارة العمل أن تمد يدها إلى البوادي بعد المدن.. في استطاعتها أن ترشدهم إلى أن مثل هذا التكسب يشين بلادنا ويحقرها وستجد أن البدوي من أشد الناس غضباً لكرامته إذا اعتقد ما يشينها أو يحقرها.
في استطاعتها أن تندب مَن يتولّى إشاعة هذا الوعي وأن تستعين بوزارة المعارف ليبث أساتذتها في مدارس البادية مثل هذا الوعي ويشنوها حرباً على التقليد المشين الذي أصلته مئات السنين.
وفي استطاعتها بعد هذا أن ترشد الفارغين في البادية إلى بعض المهن اليدوية التي تدر عليهم الكسب، فأكثر قراهم غنية بسعف النخل وفي استطاعتهم أن يتعلّموا صنع عشرات الأواني منه في صورة أطباق و "زبادي" و (تباسي) وأغطية ومواعين وأشياء كثيرة لزينة الرفوف والموائد بعد أن يلوّنوها بشتى الأصباغ ويعرضوها على الحجاج كنوع من (الأنتيكات).
إن مثل هذه المهن إذا تولّى تعليمهم فيها بعض الفنانين الذين نندبهم إلى مدارس القرى ونعيّن لهم فيها حصصاً خاصة ستجد رواجاً بين الحجاج يغنينا عن الإلحاف بالسؤال، ويصون كرامتنا.. وهي وسائل شائعة وأمثالها بين أكثر قرى العالم، فما يمنعنا أن نسابقهم إليها؟!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :428  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 26 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.