شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أعمال الغزاوي الكاملة (1)
بقلم: معيض البخيتان
ـ 1 ـ
من الأعمال الرائدة التي صدرت مؤخراً أعمال الشاعر الفحل الأستاذ أحمد بن إبراهيم الغزاوي.. وقد بعثه إليَّ ناشره مشكوراً الأستاذ عبد المقصود خوجه من ضمن من بعث إليهم.. ولا يجد المتابع في غمرة هذا الفرح البهيج إلا إزجاء التحية والتقدير للناشر ولكل من استعان به في إخراج هذه اللآلئ الفريدة.. ولن أقول أن هذه الأعمال من أجمل ما انتظم تاريخ الكلمة التي أرهفت لها الإسماع في الحجاز والبلاد كلها وخاصة في التاريخ المعاصر ليس لأن الشاعر من الأعمدة الشاخصة لقربها من المحفل الرسمي والقصر الملكي ولكن لأنه واحد من أصحاب الملكات المطبوعة..
هذه الأعمال خرجت في ستة أجزاء من القطع الكبير وعلى ورق وطباعة في غاية من الجودة والتدقيق ـ ولا أدري هل طبع منه عدداً كافياً لكي يصل إلى أيدي الناس وإذا كان قد طبع منه العدد المجزّأ وهو على الصورة الفاخرة التي وصلتني عليها نسختي فما هي قيمة النسخة الواحدة يا ترى؟ ـ أقول هذه الأعمال خرجت في ستة أجزاء أربعة منها خاصة بالشعر الذي قسم حسب أغراضه ومناسباته، أما الجزءان الآخران فكانا خاصين بالنثر.. والغزاوي رحمه الله له نثر أوعى وأكثر مما رصد في هذين الجزئين وسوف نتطرق إلى ذلك لاحقاً.. وقد أهدي هذا العمل الجليل إلى رجل قريب من حملة القلم عزيز على نفوسهم إنه صاحب المواقف الملفتة والاطلاع الجم سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود فهو علاوة على حبه للمعرفة وحميميته مع المفكرين والأدباء ذو صلات وإحاطة بالكتاب وما يدور حول الكتاب، كما أنه قارئ من الطراز الأول يدهشك بسعة ثقافته وبشمولية ما وقف عليه وخير ما ينبؤك عن هذه الأمور خطاباته أو مقدماته للعديد من الكتب التي صدرت حول وعن تاريخ المملكة والجزيرة العربية وأحداثها.. كما أنه من أنشط وأوثق من يهتمون بالكلمة سواء في محيطنا القطري أو في الساحة العريضة، ولو لم يكن كذلك لما عده المثقفون والشعراء رصيدهم النفيس في حياتهم.. فمما يقوله الأدباء ذوو الصلات في بلادنا أن الأمير الإنسان سندهم والمتفهم لهمومهم الغائرة سواء بقلبه وأفقه الرحب أو بتشجيعه وتزكيته.. وهؤلاء النفر من الخلق لا يدرك نفسياتهم ومشاعرهم المرهفة إلا الأجلاء ذوو العقول المتنورة.. فهل كاتب هذه السطور من أولئك الذين يحملون لهذا الرجل تقديراً جماً.. نعم وقد زكيت هذا القول فيما مضى بقصيدة منها:
الحب والمجد الذي حدثوا..
عنه العصاميون فيما سلفْ
ما قلتها أبغي بها حاجة
لكن قلبي بالهوى يعترف
فحسناً ما فعل الناشر وهو النبيل الذي أدرك مواقع الماء من غلة الصادي كما أن صدور هذا السفر كان في بهجة الاحتفال بمرور مائة سنة على دخول المؤسس مدينة الرياض وابتداء الثورة المفعمة بالبشارات والألفة والتوحيد..
أما كيف تم جمع هذه المادة فقد أوضح الناشر في كلمته الضافية كيفية التهيؤ والذي بواسطته بدأ الخطوة الأولى ولا ينسى في احتفاله البياني ما لشاعرية الغزاوي من مكانة مكينة في نفسه منذ بواكيره الأولى الأمر الذي جعل هذه الرغبة تنمو مع سنينه موضحاً ما لمكة المكرمة وإشعاعات أعلامها من عبق وروحانية وإلهام.. وعلى هذا الأساس المتقد بالإعجاب تجاه موهبة الغزاوي استعان بنخبة لهم قدحهم المعلى في الأدب حيث تشكلت لجنة معروفة بحصافتها وهم: الشاعر المجيد راضي صدوق.. هذا الشاعر المتميز الذي طالما قرأنا له في مجلة الشعر المصرية وغيرها من المنشورات الرائدة والذي استوطن المملكة وساهم بجهده وإبداعه، وخير المواهب الفذة في هذه البلاد وربما كان مرجعاً للعديد من الشعراء والأدباء..
ومع رحيله لفترة من الفترات لم ينس ما لهذه الجزيرة البارة من فضل وتقدمة إذ ضم الجزء الأول من معجمه الشعري نخبة لا بأس بها من الأخيار المقدمين..
أما الآخران من هذه اللجنة وهما سعد سليمان محمد ومحمد محجوب عثمان فلم أقرأ لهما ولم أسمع عنهما شيئاً وهذا لا يمنع من وجودهما في الساحة فلربما كان لهما ما لم أحط به وفوق كل ذي علم عليم.. هذه اللجنة التي تولت الإعداد والتنقيح ومتابعة المادة. ومع هذا كانوا يستعينون ويستأنسون بآراء وإرشادات ثلاثة أعلام لهم وزنهم المعروف لدينا كالشاعر الكبير حسين عرب وهو شاعر رحب الطاقة متنوع الأغراض لا يقل ـ أبداً ـ عن عمالقة شعراء العربية المعاصرين إن لم يفق العديد وكذلك الدكتور محمود زيني الأكاديمي الحصيف أما الثالث فهو أستاذ العديد من المشهورين الدكتور محمد بن حسين شاعر وناقد وباحث يعتبره محبوه طه حسين الجزيرة العربية أو عميد أدباء زمنه.. هكذا يقول محبوه ولولا الحب لفسدت الحياة.. أما أنا فقد اطلعت على إحدى قصائده الجيدة وعارضتها ومجدت شاعريته بما تستحق، ولعلني من الحريصين على مهاتفته واحترام ما ينتق أو يفضل، هذه اللجنة التي حملت على عاتقها مؤونة المراجعة وترتيب الأوراق خاصة وأن الشاعر كان ينشر شعره في العديد من الصحف ثم يغير ويبدل ويضيف شأن أمثاله تاركاً هذا الركام على حاله دون أن يترك لهذه الأضابير مكاناً أو أمكنة محددة أو نصاً لا غيره في صورته النهائية علاوة على أن حياة الشاعر أو لنقل نبوغه وإجادته ممتدة حافلة إلى ما شاء الله.. أما ما هو الأرهق من التجميع والتنبيش فهو مسألة التصويب والتقويم وخاصة الشعر، والشعر لا يمكن أن يراجعه ويدرك خفاياه إلا صاحب ملكة نفسية درسية سواء في تقنيته أو سماته ومعمارية الفكر أو الدقائق الغائرة بين تناغم التأليف الصوري والتلاؤم اللفظي المساند، ولهذا كان الناشر موفقاً حينما اختار من له باعه وإحاطته بالعربية في هذا الجانب.. وسواء أكانت هذه المشاركة فعليه من قبل هؤلاء مجتمعين أم أنه من باب إضفاء هالة تذكرنا بمشاريع التحقيق الجماعي إلا أن الموضوع كان شغل الناشر الشاغل حتى اكتمل على سوقه..
إنه دون شك عمل رفد المكتبة السعودية والعربية عن علم أسهم إسهاماً حياً بقلمه وفكره.. وقد كان قبل ذلك متناسى من قبل الدارسين مع أن الرجل تتوفر في شعره كل المقومات المكتملة من كل النواحي.
ـ 2 ـ (2)
وعندما أقول المقومات فإنني أعني قوة السبك وجلاء العبارة وسلامة مناط اللفظ لغوياً.. كما أن الحضور الذي كان يحيط به يفترض أن يكون متواصلاً من الناحية التاريخية.. والشاعر الغزاوي لم يكن غائباً أو مهمشاً بل كان له وهجه ومنصبه الوظيفي ومشاركاته التي قد تكون مؤهلاته أيام الملك الحسين بن علي ولعلها قد تكون مؤهلاته فيما بعد..
والمتتبع لسيرته الذاتية يجد أن الرجل قد أخلص لشعره إخلاصاً منقطعاً ووقف في سبيل ذلك على أمهات المراجع الشعرية والأدبية ولن تجد ـ قصيدة واحدة من مطولاته إلا ولها نفس متواصل مع قصائد الشعراء الكبار في كل العصور بغض النظر عن المماثلة أو قوة المحاكاة ـ أو كهربة الذهنية لذلك النص.
فالتأثر أو لنسميه هنا الإعجاب بأمر من الأمور غير المعاناة كما أن مرحلته التعليمية كما هو الحال مع الرعيل الأول من الرواد من العربية وإليها سواء في الكتاتيب الأولى أو في الحلقات المعهودة في المساجد أو حتى في المدارس التي أنشئت كالمدرسة الصولتية أو الفلاح في بداياتها..
من هنا نجد أن صقل الموهبة وتذكية ما توارى بالتراث ولا غيره ـ هو الدافع الفعلي ومع ذلك سيجد القارئ في شعره انعكاسا لما قرأه من شعر المهجريين والومضات الملتزمة ولكن على نطاق لم يغير في منحاه أو مبناه لأن شاعرنا لا يجد نفسه إلا على المنبر أو ما شابه ذلك من شحذ الهمة كالوطنيات والرسميات والأحداث القومية..
والغزاوي رحمه الله لم يترك الزمن على حاله بل تسابق مع سنينه الغضة ملوحاً بخطابه الذي يحسن حيث دفع بمنكبه بين المناكب الطوال العراض وبصوته الجهوري نحو الأضواء ومقامات الحكام ودسوت العلية مادحاً هذا ومشيداً بذاك ورديفاً لهذه المناسبة فيهب البسمة ويلهب الأكف ويرفع من شأن المتذوقين ويعيد إلى الوافدين ما في ذاكرتهم من شعر وشاعرية الآباء المتقدمين.. ولهذا كان معروفاً لدى الشخصيات التي تفد إلى الحج.. وقد ولع الغزاوي بالإنشاد أمام الجماهير الذي بدوره ينقل عبر الأثير من خلال أجهزة المذياع ثم التلفزة فيما بعد.. ومع ما في شعره من الوقفات والالتفاتات العفوية التي كثيراً ما كان الشعراء الأذكياء يهومون عندها لتهيئة المستمع إلى ما بعدها أو تغيير النبرة المصاحبة إلا أن إلقاءه كان على وتيرة واحدة.. الأمر الذي جعل التصفيق والإعادة من قبله ـ محصوراً بالشخصية الذي يطريها أو يمجد مكانتها.. وبحكم صلته ومكانته الوظيفية ـ فقد كان همه الأول والأخير مقيداً برسمية حضوره، أو هكذا كان هاجسه الذي عرف الناس به من هو الغزاوي..
لقد انبهر بالملك المؤسس عبد العزيز آل سعود.. ومن الذي لم ينبهر ببطولته وحنكته من الشعراء والأدباء والمؤرخين والرحالة.. والشاعر لعله كان الوحيد في الساحة الذي يقدر على التمثيل الحقيقي بالشعر الوطني الذي يفهمه ويقدره المسلمون عربهم وعجمهم خاصة ـ وأن الملك قد سن سنة محمودة بعد نهاية كل موسم حج حيث يستضيف رؤساء الوفود والمشهورين من كبار الحجاج في قصره بمكة المكرمة. ومن لازمات هذا التكريم احتفالية يعلن فيها شكر الباري جل وعلا على ما يسره ووهبه.. وتبين ما يربط المسلمين ببعضهم من روابط الألفة وآصرة اللحمة ووحدانية المعتقد وتذكيراً بما لسالف هذه الأمة من المجد والقوة والمنعة ثم بعد ذلك يقف الغزاوي ـ ولا غيره ـ محيياً للوفود ومهيباً بعظمة الموقف ومشيداً بالراعي الموحد وبما قدمه في سبيل البلاد من التهيئة والتنظيم وقد التزم أبناؤه الملوك فيما بعد بهذه المناسبة وشارك مع الغزاوي شعراء آخرون. والمتتبع لقصائد الغزاوي الأولى أي من سنة 1343هـ ـ 1360هـ يجد فيها ولو عرضا ذكراً لكفاح الملك عبد العزيز وإشارات إلى بعض المواقف التي يعرفها. ومع وجود هذا التركيز لم أجد مؤخراً واحداً أشار إلى ذلك والشعر وثيقة لا تقبل النقص أو الإغفال في الزمن الذي تتحدث عنه. وللأمانة هناك مؤرخان معاصران أوردا شيئاً من الشعر وهما ابن عبد القادر الأحسائي في (تحفة المستفيد) والشيخ إبراهيم بن عبيد في موسوعته ((تذكرة أولي النهي والعرفان)).
ومع توالي الإنشاد والقرب من العلية حذق الشاعر الألفاظ والعبارات التي تلائم تلك المواقف الرسمية ووجد نفسه دائماً وأبداً في رأس القائمة من برامج هذه التظاهرات كلازمة لا بد منها، لهذا كان مبرزاً بخطابيته وبما وهبه الله من التجاوب.. أما المهم في هذا الموضوع فهو وضوح فكرته وقربها من المجتمع الذي يقف فيه خطيباً، فشعر الرجل لا يحتاج حك الذهن أو تلمس خيط الدلالة ولا يسأل هذا البيت عن صلته بأخيه بل ببني أعمامه.. لقد ركزت جيداً في قراءتي لشعره على ما يسمى بالحوليات فوجدت الكثير منها على شكل رسائل متشابهة ليس ما يوحي إلى الناقد بإعمال الفكر أو دقة الوضع أو الإدهاش المستحوذ الذي غالباً ما يصاحب السليقة الشفيفة.. وأظن أن الغزاوي الشاعر المطبوع ينظم الكثير من شعره مستعجلاً ولا يترك له الإعجاب به متسعاً لمعاودة ومتابعة قصائده فالصنعة المبدعة ليست في العروض أو علم القافية أو الأسلوب وعربية الكلمة ولكن الثقل المهم ـ مع وجود هذه الأشياء ـ هو ما وراء ذلك في جسد العمل وتلاؤم هذا مع هذا أي التعميق وحرارة الدفع الصوري الذي يهز الأذواق ويطير بالمدارك.. حتى الاقتباس أو التضمين لا قيمة له إذا لم يكن التناص هو المستلهم من أجل ربط الرافد بأصله أو مجاراته مع الركض المشابه.. وهذا لا يعني أن أحمد الغزاوي لم يبدع.. لا.. بل أبدع في حدود التقليد أو المحافظة الصارمة التي بواسطتها أيقظ الشعر وأقاله من كبوات الترك والأمية وبعث في جثته روح التوثب السليم شأنه شأن الرواد الذين كانوا شهود مرحلة الكبوة والغفلة كفؤاد شاكر وعلي السنوسي ومجايليهم مع بعض التفاوت من أصلاء المعرفة العربية في ذاتها دون سواها.. ومن الشواهد الحية على شاعرية الغزاوي المطبوعة الأصيلة قصيدته الحولية (ليهنك عيد من ضحاك سفوره.. ج 1 ص 103 ـ 107) وقصيدته (الله أكبر ما أفاض المشعر.. ج 1 ص 472 ـ 474) ففيهما ما ينبيك عن وضوح قريحته ومكتسبه الدرسي الخالص كما ألمحنا..
ـ 3 ـ (3)
وأذكر فيما أذكر أنني عندما قرعت جرس خطر العامية على أدبيات وسط الجزيرة العربية والخليج وعلى توجهها الفكري وعلى إضافاتها التاريخية وأن ذلك سيكون مسبة التاريخ، فيما بعد.. وكيف لأمة أن تدخل التاريخ وشواهد أحداثها منافية لموروثها الأصيل التي خلدت به وكيف لها أن تفلح أو تنجو من قوارع الرصد الذي لا يرحم.. قال من قال.. إن تاريخ الوحدة لا يخلو من الأهازيج العامية التي تتحدث عن بطولة القائد المؤسس..
قلنا نعم.. فلتجمع هذه القصائد الشاهدة من قبل أديب متمكن يقدر على ترجمة الألفاظ العامية وتقريبها من المثقف العربي والإسلامي وأن يجتهد ما استطاع على إبانة التنصيص الإعرابي لئلا يبتعد الدارس عن الذاكرة بعيداً عن خطاب دعاة العامية والمتدربين على ترويجها أو من في حكمهم من الجهلة الذين يكتب لهم أو حتى المهرجين الشحاذين الموظفين لتبكيت وجلب القهقهة.. ومما علمته مؤخراً أن الباحث القدير والمؤرخ الجغرافي الثقة جاري أبا محمد الشيخ سعد الجنيدل قد خلص لتوه من جمع ما قيل في الملك عبد العزيز من القصائد العامية وشرحها ودرسها ودرس الفطن المحيط باللسانين وسوف يكون تأليفه حسب ما نعرف عن الباحث متناً أصيلاً في هذا الجانب..
ومع هذا كله نقول أن الشعر المعتد به قد سطرته أقلام وقرائح الموهوبين الحقيقيين من الشعراء وعلى رأسهم شاعرنا الجهوري أحمد الغزاوي وعلى السنوسي وفؤاد شاكر والخطيب وشاعر نجد الكبير محمد بن عثيمين والشيخ سليمان بن سحمان وخالد الفرج وحسين بن نفيسة وخير الدين الزركلي والشيخ عثمان بن بشر الابن وغيرهم ممن لهم صوت في الأحداث آنذاك فأين الأميون من نِتاج هؤلاء.. وهذا ليس من موضوعنا ولكن لكل طارئ شجنه.. ولعل المتابع قد تأكد لديه بعد التأشيرات السابقة أن الغزاوي علم في فنه ـ أي لا بد لمن يراجع تاريخ الدولة السعودية الثالثة وما هو مفاد الخطاب الصاعد وما الذي كان يدفعه ويوصله إلى الآذان المرهفة سواء في الحواضر القريبة أو فيما هو أبعد ـ أقول لا بد له من استحضار نصوص من شعر الغزاوي ـ في الأمن والعدل والنماء والهم العربي العام أو ما هو التوجه واستشراف النظام الذي يتخيله، وهذه أمور محورية خاصة وأن الجسر قد تدفق وتلاطمت من تحته سيول متفاوتة الجريان والتعميق.. ومع نبرات شعره ولأزماته المقتبسة القوية التي تدل على قربه من رسمية الدولة ودفاعه وحبه المتوزع في كل خلية من جسد ديوانه لعصرية المجتمع والملك إلا أنه يعلن ما يرى ويلمح ما يستجد ولهذا يصف كل ذلك من خلال ولائه، فهو إذاً صادق خاصة وأن ممدوحه ظاهرة من الظواهر الملفتة حقاً.. هذا من ناحية أما الناحية الأخرى فهي أننا لا نعدم وجود أمثاله ـ أعني الشاعر ـ في الأقطار العربية وهم شعراء طار ذكرهم أوقفوا مجموعة من مطولاتهم المحكمة على رؤسائهم وما بنوه وما هم فيه كأحمد شوقي وعلى الجارم وما قالاه في ملك مصر وبدوي الجبل مع الملك الحسين بن علي وغير هؤلاء في اليمن والمغرب والعراق مما يعتبره المنصفون المحايدون من لحمة الأدب العام الذي يجب أن يوقف عليه وأن لا يتخطاه الباحثون..
وإخراج هذا السفر وتقديمه للقارئ العربي محمدة لا بد أن يشكر عليها الناشر ولا بد أن يشعر الأوفياء مع فكرهم وتاريخهم بالرضا من مجتمعهم ليكون ذلك من ومضات الاستمرار وليشعر البصراء أنهم ليسوا وحدهم في ميدان التعب بل هناك من يود أن يفعل شيئاً ولكن كل ميسر لما خلق له.. أما مسألة إهمال الغزاوي من قبل بعض الأدباء الذين جمعوا نصوصاً لشعراء معروفين في الحجاز كانوا من ضمن من تطارحوا وتراسلوا مع الغزاوي كما فعل الأستاذ محمد سرور الصبان أو غيره فهذا شأن فني وتوجه فكري أدبي لا صلة له في نظري بالولاء أو بالأرض أو بالثقافة أو لعل هناك أموراً شخصية لم تطف على السطح ولا علم لنا بها ولا يمكن أن نتأول إلا أنها كما ذكرنا.. وشعر المجموعة التي أشار إليها أولئك المتابعون فيها ما لا يوجد في شعر الغزاوي إذ إن شعر جلهم ينطوي على ومضات تجديدية لها قابليتها في الموروث أما الآخرون فقد اتخذوا مع ذلك ما شاء لهم من روح المعاصرة الطافح وهو ما مكنهم من الوقوف مع رصفائهم من الشعراء في الأقطار العربية إذ يرى هؤلاء أن رسالة الشعر يجب أن تكون في أصالته ووعيه بالتغير.. أما الملاحظات التي لاحظتها وهي كبيرة وعميقة التأثير في هذه المجموعة الشعرية والتي آمل أن تتدارك فيما لو أعيدت طباعتها فهي:
1 ـ لا بد من إثبات كلمة للجنة التي قامت بالمهمة وليس الناشر فالناشر شيء والمباشر للعمل شيء آخر لنكون على بينة مما صادفها وما الذي وافقت عليه وكيف تراكمت هذه النواقص ولماذا لم يتدارك المستشارون وهم كما ذكرنا عنهم إذا كانوا في صميم المسألة وقد أحيطوا قطعاً بآخر المراحل قبل التصوير والطباعة..
2 ـ يذكر في هامش المتون إلا ما ندر ما أتيته العطوي وأنه قد سبق ووثق هذه النصوص ثم يذكرون المصدر الذي هو مصدره كأنهم بذلك لم يكتفوا به وكان الأولى أن يقفوا عند الأخير احتراماً لما جرى عليه التوثيق إلا إذا كان هناك زيادة أو نقص أو ما شابه ذلك من إثبات ما ليس للشاعر.. كما لاحظت بعض التصويب عروضياً وهذا التصويب لم يلتزم به كما سيأتي.
ـ 4 ـ (4)
أقول لاحظت بعض التصويب عروضياً مع تأشيرات إلى العطوي وكأن تبعة ما حصل من هذا الخلل عائد إليه. بصفته أول من وثق أعمال الغزاوي.. مع أن هذا التصويب لم يلتزم به.. والتصويب أياً كان يجب أن يكون أميناً مع التوجه مطابقاً للهيئة والمقام، أما الزيادة أو الحذف من أجل تقويم الشعر فاعتداء لا تقره الأمانة العلمية، وماذا يضير الدارس أو المحقق إذا كان الخطأ أصلياً في النص.. ألا يوجد هناك هامش عريض للركض دون المساس بحرمة ما أنجز وتكون المعالجة في ذات المتن.. وفي نظري الخاص إن الأمر لا يخلو من هذا النقص فالعروض أو موسيقى الشعر كالمضمار الحساس والشاعر ما لم يكن ذا أذن مرهفة وفطرة شعرية سليمة لا بد أن يجد المدقق بعض الثغرات ولكن على تفاوت؛ فالإشباع والإمالات والتضعيف لها دورها.. كما أن دراسة العروض كعلم مرادف لا غنى عنه لا يمكن الدارس العادي من النهاية السليمة ما لم يكن مزوداً بالإحساس الحاذق كما ألمحنا؛ والشاعر الموهوب ليس في حاجة إلى تعلم هذا العلم أو لنقل هضمه جيداً وإن كان لا بد من مطالعته لكي يتعرف على التوزيعات والأجناس التي اعتمدها..
والشعر وحده أرقى الفنون وأسرعها منفذاً.. وقد نقول أنه لا يضير بعض الهواة إذا لم يوفق في معرفة دقائق موسيقى الشعر.. والمعرفة ليست بالعصا أو اللجاجة.. ومما يروى أن أبا علي القالي صاحب الجمع العمدة قد لاحظ عليه أحدهم عدم انتباهه للوزن الشعري مع أنه يحفظ الكثير من شعر العرب حيث استقبله أثناء وفوده للأندلس رجل من أهل العلم يسمع عن أخبار أبي علي وفي الطريق تمثل أبو علي القالي ببيت علقمة الطيار:
ثم اغتدون إلى جرد مسومة
أعرافهن لأيدينا مناديل
وقد حذف القالي نون أعرافهن مشبعاً الهاء ومادها مع أن الحالة تستدعي الاستئناف وفي هذا ما يوهم مع الوقف لكنها لم تفت على الملاحظ.. وفي الوسط اليوم من المعروفين كتاب ودارسين لا يميزون بين السليم والعليل لا حاجة إلى استعراض ما يدعونه.. والذي لا يدرك هذه الخصيصة لا يمكن أن يوثق بما يدعيه عن فهم ومتابعة هذا الفن العريق الراقي.. لأن المسألة يترتب عليها قبل الجمال والفرادة سياق له أطره وخواتيمه..
3 ـ لم أقرأ قصيدة أو مقطوعة في هذا العمل إلا وفيها بيت أو بيتان أو أكثر مختلة الوزن مستلقية المعنى من جراء ذلك حتى لو خيل إليَّ أن الشاعر قد يخونه الحذق الموسيقي مع ضجيج الأبيات؛ وهذا يحدث أحياناً ولكن ليس بالشكل المتواجد هنا..
لكن بعد التدقيق على سبيل المثال وجدت في الجزء الثاني ص 800 من قصيدة ((الشعب فيك ومجده يتمثل)) التي مطلعها:
مجد يطل وكوكب يتهلل
وضحى يشيع وأمة تتكتل
ورود هذا البيت:
يرنو إلى الهدف القصي وقد دنا
(كالطيف يرنو بأوصال ويبذل)
ومن المفترض أن يكون الشطر الأخير هكذا: (كالطيف يغري بالوصال ويبذل). وهذا في نظري ما قاله الشاعر؛ فهل من الممكن أن يوجد مخرج لمثل هذا الشطر عندما يتابع المجموعة من له بصر بهذا الموضوع.. مع أن فطرة الشاعر الموسيقية ـ في نظري ـ لا تخلو من هذه العوارض.. وأعتقد أن مجايليه يعرفون هذا عنه ولكنهم لا يجرون على تنبيهه أو نقده لمكانته الوظيفية.. كما وجدت أن الشرح المرافق لهذه القصيدة يقول أن الشاعر نظم هذه القصيدة وأنشدها أمام الملك عبد العزيز سنة 1366هـ في جرول بمكة المكرمة ومن يقرأ هذه القصيدة يجد بما لا يدع مجالاً للشك أنها لم تقل في الملك عبد العزيز وإنما قيلت في أحد أبنائه الكبار..
4 ـ لم يشر إلى ما اندس في شعر الغزاوي من شعر غيره حيث إن الرجل في ما يبدو يحفظ الكثير من الشعر العربي وعند النظم ينزلق شيئاً من هذا المحفوظ عفوياً دون أن ينتبه إلى ذلك..
أو أنه فعلاً يتطرف به أو للحاجة ظناً منه أنه لن يعرف مصدره.. وذلك مثل ما ورد في الجزء الثاني ص 811 من القصيدة التي بعنوان: (وأقبلت بالشعاب الأرض نافرة) حيث يقول:
من كل ملتئم بالله معتصم
لله منتقم يستمريء الرمقا
وهذا بيت أبي تمام من قصيدة عمورية الشهيرة:
تدبير معتصم بالله منتقم
لله مرتقب في الله مرتهب
هذا هو البيت وإنما حذف الأجمل وأضاف الأسوأ (يستمرىء الرمقا) التي أضافها مجاراة لقافيته وهي زيادة لا تدل على أي شيء من الذكاء..
5 ـ لم تخرج الأبيات أو بالأصح البيوت المضمنة المقوسة وما أكثرها وهي لشعراء كبار من العصور المتقدمة وانتهاء بالعصر الحديث.
6 ـ لم يترجم للأعلام والصوى التي كثيراً ما رددها الشاعر مع وجود معاجم ومراجع للبلدان والجبال والأودية. أو على الأقل لم يسأل أهل الجزيرة العربية لأنهم لا يجهلون بلادهم إذا عز البحث.. ولا ندري لماذا فالتوضيح مطلوب ومرغوب في إثرائه كما جرت العادة..
7 ـ أما الكارثة المؤذية والتي لا تغتفر فهي وضع الغزاوي ـ رحمه الله ـ موضع السارق دون إشارة أو اعتذار حيث ورد في الجزء الرابع ص 1729 قصيدة بعنوان ((قمرية الوادي)) ومطلعها:
بي مثل ما بك يا قمرية الوادي
ناديت ليلى فقومي في الدجى نادي
وهذه قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي كاملة قالها للتغني في لبنان صيف 1913م فكيف حصل ذلك؟!! ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ترادفت هذه البلية التي يئن لها طين الغزاوي حيث ورد في الجزء الثالث ص 1355 قصيدة بعنوان (شاعر العرب) والمتفحص لهذه القصيدة يتبين له أن قائلها رجل اسمه حسن لعلها رجعاً أو معارضة لقصيدة تماثلها فمن هو حسن هذا؟!
وثالثة الأثافي ما ورد في الجزء الرابع ص 1690 وهي قصيدة ((حديث العيون)) ومن مطلعها القسمي يعلم أنها لم تصدر من جوف الغزاوي المؤمن بربه الصادق مع فطرته كما أن نفسها وقرب مأخذها ليست من شاعرية الغزاوي البتة فمن هي له؟!!
هذه الملاحظات السريعة التي قدرت على تبيينها في هذه المساحة.. وقديماً قيل.. يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.. وقد عنقناها بالملاب والخزامى وأحطناها بالأمراس القنب.. أما النثر فله حديث قد يقرب من حديث الشعر في الطول وقد أتحدث عنه إذا سنحت الفرصة مستقبلاً أو أترك الموضوع لغيري.. ولن أنسى في النهاية مقولة العماد الأصبهاني المأثورة فالكمال لله وحده.. شاكراً للناشر الفاضل هذا الإهداء الذي أتاح لي ما حبرته في هذه المشاركة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :652  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 110 من 142
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.