شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة سعادة الدكتورة فاطمة الوهيبي))
تحية أولى: كيف يمكن أن أقدمَ تحيةَ شكرٍ وتقديرٍ في خضمِ ما سمعتُ وما غُمرت به من كلماتٍ هي أكبرُ بكثيرٍ مما أستحقُ؟ ولا أَقولُ هذا تواضعاً، أبداً، فوالله ما قرأتُ جملةً معرفيةً في كتابٍ جديدٍ أو بحثٍ مميز يشدُ العقلَ والروحَ إلاّ وتكشفت لي مساحاتٌ شاسعةٌ من جهلي، تجعل روحي معلقةً دائماً دون الراحةِ والرضا. وحسبُ الروحَ الشغوفةَ المعلقةَ الهاربةَ مما يتكشفُ من جهلها ونزقها وجنونها المعرفي أن تسمعَ هذا علّها تهدأ قليلاً لأيدٍ تبلسمُ جروحَ الجهلِ، وتُطَمئِنُ بعضَ مخاوفِ التكشُّفاتِ الأخرى اللاحقة.
من طبائع الأمورِ أن أيةَ حماسةٍ لأي أمرٍ تبدأ عادةً قويةً ثم تخفُ وتخبُو مع مرورِ الأيامِ، ولكن مما لفت نظري أن اهتمامَ الشيخِ عبد المقصود خوجه والقائمين على الاثنينية بفكرةِ التكريمِ كان يزدادُ قوةً وتوهُّجاً وتأثيراً.
إنني وأنا أُعَبرُ الليلةَ عن اعتزازي وتقديري لهذه المبادرةِ الكريمةِ أودُ أن أؤكِد: أن سعادتي واعتزازي الليلة، لا يتعلقان فحسبِ بكونِ التكريمِ الليلة يخصني، ولكن لأنني ألمسُ وأرى المعنَى الأبعدَ والأعمقَ من وراء هذا، وهو المعنى الجماليُ الذي يؤكّد قيمَ العلمِ والمعرفةِ والإبداعِ والإنتاجِ المتميزِ في عصرٍ سادت فيه قيمُ الابتذالِ والاستهلاكِ والسطحيةِ، وطغتْ فيه معاييرُ المحسوبياتِ والعلاقاتِ الشخصيةِ في دهاليزِ الجوائزِ والتكريم. وهذا يُرسّخُ من جهةٍ أخرى فوق قيمَ الجمالِ والإبداعِ قيمَ الحصافةِ والنزاهةِ في معاييرِ الاختيارِ والتكريمِ لدى مؤسسِ الاثنينيةِ ومجلسِ أمنائها الموقر فلهم جميعاً أقدم كلَ الشكر والتقدير والامتنان لهذه المعاني الجميلةِ التي ذكرتها آنفاً ولهذهِ اللحظاتِ السعيدةِ التي أعيشُها الآن، كما أشكرُ الحضورَ الكريمَ الذي اهتم بهذهِ المناسبةِ وأَحبَّ مشاركتي إياها.
بُلِّغتُ أن من تقاليدِ هذه الاحتفالية أن يتحدث الضيفُ ضمن ما سمي محطاتٍ مما لم يُذكر في السيرة الذاتية. والحق أن كلمةَ محطات استوقفتني، لأنها ضربت على وترٍ حساس جداً. المحطةُ تعني على أقل تقديرٍ وقفةً مؤقتةً أثناءَ رحلةٍ أو رحلات. وأنا مُترَحِلةٌ بلا محطات، وهو ما يجعلني دائماً في علاقتي بالكتابِ والمعرفةِ تحديداً في حالة جريٍ وانقذافٍ إلى المجهول المطلق.
كانت المعرفةُ وما زالت بالنسبة لي إنقذافاً نحو المستقبل وقلقاً مستمراً مُرهقاً لا يرتاحُ لثابتٍ أو قار. والمحطةُ تعني الراحةَ في الثابت. وحتى لا ينصرفُ الذهنُ إلى التفكير في شيءٍ من الديكارتية هنا سأعطي مثلاً بسيطاً ساعدتني فيه كلمةُ المحطة على تذكرِ أمرٍ مفصليٍ لم أنتبه إلى مدى فعلهِ في رؤيتي ومسلكي في الحياة والتأليفِ والعلاقةِ بالكتاب.
اتسمت شخصيتي منذُ سنواتِ الدراسةِ الأولى بالجدِّية والانضباط، وكانت العلاقةُ بالمعرفةِ تتحركُ على مشاعرَ مرتبطةٍ دائماً بالخطر، خطرُ الثباتِ وخطرُ الارتهان له ولذلك صارَ الشغفُ المعرفي عشقاً لهذا الخطر ولهذه اللعبة التي تجعل العقلَ يقظاً حدَ التعبِ. وأذكرُ أنني في مرحلة البكالوريوس كنت مأزومةً بمسألةِ الوقتِ الذي هو خطرٌ آخرٌ، ولذلك قررتُ أن أختصرَ فصلاً دراسياً، وتخرجتُ في ثلاثِ سنواتٍ ونصفِ، ووجدتني في هذا الفصل الذي افترضتُه من سنواتِ الدراسةِ في حريةٍ من جداول كانت مكثفةً ومرهقة، وحيثُ إننا كنا في ذلك الوقت نسكن في سكنِ أعضاء هيئة التدريس فقد بادرتُ درءاً لخطر الوقت الفائض إلى فتحِ صفوفِ محوِ أميةٍ في عملٍ تطوعيٍ لبعضٍ ممنْ يعملنَ في المركزِ الترفيهي وبعض السيدات من زوجات وأقارب أعضاء هيئة التدريس.
كانت هذه التجربةُ مذهلةً بالنسبة لي. كنت أتأملُ المنتظماتِ في الصفوفِ من مستوياتٍ مختلفةٍ (زوجة أستاذٍ، زوجةُ بوابٍ، عاملةً أو مراسلةً، مسنّات وشاباتٍ) كنت أتأملهن، وأتفهم ماذا يعني لهن أن يتعلمنَ القراءةَ والكتابة. وكنتُ أحسبُ أن ذلك بالنسبةِ لهن يمثلُ إما نافذةً جديدةً أو أنه يخلقُ حياةً أخرى موازية. وحيث إني كنت صغيرةَ السنِ آنذاك، لم أتجاوز العشرين إلاّ ببضعة أشهر؛ فقد كنتُ أظن أن ما يمنحه التعليم يحقق هذين الأمرين. وكنت حينما أعودُ من صفوفِيَ التطوعيةِ إلى البيتِ أجد أمي مشغولةً بشؤون البيتِ والأخوةِ الذين كبروا وراحتْ تجهز لأمورِ تزويجهم، هي ابنةُ قاضي القضاة التي فقدتْ الأم ولم تبلغ الخامسة، وتزوجتْ صبيةً، وترملتْ ولم تبلغ الأربعين، هي التي حرمتها ظروفُها القاسيةُ من أن تجلسَ مثلْ بقيةِ أخوتها وأخواتها للتعليمِ في بيتِ والدها الشيخ، فراحت تمنحُ نفسَها وشبابَها وتضعُ أحلامها في أبنائها وبناتِها وتدفعهم إلى التعلمِ والنجاحِ. قررت أن أفاجئَها بطلبٍ لم تتوقعه، طلبتُ منها أن تدخل صفوفَ محوِ الأميةِ فرفضتْ، أدركتُ سببَ رفضِها الخجولِ، ولكني تحايلتُ على المسألةِ، وأقنعتُ صديقتها أم عبد العزيز عبر ابنتها بالفكرة ونجحنا، في أن نُدخل الاثنتين إلى صفوفِ محوِ الأمية. وواصلتْ والدتي بعد ذلك الدراسة وهي فوق الخمسين إلى أن حصلتْ على الشهادةِ الابتدائية، ثم أعاقَتْها ظروفٌ صحيةٌ عن المواصلةِ.
الآن ووالدتي فوق السبعين لا أشعر بالفخرِ ولا الفرحِ بشيء أنجزتُه في حياتي وأعتبره أكبرَ مكاسبي إلاّ حينما أراها في الصباحاتِ والضحى تملأُ وقْتها بقراءةِ القرآن الكريمِ، على الرغم من مرضها وضعفِ بصرِها واعتمادِها على عينٍ واحدةٍ ضعيفة!!
حينما كنتُ أصغرُ سناً، ظننت أن محو الأميةِ والتعليم يمنحُ نافذةً جديدةً أو يخلق حياة أخرى موازية أو فرصَ عيشٍ أفضلْ. أما الآن وأنا أكبرُ سناً وأنظرُ إلى أمي كلَ صباحٍ أعرفُ معنَى أن تكون القراءةُ ليست مجرَد حياةٍ موازية، وليست مجردَ فرصةٍ لعيشٍ أفضلْ، إنها الحياة مُقطّرةً في معنى المنقذ: نعم، إنها منقذٌ لهؤلاء المسنينِ الذين إجباراً يعيشون ساعاتِ وحدةٍ طويلةٍ بخروج الأبناء للعمل والبقاء في رَهَق المرضِ وَوَهنِ الاكتئابِ والوحدة. أن يكونَ التعليمُ منقذاً من الموتِ البطيءِ وطوافةً إلى عالمٍ جديدٍ لا يختلف كثيراً عن معنًى المنقذ: عن معنًى يطرحُه الفلاسفةُ هو معنى أن تعيش الحياة أو وأن تحيا في مجردِ العيشِ وأنْ تخلقَ من المعرفةِ وسيلةً تطوّعُ فيها كلا الاثنين ضدَ كلِ النذرِ: السكونِ والاضمحلالِ والفناءِ.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1068  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 113 من 223
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الأول - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج