شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أبيض وأسود
المدينة السعودية (1)
بقلم: خالد القشطيني
خلال الأيام القليلة التي قضيتها في جدة قبل أسبوع، التقاني الصحافي الشاب محمد المنقري وخلال المقابلة الصحافية التي أجراها معي، سألني عن انطباعاتي عن المجتمع السعودي، أجبته ولكن بعد انصرافه تأملت ثانية في سؤاله فخطر لي شيء نسيت أن أذكره له.
إنه هدوء المدينة السعودية. فمن أجلى مظاهر المدن الشرقية التي تلفت كل الأنظار صخبها. الراديوات تهدر من البيوت والمقاهي والسيارات. الجمهور في سيل لا ينقطع من الصراخ والنداء والخصام. الشرطة تصفر والسيارات تزمر ومواكب الأعراس والجنائز والطهور والمظاهرات في ضجيج متواصل. لم أجد شيئاً من ذلك في المدينة السعودية. هدوؤها شيء عجيب.
كانت زيارتي بدعوة من الشيخ عبد المقصود خوجه لاثنينيته. استغل الشيخ فرصة وجودي في جدة فقال تعال معي مساء الغد لأفرجك على الزواج السعودي بمستوييه الأرستقراطي والشعبي. ألغيت كل مواعيدي وأسرعت لانتهاز هذه الفرصة النادرة. حفلات الزواج عند كل الشعوب تغص بالغناء والموسيقى والرقص والزغاريد وكل أصناف الضجيج. حضرت الحفلة الأولى فهالني هدوؤها التام. يدخل الضيوف ويسلمون ثم يجلسون حول الطاولات في صمت تام أو في أحاديث إخوانية فيما بينهم أقرب للهمس منها للكلام. حضر الأمير ماجد، أمير منطقة مكة المكرمة، فلم أسمع إلا سلاماً سلاماً لا تصفيق ولا هتاف ولا يعيش بطل العروبة والإسلام. جلس بهدوء لعدة دقائق ثم قام، وقام القوم من حوله لتناول العشاء بنفس الهدوء والسكينة.
مسك الشيخ عبد المقصود بيدي وقال: الآن تعال نلحق بالزواج الشعبي. قلت أي والله، هذا ما أريده. شيء من النشاط والفرفشة. ذهبنا وإذا بهذا الزواج الشعبي لا يقل صمتاً وسلاماً عن سالفه. ولولا الحديث اللذيذ مع سعادة الشيخ لشمرت عن ساعدي ووليت هارباً من أقرب الأبواب.
أين ذلك من أعراس بغداد وما تضج به من طبول وزمارات، وجوقات وأهازيج وهوسات وسيارات تتبادل الزعيق والنفير ومارة يصفرون وجولة أو جولتين من المخانقة والملاكمة بين أسرتي الزوجين وزج ثلاثة أو أربعة في السجن وخمسة أو ستة آخرين في مستشفيات الطوارئ. للظاهرة طبعاً أبعادها. كتبت في مناسبة سابقة عن الهدوء الإسلامي وعن الهدوء كركن أساسي من برامج اللاعنف اعتمدته الحركة الغاندية باستمرار. الضوضاء تنتج من العنف وتسببه بعين الوقت. والهدوء والصمت يساعدان على تحاشي العنف واستبعاده. يعطينا الإسلام صوراً وأمثلة كثيرة من ذلك. القرآن الكريم يصور الجنة بإطار الهدوء وانعدام اللغو، والنار عندنا مرتبطة بضجيج الآثمين المغضوب عليهم. عندما بشر الله تعالى زكريا بغلام قال له ((آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً)). فعلت مثل ذلك مريم العذراء عندما ولدت عيسى عليهما السلام فقالت لقولها ((إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً)).
الانقطاع عن الكلام والجلبة جانب من جوانب البركة. هناك طائفة من الرهبنة المسيحية يكون الانقطاع عن الكلام مدى الحياة جزءاً من العبادة عندها.
تأملت في ظاهرة هدوء المدينة السعودية. هل هو جزء من إسلامية المملكة؟ هل هو نتيجة من استباب الأمن فيها وخلو مجتمعها من العنف؟ هل هو نتيجة كوابت وروادع اجتماعية على النحو الذي يجابهه أو بالأحرى كان يواجهه المواطن الإنكليزي؟ مرة أخرى أتلمس هذا النمط العجيب الذي أشرت إليه سابقاً في التشابه بين بعض مميزات السلوك السعودي والسلوك الإنكليزي. قد تبدو هذه المقولة شاذة لدى القارئ، ولكني أتحسسها فعلاً. المدينة الإنكليزية هي الأخرى مدينة هادئة صامتة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :375  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 70 من 204
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الشعرية والنثرية الكاملة للأستاذ محمد إسماعيل جوهرجي

[الجزء الخامس - التقطيع العروضي الحرفي للمعلقات العشر: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج