شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة الأستاذ أحمد البراء بن الشاعر عمر بهاء الدين الأميري ))
ثم تحدث الشيخ أحمد البراء الأميري فقال:
- بسم الله الرحمن الرحيم..
- الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، وأسأل الله - قبل أن أتكلم - أن يعينني على تحقيق طلب عريف الحفل، جزاه الله خيراً وجزى الحاضرين أحسن الجزاء؛ ولن أقدم لكلمتي بل سأدخل فيها مباشرةً حرصاً على وقتكم:
- بسم الله الرحمن الرحيم.
- الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله.
لمحات من ذكرياتي مع فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الفتاح أبي غدة.
- في حلبَ الشهباء، المدينةِ العريقة التي تحكي أحجارُها أخبارَ القرون الماضيات، وبجوار قلعتها المَهيبةِ الصامتة، الهامسةِ في أذن كلّ من يستنطقها بحكايات الغابرين، يرقُد بيتُنا، بيتُ أبي وجدي، الَّذي زرعتُ فيه خطا طفولتي، وغرستُ فيه آمالاً سَقَتْها يدُ الغُربة، فما تفتّق لها زَهرٌ، ولا بدا لها ثَمَر..
- في ذلك البيت الَّذي يناهز عمرُه اليومَ مئةَ عام كنتُ أرى ضيوفَ أبي وأصدقاءه، وأتعلّم من أحاديثه وأحاديثهم ما لا يعلِّمه كتاب أو كُتَّاب.
- كان والدي - رحمه الله - هاشّاً باشّاً في وجوه ضيفه، على اختلاف مشاربهم وأذواقهم، وفيّاً لهم، حفيّاً بهم، لكنني كنت ألمح بريقاً خاصّاً يتبسّم في عينيه، وبِشراً هانئاً في أعماقه، ينعكس في ضحكته الصافية، عندما كان يزوره بعض أحبابه دون بعض؛ كانوا قلّةً قليلة، يأنس بهم قلبُه، وتنشرح لهم نفسه، وكان من أحبّهم إليه، وآثرهم لديه أستاذُنا الكبير الجليل، ضيفُ هذه الأمسية، فضيلةُ الشيخُ عبد الفتاح أبو غدة، بارك الله في عمره وعلمه وعافيته.
- منذ ذلك الحين عرفت أستاذي الجليل وتعلّق به قلبي؛ كان يشدّني إليه ذلك الإشراق المنير في الوجه، والأناقةُ الجليّةُ في المظهر، والدُعابة الحلوة التي تخفّف من وطأة الوقار، فلا يثقل عليك - وأنت معه - ظِلُّ الجد، ولا تخرُجُ عن التأدّب والاحترام.
 
- وحين قاربتُ الرابعة عشرة بدأت أحضُرُ خُطَبَ الجمُعة التي كان الشيخ يلقيها في جامع الثانوية الشرعية بحلب، والدروسَ الحافلة التي تُعقبها؛ كان المسجد المعمور - على سعته - يَغَصُّ بروّاده، حتى كان بعضهم يسجُد على ظهر بعض؛ وكانت دروسُ الشيخ أحد مناهل النور في مدينتنا، علَّ منها الشبابُ الناشئ وَنَهَلَ، فَبَصَّرته بالجادّة، وأخذت بيده إلى صراط مستقيم، في وقت راجت فيه المذاهب المنحرفة وأَبْهمتِ السبل.
 
- وشاء الله أن يُعَيَّن شيخنا مدرّساً للدين في ثانوية إبراهيم هنانو الجاثمةِ على قِيد ذراعٍ من القلعة الوقور، فكنت أحد طلابه فيها، وبدأ عقلي يتعلّق بأستاذي وأنا في يُفوعتي، كما تعلّق به قلبي في طُفولتي.
- إنَّ الحديث عن الرجال الكبار في عُجالة، عذرٌ لأمثالي عندما يعجِزون عن توفيتهم حقَّهم، وعن الإحاطة بجوانب فضلهم؛ فالعظيم فردٌ عاشت في ضميره أمَّة، فعاش في ضميرها.. هو في العدد: روحٌ واحدٌ وجسد، ولكنَّه في عضائه ومضائه رجالٌ في رجل، وعوالِمُ في إهاب:
وتُوجز في قارورةِ العطر رَوْضَةٌ
وتُوجز في كأسِ الرَّحِيق كُرومُ
 
- أيها السادة:
 
- من عبقرية العقَّاد (رحمه الله) عندما كتب: (العبقريات) أنَّه كان يعقِد - في الحديث عن كلّ عظيم - فصلاً بعنوان: (مِفتاح شخصيته)، وكان مما قاله وهو يتحدّث عن عظمة الفاروق (رضي الله عنه): "مفتاح الشخصية هو الأداة الصغيرة التي تفتح لنا أبوابها، وتنفُذُ بنا وراء أسوارها وجُدرانها؛ وهو كمفتاح البيت في كثير من المَشَابَه والأغراض، فيكون البيت كالحِصن المغلَق ما لم تكن معك هذه الأداة، فإذا عالجته بها، فلا حِصن، ولا أغلاق!".
 
- إذا أردتُ أن أصنع صنيع العقاد وأتساءل: تُرى ما مفتاح شخصية شيخِنا الجليل؟ فلن يطول تفكيري قبل أن أقول: إنَّه (الإحساس المرهف بالجمال). فالشيخ - حفظه الله - صاحب حِسٍّ مرهف، وذوقٍ رفيع يتجلّى في أمره كلِّه؛ ترى ذلك في الزِّي الحَسَن الَّذي يرتديه، وفي زجاجة العطر الصغيرة التي يُطَيِّبك منها وأنت مقبلٌ معه إلى صلاة الجماعة، وفي خَطِّه الجميل المستأني.. حتى وإن كتب لك في قصاصةٍ على عجل، وفي حُسن انتقائه للألفاظ حين يتحدّث أو يكتب، وفي جمال الحُلَّة التي يُخرج بها كُتُبَه بعد استفراغ الجُهد في إتقان خِدمتها وتيسيرِ تناوُلها؛ كما ترى ذلك جليّاً فيما ينتقيه ويحفظه من عيون الشعر والنثر.. وحتَّى الطريقةُ التي كان يربِّينا بها ونحن طلاَّبٌ صغار كانت تتَّسم بهذه السَّمة: فكان إذا رآى أحدنا قد طوى كتابه ولفّه في قبضته، أو حشاه بالأوراق والبطاقات، كان يقول له: لا تجعلْ كتابَك بُوقاً ولا صُندوقاً! وأذكر الآن مفارقة طريفة تتّصل بالكتاب والصندوق، فقد أهدى الشيخ إلى والدي قبل نيّفٍ وثلاثين سنة صندوقاً لا يشكّ من يراه من بُعْد في أنَّه كِتابٌ مجلد، كتب على كعبه: (لهنة الضيف)، فإذا فتحتَه وجدتَ فيه ما يُقَدَّم للضيف من قِطع الحلوى؛ وكم سر والدي - رحمه الله - بهذه الهدية الطريفة، وداعبَ بها ضيوفه وإخوانه.
 
- هذا - في اجتهادي - هو (مفتاح شخصية) شيخنا الجليل؛ على أنَّي أستدرك على العقّاد (رحمه الله) فأقول: إنَّ النفس البشرية أغنى وأوسعُ من أن يفتح أغلاقَها مفتاحٌ واحد، ولو ذهبتُ معه في المثل الَّذي ضربه فأحسن لقلت: وحتى البيتُ الصغير لا يفتح غُرفَه المتعددة مفتاحٌ واحد، ناهيك عن خزائنه وأدراجه، وأسراره وأستاره، فكيف بالإنسان؟!.
- لقد أكرمني الله (سبحانه) فزادني من الشيخ قُرباً إذ قبلني صِهراً، فرأيت من جوانب شخصيته ما لا يراه البعيد.. رأيتُ فيه العالم المحقِّق، والباحث المدقّق الَّذي وهب نفسه للعِلم فأسكنه قلبه وبيته، فإذا بجُلِّ غرف البيت مكتبةٌ كبيرة، زحفتْ فيها الكتب على الأرض وتسلَّقتِ الجدران..، ورأيت حُبَّ العلم قد ملك عليه قلبه، وغلبه على وقت طعامه ومنامه، حتَّى إنَّه ليستكثر على نفسه زيادةَ ساعةٍ في نومه كان من المقدّر لها أن تُنْفَق في البحث والتأليف..، ورأيت فيه التواضع للعلماء؛ بَلْهَ الَّذين تتلمذ على أشخاصهم أو كتبهم، فصان لسانه وقلمه عن ذكر أخطاء الكبار والصغار على حدٍّ سواء، فأساء فهمَه مَنْ يَستبيح لنفسه تعدادَ المساوئ وذكْرَ الأخطاء..، ورأيتُ فيه الصبرَ على المكاره، فكم من حازبةٍ يطيش لها الصبر، وينصدع الصدر، وتدع الحليم حيران، لم تنل منه غير أن تُغَيِّضَ بشاشته، وتُطلقَ لسانه بالذكر والاسترجاع..، ورأيتُ فيه الأدب الجمَّ، والحياءَ الشديد الَّذي قد يغلِبُه أحياناً على بعض أمره فلا يقول كلَّ ما يريد أن يقول.
- ورأيتُ من مآثرِ الشيخ ومكارِمه أشياءَ أخرى، حسبي في مقام التكريم هذا ما ذكرتُه منها وما حكيتُه من ذكريات.
- شكر الله لكم - أيها الحفل الكريم - جميل صبركم على عِيَّ مثلي، وشكر الله للأستاذ النبيل، الأديب الأريب، الكريم ابن الكريم، سعادةِ الشيخ عبد المقصود خوجه ما أسقطه عن القادرين من واجب إكرام العلماء، وتبجيل الفضلاء، والحفاوة بالأخيار، فحُقَّ لاثنينيَّته المباركة أن تحملَ عنوان: وفاءٌ للأحياء، في شرقنا البائس، الَّذي لا يعرف أقدار رجاله إلاَّ بعد أن يغادروا عالم الفناء إلى عالم البقاء.
- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :615  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 150 من 155
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الجمعية النسائية الخيرية الأولى بجدة

أول جمعية سجلت بوزارة الشئون الاجتماعية، ظلت تعمل لأكثر من نصف قرن في العمل الخيري التطوعي،في مجالات رعاية الطفولة والأمومة، والرعاية الصحية، وتأهيل المرأة وغيرها من أوجه الخير.