شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
زرعت وسط الرمل: وردة!؟
تمر كل هذه السنين، وهجائي لسنوات العمر لا يكل ولا يضعف.
إنها ثمالة العمر/الصفر.. هذه التي بدأت بزخم معاناتها، وأسئلتها، وسأمها، ولكنها لم تتحرك!
إن أقسى ما يكون في معاناتك: أن يفرض عليك حب الناس، أو حب الحياة، أو... حتى العشق: هذا الاستسلام والعجز، والتشبث بأوهى الوسائل وبأكذب الابتسام وبأعظم الوهم، ثم.... بحنان ينبع من خوفك، لا من طموحك!
وها أنذا في (مبركي) اليوم: أملأ شقوق سنوات العمر بالرمل، وأسكب الماء البارد في هذه الشقوق!
وها أنذا... قد زرعت وسط الرمل: وردة تفتحت... يا للعجب!
- وقلت: إن هذا "الحب" هو حدائقي، وشموسي، وأمسياتي.
إن هذا الحب، هو: عبق الحياة عندما يفتش الإنسان عن العطر، وعن الأنفاس الدافئة، وعن الزمن المنتشى!!
لقد كان "القرف" -في أغلب الأوقات- هو: مطيتي التي تأخذني إلى التصبر، والتجمل، والتحمل!!
ولقد كان "الحزن" -دائماً- يزيدني إصراراً على الاحتفاظ بشموخي.. حينما يصبح الحب في عصرنا اليوم: عجزاً وباباً مسدوداً، وسباقاً خاسراً أمام الخبث، والبغضاء، والتلون.. ويصبح كذلك: حرماناً مرهقاً من كل عطاء، تضمر بجفافه الفرحة، والأماني، وخفقة القلب!
* * *
إنها معاناة "المجانين" الرائعين جداً الذين يفرض عليهم عصرهم -بكل صفاته الرديئة- أن يخضعوا للعلاج من الحب، وللعلاج من النقاء، وللعلاج من الطيبة... لكي يهبطوا إلى عالم "العقلاء" التعساء جداً!
وبذلك... يستطيعون رؤية: المثل والمنطق، ويحسون بالخوف وبالحذر، ويجاملون التعود والضرورات.. وكل سياج يبنيه العقل، هو من أجل أن يبدو الإنسان مؤهلاً للانتماء إلى: مجتمع متحضر، متعايش، راض "بالمقسوم" على أعداد زوجية!!
وإذا كان "كامل الشناوي" يرحمه الله، من المعجبين جداً بالمجانين الرائعين وبالموهوبين... فلست أطيق هذا ولا أقدر عليه، ولكني مثله ومثل أي إنسان يمتلئ بالغربة، وبالوحدة، وبالملل.. لا بد أن أبحث عن: مخاطبة إنسانية تحاكي لحظتي المستيقظة في عقلي، والمنتمية إلى وعيي.. حتى لو كنت هذا الإنسان: المجنون، أو يعتبرني الناس مجنوناً!!
قال الشناوي كامل يومها: (أفكاري التي تؤرقني.. تتمنى أن تغفو على وسادة.
إننا في حاجة إلى كل الناس، حتى لو كان هذا الإنسان: تافهاً أو أحمقاً!!
إن الناس هم "الأردية" التي نحتاجها يومياً... إذ إن بينهم: الملابس الداخلية التي تستر عوراتنا، وبينهم: المعطف الذي نتدفأ به من صقيع الحياة، وبينهم: ربطة العنق التي تزين الصدر وتحوط الرقبة، وبينهم: الحذاء الذي تدوس به، أو أنه لا يجيد إلا هذه المهمة)!!
ومرة أخرى.. لا أتشابه هنا مع "كامل الشناوي"... وإن كنت أحس الآن بما كان يشعر به!
إنني أبحث -فقط- عن: المعطف/الدثار، الذي يزمِّلني، ويشعرني بالدفء في برودة طقس الحياة والعمر... ويصبح من الخطر أن أخلعه حتى لا أصاب بالحمى، وبالبرد، وبالعراء!!
إنها لحظات قاسية.. حينما تشعر: أن كل إحباطاتك وقرفك: تقف في العراء، وتحتاج أنت دونها إلى معطف لا يعار، وإنما تمتلكه!!
* * *
زيادة المعرفة والفقر:
أن تعيش غريباً في سن الاستقرار.. وأن تحس بأنك فقدت في سن الترحال ما كان مفروضاً أن تشعر به الآن... ذلك هو الأعجب في معايشة الحياة ومعاناة أمورها!
إنني أشعر بعكس هذه الأمور!!
ربما كان زمن الترحال عندي هو: الشعور بوجود الهدف ورؤيته... كان هو الإحساس بالسعي لتحقيقه، وكان هو الاستقرار لتأهيل مسببات الوصول إليه بالعلم وبالعمل، وبالخدمة من أجل نيله!
وفجأة.. تاه الهدف في لج من صخب الحياة!!
لم أفقده بهذا المعنى المحدد.. لكنني فيما يلوح فقدت وسيلة البحث عنه!
تبعثرت الأوراق واختلطت.. فقررت تركها، حتى توصَّلت إلى معنى أوضح... يلح علي أن زيادة المعرفة، تعني: زيادة الألم!!
فأوقفت الاستزادة من مناهل العلم رحمة بالنفس، ثم دخلت إلى المجتمع بقليل من المعرفة، لأكتشف أنني فقير!!
وهنا يبرز خطان:
إما أن تكرس الوقت كله.. ولن يسمح لك الزمن بذلك.
وإما أن ترتضي بالتخلي عن كثير من ارتباطات الحياة.
وتكتشف أخيراً فداحة أنك لم تكن متزناً في زمن الضعف.. حين قررت أن زيادة المعرفة تتناسب طردياً مع المعاناة.. (فيضيع العمر يا حنفي)!!
وإذا بك لم تحصد إلا الفداحة تلك.
ويضيع التوهُّج الفكري، وتترمَّد نار الوجدان... لتكون لا أكثر من "ترس" في عجلة الحياة!
* * *
أما الآن.. فإنني قد أتساءل:
- كيف أجد نفسي؟!
ليس همي أن أعرف مقدار ما أعطيت، فالعطاء إذا تحدد أصبح له مقابل.. وليس همي أن أزن حجم ما أخذت، فالأخذ عندي: (لحظة ضوء تأتي... ليخرج بيني وبين الناس جرح)!!
إن واجبي هو: أن أواصل العطاء، ففي ذلك فرصة لي لأمنح الحق واستشعار بالتمازج مع الناس.
إن وجداني هو: عطاء لا يطلب المقابل، ولا يحصي الرصيد، ليشتري به قيمة ما يأخذ، فالمقايضة مرفوضة جداً!
إن "همي": هو أن تضاء الأمسيات بالهمس الصادق لا المزيف، وبالكلمة الشجاعة لا تلك التي ترتدي القناع.. وهو أن تشتعل صدور الناس بالمشاعر النقية!
أعترف أن الأمسيات أحياناً -تدخل قلبي كغيمة، ولا تخرج منه.. فتترسب في جوانحي، ولذلك لعلي أعاني من "الذكرى" والوفاء لها، وأعاني من الالتزام وعدم تقدير البعض له، وأعاني من "المحبة" في زمن يصور الكراهية و "يحمضها" لتطلع صورة على شكل سلوك، وانطباع نفس!!
وبهذا "الاستقطاع" من مشاعر المحبة، أتذكر عبارة قديمة قالها الرسام "بيكاسو" تقول:
- (إذا أردت أن تكسب إعجاب الناس، فارسم ملامحهم من أعماقهم.. إنهم يقفون في انبهار، ولا يستطيعون تفسير خطوطك)!!
من أجل ذلك.. حاولت أن أجد الناس بحقيقة أعماقهم.. بأن لا أظلم الناس بظن، ولا أن أحملهم فوق قدرتهم على العطاء... تكفيني: ابتسامة مودة صادقة، وتكفيني كلمة حق عادلة، حتى ولو كانت مؤلمة... فجواز مرورها إلى عقلي ووجداني: صدقها وعدالتها، ويكفيني قول مخلص لا فجور فيه!
* * *
تبقت لنا جوهرة واحدة:
قلت لرفيق مشوار "بلاط" الصحافة داخل بهوها:
- ألا توافقني أن هذا الزمن بدأ في تخطينا، وأخذ (يشقح!) من فوقنا، بعد أن نصب قدميه كساقي الفرجال... وأن أشياء كثيرة مما يلهث وراءها (الجدد) القادمون بعصرهم المغرق في المادية والذاتية: راحت علينا، فصاروا هم: المبدعون، والكبار، والمتميزون، والزاحفون، والمتنفذون؟!
صمت هذا "الرفيق" الضليع في اللغة العربية، و (الكان) أحد كتاب العبارة المشرقة، والبعض سماها له: الراقصة.. وكأنه في شروده كان يطارد بقايا أو شبح... حتى أذن لرقبته القصيرة أن تلتفت نحو وجهي، وفي "برمته" لها، قال:
- الكثير مما قلته قد أوافقك عليه بالبصمة، وبنظرة الاسترخاء والاضطجاع، ولكن...... تبقت لنا جوهرة واحدة ثمينة هي: (القيمة)!!
الذكر الحسن: قيمة... فنحن لم نفرط في (قيمتنا) من خلال التفريط في (قيمنا) ومبادئنا، ولا في ما بلغناه من تقدير القارئ لنا، حتى لو انحسرت نسبة القراء في فئة معينة أو محدودة.
قلت ونظراتي ترمق بقايا ومض في عينيه، لم أرد أن أحدده في "الدمعة":
- بقدر ما أعتقد أن هذا الزمن الجديد هو الذي فرط فينا، وأن (نجومه) الجدد اعتبرونا: رفشاً (!!) وحاولوا سلبنا كل المكاسب التي حصدناها في وقت كانوا فيه يلعبون (الكبت والكبوش) في الحواري!!
كنا نعض على الصخر، ونندفع إلى الأمام.. نحمل علم الوطن في ومضة عيوننا، ونبذر سحنة هذا الوطن: بذوراً في تربة نفوسنا، ونصور (أهلنا) في هذا الوطن بعدسة إبداعنا الزوم، ونظهر الصور: أعماقاً لإنسان هذا الوطن!
- وبصوته الخفيض... همس ولم يصرخ: هل تظن أننا بلغنا زمناً شحيح الوفاء، فاقد الذاكرة، لا تحدق عيون أجياله إلا في مرآة مقعرة؟!
ارتسمت ابتسامة على شفتي، ما لبثت أن تطورت إلى قهقهة... اختلط بها صوت هذا الرفيق على "بلاط" الصحافة، وهو ينساق معي في القهقهة، قائلاً:
- حسناً... لا بأس، ما زلنا نمتلك القدرة على (تطوير) الابتسامة إلى ضحكة... فما أسباب قهقهتك؟!!
- قلت: تذكرت عبارة كتبها "سعد الصويان" في مطلع التسعينات إن لم تخني الذاكرة، قال فيها:
- (ليس كل مثقفينا: طقَّاقات.. البعض منهم: رقّاصات، وأنصحهم بالتحجب)!
- قال رفيقي: على ما أذكر... فالأزمة الثقافية، وربما الأخلاقية، بدأت قبل حلول التسعينات!!
* * *
وفي لقاء لي مع روائية وقاصة عربية، قبل أعوام قليلة.. سألتها: لماذا قلصت مساحة كتاباتك، واكتفيت بمكان واحد؟!
- في الوهلة الأخرى غسلت وجهي بنظرة ساخرة، ثم قالت: لو استطعت (الامتناع) عن الكتابة اليوم لفعلت، بل: لبادرت!!
- قلت مندهشاً: يا ساتر.. ليه؟!
- قالت: ما هي قيمتك اليوم -ككاتب- إذا عرفت: أن المنافق أفضل وأذكى منك، وأن الجاسوس مفضل عليك، وأن "القواد" هو كاتم الأسرار، وأنك مدعو للانتماء إلى "حزب" ما، أو.... (شلة ما) حتى تضمن لكتبك أن تطبع، وتوزع، ويكتب عنها وعنك في أكثر المطبوعات (العربية) والمحلية، وتوجه إليك الدعوات للمشاركة في (الفعاليات) الثقافية والندوات... فإذا امتلكت كل هذه القدرات: انطلق.. "برطع"، وآسفة لهذا التعبير!!
* * *
إلى الأجيال القادمة:
أما الآن... أما بعد:
فإنني أقدم أحر اعتذاري للجيل الجديد/جيل "السوني"، وكرة القدم، والتفحيط، والشتم في ساحات الإنترنت، و (ثقافة) أرقام الهواتف الخاصة... الجيل الذي غرب عن نفسه وعقله ووجدانه: قراءة كتاب، أو تذوق موسيقى راقية، أو تأمل لوحة ذات أبعاد، أو امتلاك ناصية الحوار والحديث.
إنني أقدم اعتذاري -أيضاً- للجيل المهيمن اليوم على (الثقافة) الذي يرتد في قراءاته إلى نفسه، ويسقط كل ما قبله ومن سبقه... وأهديهم في ختام مشواري هذا: كلمات وجهها إلى الأجيال القادمة/برتولد بريخت، قال فيها:
(إلى الأجيال القادمة:
حقاً إنني أعيش في زمن أسود!
الكلمة التي لا ضرر منها تعد كلمة حمقاء
الجبهة المصقولة تدل على التبلد.
والذي ما زال يضحك: لم يسمع بعد بالنبأ المخيف.
أي زمن هذا؟
إن الحديث فيه عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة
لأنه يعني الصمت على جرائم أشد هولا!
ذلك الذي يعبر الطريق في هدوء... ألم يعد في إمكان أصدقائه الذين يقاسون المحنة أن يصلوا إليه؟
صحيح أنني ما زلت أحصل على راتبي
لكن صدقوني ليس هذا إلا بمحض الصدفة
إذ لا شيء مما أعمله يسوغ لي أن آكل حتى أشبع.
صدفة أنني ما زلت على قيد الحياة)!!
* * *
وفي تلويحة الوداع: إليكم هدية مني قرأتها للكاتب اللبناني/محمد العبدالله:
- زمن أصعب من قنينة ماء فارغة.
زمن ممتلئ بالأشياء المبتذلة وبالمبتذلين.
مبتذلون عليهم أن يتولوا معنى الأشياء
فيضيفون إلى مبتذل المعنى مبتذلاً وينتظرون التصفيق!!
* * *
لقد شارفت على النهايات في هذا العمر الصبور، فأي أفق تبقّى؟!
أتذكر الآن تلك (الوقفات) المتلاحقة أمامي (ثمالة) أشياء كثيرة ليس من أهمها: العمر، بل المبادئ والقيم، والأخلاق، والقيمة، و.... الرؤية فهماً، والبصيرة وعياً؟!
قدمت كلماتي وقدمتني.. وهي أنفاسي منذ كانت الأبجدية.. وهي: صرختي الأولى في الحياة.. أصحو على حلم لا كما يفعل الناس الذين يصحون من حلم... حلمي متواصل مع العمر حتى فوق الكلام، وأشواقي: ريشة من جناح عصفور لم يمل الغناء، وهتافي: للحياة التي تزيدنا عزة وعشقاً وتعيننا على (التشبث) بمبادئنا التي بقيت قاعدة صمودنا في وجه أعاصير الحياة!!
- انتهت بحمد الله
جدة 30 شوال 1427هـ
2 نوفمبر/تشرين الثاني 2006م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :679  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 38 من 39
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.