شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة المحتفى به يحيى توفيق حسن ))
ثم أعطيت الكلمة للمحتفى به الشاعر يحيى توفيق حسن فقال:
- بسم الله الرحمن الرحيم..
- أحمد الله الَّذي تفرد بالملك والعظمة والكبرياء، وأصلي على نبيّ الهدى صلى الله عليه وسلم ثم أبدأ بالشكر لهذا الماجد الَّذي دأب على أن يكرم الأدب في شخص الأدباء، شيخِنا العزيز عبد المقصود خوجه، ثم أشكر هؤلاء الأحبة الَّذين كلفوا أنفسهم عناء حضور حفل تكريمي هذا، وأحبتي الأساتذة الَّذين تحدثوا عني، وكأني أنظر إليه وإليهم بالعين التي كنت أراهم بها خلال فترة غربتي الطويلة، عن تربة هذا الوطن، هناك وأنا أتنهد في الغربة تذكرت أهلي وقومي ووطني.. تذكرت هذه الوجوه الطيبة الودودة - فقلت:
رعَى الله في أرضِ الحجازِ أحبَّة
سراعاً إلى المعروفِ كسلـى عـن الظلـم
تراهمْ إذا أمُّوا المساجد خشَّعاً
وإن شمروا للحـرب ناراً علـى الخصـم
لهم شِيَمٌ تهوى الندى وتقودُهم
نفوسٌ سمتْ فوق الصغائر واللؤم
ترى الزهـدَ وجهـاً والسماحـة منطقـاً
وفـوقَ الوجوهِ البيـضِ تاجاً مـن الحلـم
أولئك قومي عطَّر الله ذكرَهُمْ
فهلْ فـي هواهُـم إن تَدَلَّهْتُ مـن لـوم؟
فيا ربِّ إن قَدَّرتَ لي طولَ غُربةٍ
فهبْ لي فؤاداً لا ينُوحُ ولا يَهْمِي
ويا ربِّ إني للحجازِ وأهلهِ
مشوقٌ كما يشتاقُ طفلٌ إلى أُمِّ
 
- ولا يمكن للمرء أن يعرف قيمة أهله ووطنه إلاَّ إذا اغترب طويلاً، ليس اغتراب نزهة وترف، بل في طلب الرزق؛ وأحب أقرأ لكم جزءاً منها لتعرفوا جو القصيدة:
غريبٌ وهذا الليلُ يضرم في همِّي
وبعضُ صروفِ الدهرِ تلهو بـذي الحـزْمِ
أحاولُ أن أحيا كريماً ومن يكنْ
غريباً يعِش رهنَ المذلَّةِ والظلمِ
أعيشُ وأحزاني وحيداً بغربتي
أصارعُ أحداث الزمان على رَغْمِ
وأكتم في صدري هموماً تعاقبت
فشاب لها رأسـي وضـاق بـها كتمـي
ولولا صغارٌ عشتُ أرعى أمورهم
لمـا رضيـت نفسـي المبيت علـى الضَّيْمِ
بسهمي رمى أهلي الزمان وكربه
وواجهْتُ غدرَ الدهرِ وحـدي بـلا سهـمِ
بذلتُ لهم قلبي ونفسِي ومهجَتي
وأخْلصْتهم ودِّي وخوَّلتهم حلمِي
أُداوِي كلومَ الأهلِ مهما تفاقمت
فَمَنْ لي يُداوي بعض مـا بي مـن كَلـم؟
وعشتُ كمن يشقى ليُسعَدَ غيره
جواداً بلا مَنٍّ كريماً بلا لؤم
وكنتُ كمن يحمـي حمـى الـحيِّ وحـدَه
تنامُ عيون الحيِّ وهو بلا نَوِم
 
- وعلى الرغم من أن بني وطني تغلب عليهم الطيبة ومكارم الأخلاق، إلاَّ أن كل بلد لا تخلو من بعض المتبلدين.. هؤلاء لا يدركون مقدار الجهد والعناء، والمثابرة والإصرار، والوقت الَّذي تبذله لكي تحاول تطوير ذاتك، وتطوير شعرك ومفاهيمك وأفكارك، وحتى أحلامك.. ويحكمون عليك من خلال الفترة الأولى التي قرؤوك فيها قبل أكثر من ثلاثين عاماً، كأنما الزمن قد توقف وكأنك كنت نائماً وصحوت.. وتريد أن تصعد القمة على أكتافهم؛ وأسأل نفسي مرات: أليس حرياً بشاعر يعطيهم - وهو في سن دون العشرين - قصيده كسمراء أن يجد منهم بعض التعاطف والتقدير؟
- شيء آخر يتعمد أن يسألني البعض كثيرًا.. لماذا كل شعرك نسيب وغزل؟ وأضحك لأني أعلم أنه لم يقرأ شعري، وأنه ربما كان جالساً في مجلس، ودار حديث فيه عني وعن شعري، واستقر الرأي على أني لا أكتب إلاَّ شعراً غزلياً لأني عاشق، والحب هو الَّذي يسيّرني ويهيئ لي كتابة الشعر، كأن كل إنسان يحب لا بد أن يصبح شاعراً.. ولو أن السائل تصفح دواويني، لوجد أني لم أترك باباً من أبواب الشعر إلاَّ طرقته، وإن كان السائد في شعري هو الغزل والنسيب؛ ولكننا - في كثير من الأحيان - نحاول تصيّد الهفوات لأدبائنا وشعرائنا وفنانينا.
- يا أحبائي: كل الشعوب تقدر فنانيها وتعرف رقة ورهافة أحاسيسهم.. فلم يحاولوا تجريحهم، أما نحن - كعرب - فكأننا لا نريد أن ينبغ من بيننا أحد، عبد الحليم حافظ قتلته صحافة بلاده، ومزقوه وهو مريض، لم يرحموا مرضه وضعفه.. ثم بكوه.. متى؟.. بعدما مات ودفنوه.
- نجيب محفوظ، ألا تذكرون كيف هاجموه وفي بلده - للأسف - عندما حصل على جائزة نوبل؟ هل هناك أحد لا يعرف الجهد الَّذي بذله هذا الرجل لكي يثري الأمة العربية بالقصة والرواية؟ ومن منا لم يقرأ ثلاثيته؟ لكننا ما زلنا - كعرب للأسف - نسير في ذات الطريق؛ نسأل الله السلامة.
- وإني لأتذكر أني كنت في مجلس، كان فيه بعض النقاد المعروفين، وبدؤوا يتحدثون عن الشعر، وكلما تشعب حديثهم كلما ازددت ثقة بنفسي، لأني أرى مقدار بعد ما يطرحون عن فهمهم لروح الشعر؛ إنهم لم يمروا بالتجربة، فكيف يمكن أن يفهموها، وكيف يمكن أن يتحدثوا عنها بصدق؟ ومع ذلك فإنهم ينقدون وينظرون، ويحيون شاعراً ويميتون شاعراً.
- يا أحبائي: لقد قلت في أكثر من مناسبة: إن ناقد الفن مهما نبغ فإنه فنان فاشل قاصر، ربما كان يملك الحس والقدرة على الرؤية، والقدرة على التصور والتذوق، ولكنه لا يملك أصلاً ملكة التعبير أو التصوير، لأنه لو كانت له هذه الملكة لأصبح شاعراً، والشعر قمة القمم في الإبداع، ولكي تنتقد الإبداع ينبغي على الأقل أن تكون أنت مبدعاً، بل ينبغي لكي تنصب نفسك ناقداً للإبداع، أن تكون قمة في الإبداع.
- انظروا إلى تراثنا: إنَّ نقادنا الكبار، ابن رشيق صاحب العمدة في نقد الشعر كان شاعراً؛ والقاضي الجرجاني صاحب الوساطة كان شاعراً، وعبد الكريم النهشلي القيرواني صاحب الممتع في صنعة الشعر كان شاعراً، وقد كانت العرب تسمي الشعر الفطنة؛ فمتى يفهم أحبابُنا نقادنا ذلك؟
- الشعر ليس كله قواعد وقوالب، وبحوراً وأوزاناً، وموسيقى ولغة ومعاني.. الشعر - قبل هذا وذاك - أحاسيس، وخلجات نفس صادقة، والشاعر في تكوينه وفي عجينة طينته وفطرته تكمن مواهب وملكات وأحاسيس..، لا تتوفر للأفراد العاديين؛ ولكي تستطيع أن تدرك مسار هذه المشاعر وطبيعة تلك الأحاسيس، فينبغي أن تكون على ذات المستوى من رهافة الحس، وأن تمتلك ذات القدرات والملكات والمواهب التي تتكون منها شخصية الشاعر ورؤيته، وما لم يتيسر لك ذلك فلن تكون - أبداً - في وضع يمكنك من أن تحكم على شعر شاعر ملهم مفطور، حتى المفردات التي تتساقط على الشاعر ساعة تجليه.. مفردات لها خصوصيتها، بحيث لو أردت أنت - كناقد - أن تغير مفردة بأخرى لاختل البيت، مع أنها - أي المفردة - تحمل نفس المعنى ونفس تركيبة الوزن؛ فالمفردات وإن تشابهت في المعنى، إلاَّ أن لكل مفردة خصوصيتها الموسيقية، فكثير من الحروف تحتاج إلى مجهود عضلي لنطقها.
- هناك حروف تخرج من الحلق كالهاء، والعين، والغين، والحاء، والخاء.
- وحروف تنطلق من أقصى اللسان كالقاف، والكاف.
- وحروف من وسط اللسان كالجيم والشين.
- وحروف من الشفة كالفاء والميم.
- ومن خلال توفق الشاعر (غير الإرادي) بل (الإلهامي) أنا لا أقصد أن يكون مغيباً أو مسطولاً - لا سمح الله -.
- ولكني أتحدث عن حالة خاصة، حالة نشوة تتلبس الشاعر، حالة تجلٍّ تسيطر على مشاعره عند ولادة القصيدة، لذلك أقول غير الإرادي.. بل الإلهامي، وأنا هنا أتحدث عن الشاعر ولا أعني الناظم، الشاعر الَّذي يكابد ويعاني ويتألم، ثم تتفجر كل هذه المشاعر والأحاسيس في ذاته فينفثها شعراً، وعندها إذا توفق في اختيار المفردات، نستطيع أن نحكم على مدى شفافيته وعمق حسه وقوة موهبته وملكته الشعرية، وبقدر توفقه في اختيار تلك المفردات، تكون قوة ومدى تأثيره وأثره في نفس سامعه ومتلقي شعره.. وهذا هو صلب القضية، وصولك إلى عمق أعماق المتلقي وتحريكه.
- أنا أعرف أنَّ الأثر سيكون متبايناً بين متلق وآخر، لأن ذلك - أيضاً - تحكمه ظروف المتلقي ذاته من حيث الرهافة والتبلد في حسه، ثقافته ومن حيث توافق وملامسة قصيدتك عند قراءتها مع مروره - أي المتلقي - بتجربة معينة تتطابق مع انفعالات القصيدة، أعني متلقياً وقع من قمة رأسه إلى أخمص قدميه في الحب، وجئت أنت وحركت أوجاعه بقصيدتك.. لا بد أن ينفعل معك، وآخر يمر بمرحلة حزن ومعاناة، ولامست قصيدتك أحزانه وحركت أشجانه.. فإنه ينفعل لا شك؛ وهناك أمور كثيرة تحكم القضية..، البليد لو جلست تغني له طول الليل فهو لن يتأثر.
- ما أريد الوصول إليه، هو أن الإبداع لا يمكن أن ينقده إلاَّ مبدع مارس الإبداع وتفوق فيه، وليس من حق أي أكاديمي أن ينصب نفسه ناقداً لفن من الفنون أو إبداع من الإبداعات، إلاَّ إذا كان هو يملك القدرات والأدوات، ومر بالتجربة، وخاض الممارسة وأبدع فيها؛ لأننا نريد - فعلاً - نقَّاداً ينقدوننا فنستفيد من نقدهم، ولا نريد من يترجم وينظر ويفسر أفكارنا للقارئ أو المتلقي كما يريد هو، لا كما نريد نحن.
- فالشاعر والقصيدة التي تحتاج إلى مترجم للغتها، ومفسر لأبعادها، ومنظر لأفكارها وأهدافها..، هذا الشاعر ليس بشاعر بل كاتب ألغاز، والقصيدة ليست بقصيدة بل (فزورة).
- أقول هذا مع كل احترامي للمذاهب الغربية في الشعر من رمزية وسريالية، وغيرها.. لكن قبل أن نقفز إلى أساليب ومذاهب الغربيين، علينا أن نتقن - أولاً - أساليبنا وأن نهذبها، وأن نسمو بها.. لا أن نتخلى عنها.
- إنَّ التجديد لا يعني الانفصال عن الجذور، والتسلق على أنقاض الآخرين؛ يا أحبائي هذه مناسبة لا أريد أن تمر دون أن أتحدث عن موضوع أقلقني كثيراً، وذلك هو رأيي في شعر المرحوم أستاذنا العواد (رحمه الله وأسكنه الجنة).
- الحقيقة التي التبست وغابت على كثير من الإخوة الَّذين تناولوا الموضوع، هي أني لم أتحدث عن العواد كإنسان أو كرمز، فالرجل (رحمه الله) له مواقفه التي يجب أن تحتسب له مواقف شجاعة.. لا شك في ذلك، ولكن حديثي كان منصباً على شعره؛ والشعر موجود في دواوين مطبوعة، ولكل إنسان الحق أن ينقدها أو يبدي رأيه فيها، شريطة أن يملك القدرات على التمييز، وتؤهله ثقافته وموهبته وإبداعه لذلك، وللآخرين أن يؤيدوه أو يختلفوا معه؛ وليس من حق أحد أن يكمم أفواه الناس، ولا من حق أحد أن يفرض رأيه على الناس، وليس من حق أحد أن يفرض أستاذيته على أحد، لمجرد أنه يمتلك مكتبة بها من المصنفات الكثيرة مما لا يملكه أو تصل إليه يد الآخرين.
- إن المرء لا يستطيع أن يتميز بمعرفته وقدراته، إلاَّ إذا كانت هذه المعرفة وتلك القدرات نابعة ومنبثقة عن تفكيره هو وعبقريته هو، وموهبته هو؛ ولكنه لا يمكن أن يكون - أبداً - أستاذاً بأفكار الآخرين ومصنفات الآخرين، ينبغي على الحصيف أن يهضم كل ما يقرأ، ثم يكون له هو ذاته وأفكاره.. واستنتاجاته وفلسفته، وينبغي أن لا يكون ترديداً لأفكار الآخرين وتكراراً لها، ولابد أن يكون له مسارٌ متميزٌ مستقلٌ، حتى يكون عبقرياً وأستاذاً، وقدوة للآخرين.
- ربما تريدون مني أن أتحدث - قليلاً - عن نفسي، عن نشأتي، مسار حياتي..، هناك قصيدة أنا أعتبرها تمثل تشكيلاً وتصويراً لمسيرتي، فاسمحوا لي أن ألقيها، ولكن قبل القصيدة لا بد أن أذكر آل بيت كريم، كان لهم الفضل الكبير على مسار حياتي.. هم آل علي رضا.
- لقد احتووني شاباً يافعاً، وهيئوا لي كل الفرص التعليمية والوظيفية، واعتبروني - تماماً - كابن من أبنائهم معاملةً.. وعطفاً.. ورحمة.. وحناناً..، واعتبرت نفسي منذ أمد طويل ابناً لهم ولم أزل؛ تعلمت منهم مكارم الأخلاق التي تكاد تكون نادرة في هذا الزمن الرديء.. شيم أسطورية، وأخلاق عجيبة أقرب إلى الخيال..، وسامحوني، فإن أقل ما يمكن أن أقوله هو أن أعترف بفضلهم وأشيد بذكرهم - جزاهم الله عني الخير.. كل الخير -.
 
مـاذا أريد..؟
أتيتُ إلى الدُّنيا أٌبادِرُ باكِياً
فمِنْ بَدْءِ خَلْقي كان بَدْءُ بكائيا
كأَنِّي أَرَى في صفحةِ الغَيْبِ شِقْوتي
مسطَّرةً.. والحزنُ يرسمُ ذاتِيا
أَبي.. كان فذّاً في الرجالِ نهارُهُ
كفاحٌ ويُحْيِي بالقُنوتِ الليَالِيا
فقيراً ولكن بالشموخِ موشَّحٌ
فلا ينحني مهما يعانِ المآسِيا
ويصبرُ إن جارَ الزمانُ بهمَّةٍ
تغالبُ رغْمَ الفقرِ.. دَهْراً مُعَادِيا
يجوعُ، فإن جاءَ الطعامُ رأَيْتَه
تناءَى.. وأَدْنَى للصغارِ الأَوانيا
ويحرم في ليلِ الشدائد نَفسَهُ
ويؤثِرنا حتى وإنْ باتَ طاوِيا
كريمٌ فلا يأسى على ما يفوتُهُ
وإن نالَ فضلاً كان برّاً مواسيا
وأَقْبَلَ يومٌ كالِحُ الظِلِّ مُثْقَلٌ
رأَيتُ أَبي يُدْنى إلى القَبْرِ ساجِيا
عرفت جلالَ الموتِ وهو حَقيقةٌ
تغافلتُ عنها حِقْبَةً من زمانِيَا
وأَيقنتُ أنَّا راحلونَ وأَنَّني
وإن طالَ بي عُمْري سأُصبح فانِيا
وكنتُ طريَّ العُودِ ما زلتُ يافِعاً
غَرِيراً قليلَ الحوْلِ أَخْشَى العَوادِيَا
وحيداً ولا مالٌ وحولي صِبْيَةٌ
يَتامَى تَضَاغَوْا جائِعين حِيَاليَا
فأَيْقَظَني من غفلةِ العمْرِ بؤسُهمْ
وأَشْعَلَ في ذاتِي وئيدَ حماسِيَا
فَشَمَّرْتُ تشميرَ الكريمِ إذا غدا
إلى الحَرْبِ لا يخشى من الموتِ عادِيا
وأقبلتُ أَسْعَى في الحياةِ وقُدْوتي
أبٌ صارعَ الأيامَ كالليثِ ضارِيَا
* * *
فلمَّا استوى عودِي.. تلفتُّ ذاهِلاً
أُقلِّبُ فِكْري.. والدروب أَمامِيا
توهَّمتُ أنَّ المجدَ.. إحرازُ ثروةٍ
أصونُ بها وجهاً رأَى الفَقْرَ.. عارِيا
فَرُحْتُ بعزْمٍ لا يكلُّ وهِمَّةٍ
أحاولُ كَسْبَ المالِ .. ليْلِي .. نهاريَا
سنينٌ وأعوامٌ من العمرِ أُهْدِرَتْ
تغربتُ عن أَهْلِي أَجُوبُ الفَيِافِيا
وسُحْتُ بأَرْضِ الله.. والمالُ غايتي
أعاني.. فما أَزْدادُ إلاَّ تمادِيا
وبعد سنين الصبرِ أَصبحتُ موسِراً
وأَصبحَ قلبي نازِفَ الجرحِ دامِيَا
فرحْتُ بعيٍن أَحْكَمَتْها تَجَاربي
أردِّدُ طَرْفِي في الخلائقِ هازِيا
أَفِي المالِ - بِئْسَ المالُ - أَبليتُ زهرتي؟
وحوْلي جمالُ الكونِ يَنْبِضُ زاهِيا
وأَحسستُ أنِّي والحياةُ تلفُّ بي
أُفَتِّشُ عن أَشْياءَ لمْ أَعِ ما هِيَا
فساءلتُ نفْسي والضَّيَاعُ يُحيطني
وليلٌ من الحرمانِ يُفرِغُ ذاتِيَا
لعلِّي ولا أَدري أُفتِّشُ عن هوىً
يعيدُ لإحساسي صَهِيلَ شَبَابِيَا
ومرَّت سنين العمرِ ثَكْلَى رتيبةً
وقلبي يُعاني بين جنبي صادِيَا
* * *
وجئْتُ.. كما تأتِي النسائمُ في الضُّحِى
يضمُّ رداءُ الحسنِ عودَكِ حانِيَا
تَسَلَّلَتِ نحوَ القلبِ في ميْعَةِ الصِّبا
فأَيْقَظتِ عمْرِي بعدَ ما كان غافِيَا
وعادَ وجيبُ القلبِ يخفِقُ صاخِباً
وعادَ شبابي راكِضَ الخطْوِ طاغِيا
وقُلتُ لنفسي والضبابُ يلفُّني
أَفِيقي.. فَصَفْو الحُبِّ أَصْبَحَ دانِيِا
وأَغرقتُ عُمْري في الهوَى وحنانِهِ
وفي نارِهِ أَحْرقتُ روحي وذاتِيا
وكرَّت لياليِ العمْرِ تمْضِي سريعةً
وقلبي مع الأَشْواقِ يرقُصُ لاهِيَا
تنقَّلتُ بين الروْضِ أَلثُمُ زهْرَهُ
ورحْتُ أَعبُّ الشهدَ عذْباً وصافِيَا
فلم أَدْرِ.. إلاَّ والصِّبا كادَ يَنْقَضِي
وريعانُ عمْري بالشجا باتَ ذاوِيَا
فرحْتُ أعزِّي النفْسَ بالصبرِ حائراً
وقد ملَّ قلبي وانطوى مُتداعيا
فأدْركتُ أنَ الحبَّ يخْبو أُوَارُهُ
وطُول التَلهِّي.. يَسْتَبيح الأَمانِيا
* * *
وعدتُ أجيلُ الطرْفَ حولِي يائِساً
أُكَفْكِفُ دمعي دامِيَ الروحِ شاجِيَا
فعشتُ بإِحساسي أُحاوِلُ أَنْ أَرى
صديقاً يواسيني ويرحمُ حالِيَا
فخالطتُ أقواماً وجرَّبتُ معْشراً
فلم أَلْقَ بيَن الناسِ خِلاًّ مواسِيا
تكاثَرَ خِلاَّني وحظِّي وافِرٌ
فلمّا كبا حَظِّي تلاشَوْا تَلاَشِيَا
وفكَّرتُ في أَمْرِي ويأسي وحيرَتي
فلم أَرَ غيرَ اللهِ يأسو جراحِيَا
فعدتُ كما عادَ المحاربُ مُثْخَناً
إلى بابِهِ أَشْكُو إليه شقائيا
فما ثمَّ غيرُ الله يُرجى لعائذٍ
يقومُ بجُنْحِ اللَّيلِ يَقْنَتُ داعِيا
فعلَّقْتُ آمالي بمن في رحابِهِ
يلاقي الحَيَارَى إن دَجَا الليلُ هادِيا
وأَلْفَيتَني أَرْنو إلى اللهِ نادماً
بقلب مُنيبٍ عادَ يَنْشُجُ باكيا
هناكَ أَضاءَتْ في فؤادي سكينةٌ
وطهَّرني الإِيمانُ منْ هَوْلِ ما بِيَا
 
الجَزْر
(تذكرتُ والدليلة الإسبانية الجميلة تطوف بنا حول قصر الحمراء وفي شرفاته. تذكَّرت نهاية تاريخنا الطويل هناك؛ ففي الثاني من يناير عام 1492م دخلت جيوش قشتالة مدينة غرناطة، ورفعت راية القديس ياقب إلى جانب صليب الجهاد الفضي، على برج الطليعة من أبراج (قصر الحمراء) وخرج أبو عبد الله محمد بن أبي الحسن - آخر ملوك الطوائف من بني الأحمر - خرج من القصر وسار مقهوراً مع كوكبة من رجاله وأفراد أسرته.. في صمت حزين، وألقى نظرة حزينة على قصره الَّذي كتب عليه الخروج منه، وترقرت الدموع في عينيه ولم تلبث أن سالت على خديه.. فصاحت أمه عائشة الحُرَّة: "أجل فَلْتَبْكِ كالنساء مُلكاً لم تدافع عنه كالرجال" وأطلق الأسبان على هذا الموضع اسم: (زفرة العربي الأخيرة) تذكَّرت كل ذلك وأنا أتجول في القصر، والحُزن يضغط على أنفاسي، ويطل من عيوني؛ كان ذلك عام 1962م).
هَيْهَاتَ يَسْمَعُني.. أَشْباهُ أمواتِ
ومَنْ يُجيبُ..؟ ومَنْ يأْسُو جِراحاتي
وهلْ يَرُدُّ نِدَائِي مَنْ رجُولَتُه
ذَابَتْ على شَفَةٍ في لَيْلِ حاناتِ
* * *
دَلِيلَةَ القَصْرِ.. لا تأسي لآهاتِي
وَلَمْسَةُ الحُُزْنِ في أَعْماقِ نَظراتي
أَتَيْتُ (غَرنَاطَةً) أنسى بها شَجَنِي
فلاَ يُرِيبك إِطْرَاقِي وإِنْصاتي
مَا جِئْتُ أُغْرِقُ في عَيْنَيْكِ أَزْمِنَتي
بَلْ جِئْتُ أَقْرأُ في (الحَمْراءِ) مأساتِي
عَلَى قُصُورِكِ يا (حَمْرَاءُ) قَدْ نُقِشَتْ
أَمْجادُ قومي.. وفي الأَركانِ بَصْماتي
وفي مَغَانِيكِ بالأَسْحَارِ كَمْ رَقَصَتْ
أَفْراحُ أَهْلِي - وماسَتْ فيكِ جَدَّاتي
وفي المَسَاجِدِ كَمْ نادَى مُؤَذِّنُنَا
إلى الصَّلاةِ وهِمْنا في العِباداتِ
مالِي أَغُصُّ بِرِيقي كُلَّما ذُكِرَتْ
أَطْيافُ أَمْسِي وأَشْقَى بالحكاياتِ
وَبَيْنَ جَنْبيَّ جُرْحٌ باتَ يُنْهِكُنِي
يعِيد حُزْنِي ويُحيي فيكِ حَسْراتي
وكَيْفَ أَبْدَأُ والأَشْجَانُ تَغْلِبُنِي
والشِّعْرُ يَعْجَزُ عن تَصْوِير مأْساتِي
أَبْكِي الَّذِي ضاعَ أَمْ أَرْثي لِحَاضِرِنا؟
وكُلُّ هذا الدُّجى حَوْلِي وفي ذاتِي
يا بُؤْسَ شَعْبٍ.. يرُومُ المجدَ.. عُدَّتُه
ماضٍ تَوَلَّى ولا يُرْجَى لـهُ آتِ
كُلُّ الشُّعُوبِ لها مِنْ أَمْسِهَا عِظَةٌ
تَهْدِي خُطاها تَقِيها شَرَّ عَثراتِ
إِلاَّ بَنِي أُمَّتي لا فِكْرَ يُرْشِدُهُم
كأَنَّما القَوْمُ باتُوا نِصْفَ أَمْواتِ
* * *
دليلةَ القَصْرِ قَلْبي شَفَّه السفر
ومقْوَلي صارِمٌ قد فَلَّهُ القَدَرُ
فَكَيْفَ أَبْدَأُ..؟ أَفْكاري يُبَدِّدُهَا
هذا الدُّجى.. ويراعي صامتٌ حَذِرُ
وَكَيْفَ أَكْتُبُ..؟ والأَوْزانُ تَخْذلُني
يَدِي مُقَيَّدةٌ.. والحَرْفُ يَحْتَضِرُ
وكَيْفَ أَضْحَكُ والأَوْجَاعُ تَسْكُنُنِي؟
قَلْبي يَئِنُّ وعُودي كادَ يَنْكَسِرٌ
حَطَّمْتُ صَوْمَعَتي.. والشِّعْرُ خاصَمني
فَلْيَنْبُتِ الحُزْنُ في عَينيَّ والسَّهَرُ
يابُؤْسَ قوْمي.. يَدُ الأَحْدَاثِ تَحْصُدُهُمْ
والعَقْلُ يخْذُلُهم - والدَّهْرُ يَعْتَصِرُ
عَودٌ لِبَدْءٍ.. يدٌ تَلْهُو بِبَتْرِ يَدٍ
الرِّحْمُ تقطَعُ والأَحْقادُ تَسْتَعِرُ
مِنْ أَجْلِ ناقَةِ (جَسَّاسٍ) وخَالَتِه
أَفْنوا عَشَائِرَهُم بالأَمْسِ وانْتَحَرُوا (1)
خَمْسُونَ عاماً أَذابُوا اللَّيْل َواقْتَتَلُوا
والدهرُ يَسْخَرُ - لا ملُّوا ولا ضَجِرُوا
وَاليَوْمَ تَنْتَعِلُ الأَحداث أَوْجُهَهُمْ
ولا أَبِيٌّ يَرُدُّ الظُّلْمَ.. يَنْتَصِرُ
كَسَّرتُ مِنْ حَيْرَتي الأَقْلاَمَ مُبْتَئِساً
لَيلِي أَنِينٌ وقَوْمِي ليلُهُم سَمَرُ
تَمْضِي اللَّيالي - ولَيْلِي - لا صبَاحَ لَـهُ
والعمْرُ أَوْشَكَ.. والآمالُ تَنْتظِرُ
* * *
دَلِيلَةَ القَصْرِ أَهْلُ القَصْرِ قَدْ بانُوا
كأَنَّنا اليَومَ لا كُنَّا ولا كانوا
كَمْ يَحْمِلُ القصرُ مِنْ دَرْسٍ ومِنْ عِبَرٍ
لو كانَ يَفْهَمُ ما أَعنِيهِ وسنانُ
يا حلوةَ القَصْرِ.. عُمْرِي ذابَ في لَهَبي
وحارَبَتْنى مقادِيرٌ وأَزْمانُ
ما جِئْتُ أَبْحَثُ في (الحَمْرَاء) عنْ رَشأٍ
فَفِي بلادِي.. يماماتٌ وغِزْلانُ
قَلْبي من الحُبِّ قَدْ ضَاقَتْ مَرافِئُهُ
وكَيْفَ يَظْمأُ من يَرْوِيه.. طُوفانُ
تَقَاسَمَ العِشقُ والعُشَّاقُ أَوْرِدَتي
فَفِي دمائي.. أَغَارِيدٌ وأَلْحانُ
ما زُرْتُ (غرناطةً) إِلاَّ وَيَسْكُنُني
حُزْنٌ كَما سَكَنَتْ في القَصْرِ أَحْزانُ
(غَرْناطةٌ) وتشبُّ النَّارُ في جَسَدِي
نارٌ يُؤَجِّجُهَا في القَلْبِ بُرْكانُ
كُنَّا نَسُودُ بني الدُّنْيا ونَحْكُمهُمْ
والْيَوْمَ يَحْكُمنَا غُلْفٌ وخِصْيَانُ
تُسْبى حَرَائِرُنا.. تُشْرَى ضَمَائِرُنا
ونَحْنُ في الحْانِ.. حَشَّاشٌ وسَكْرانُ
نادَيْتُ قَوْمي فكاد الصمتُ يَقْتُلُني
كَأَنَّما أُمَّتي.. صُمٌّ وبُكْمَانُ
 
ما بعد الرحيل
رحَلت من حياته فلم يبق له إلاَّ الأسى والدموع.. يسطرها بدمه
 
شعراً على ورق:
يا جُرْحِيَ المَخْبُوءَ في أَعْمَاقِي
يا حُزْنِي المصْلُوبَ في أَحْداقي
أَنا كُلَّما حاوَلْتُ نَبْذَكِ مِنْ دَمِي
رَكَضَتْ إِليكِ يَدي تَشدُّ وِثَاقِي
وَيَمُورُ نَبْضُكِ في دِمائِي صَاخِباً
حتَّى أُحِسَّ هَواكِ في أَعْراقيِ
وَيَلُوحُ طَيْفُكِ عابِراً في خَاطِرِي
يَخْتَالُ في رُوحي وفي آماقي
* * *
يا حُبِّي المَوْعُودَ بِالإِخْفَاقِ
يا حُزْني الموءُود في أَعماقي
قلبي - وإِعْصَارُ الفراقِ يَلفُّني
يَشْكُو إِلَيْكَ مَواجِع الأَشْواقِ
ما كانَ في حُسْبَانِهِ أنَّ الَّذي
بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَنْتَهي بِفِراقِ
لَعِبت رِياحُ الشَّكِّ في أَرْواحِنا
مِنْ بَعْدِ طُولِ تآلُفٍ ووِفاقِ
فَتَقَوَّضَتْ أَحْلامُنا وأَحَاطَنا
لَيْلٌ ينُوءُ بِحَيْرَةٍ وشِقاقِ
وتَمَزَّقَ الحُبُّ الكَبِيرُ وَلَمْ يَعُدْ
لِلصَّبْر في قَلْبي وقَلْبِكِ.. باقِ
وتَعَثَّرَتْ خُطوَاتُنا.. تَمْضِي بِنَا
كلُّ على دَرْبٍ.. بِغَيْرِ تلاقِ
قَدْ كُنْتَ لِي قَلْباً أَلُوذُ بِدِفْئِهِ
في غُرْبَتي مِنْ شِدَّةِ الأَشْواقِ
وَرَحَلْتِ في صَمْتٍ.. كأَنَّا لم نَكُنْ
نَحْيَا بِقَلْبٍ واحدِ خَفَّاقِ
كُنَّا ونارُ العِشْقِ تُشْعِلُ لَيْلَنا
أَلَقاً يُحَرِّكُ غِيرةَ العُشَّاقِ
فإذا طَواني الشَّوْقُ يَوما كُنْتِ لِي
مُشْتَاقَةً تَحْنُو على مُشْتَاقِ
وإِذا نَأَيْتِ تَظَلُّ رُوحي دَائِماً
وَلْهَى عَلَيْكِ تَهِيمُ في الآفاقِ
واليَوْمَ أَصْبَحَ حُبُّنا أُقْصُوصَةً
تُحْكَى فَيَصْمُتُ - مُشْفِقِين - رِفاقي
* * *
يا بَلْسَمَ الأَوْجاعِ فِي لَيْل الأَسَى
يا هَمْسَة الأَشْعَارِ في أَوْراقِي
يا رِحْلَةَ الأَحْزانِ بَيْنَ مَدَائِني
قَلْبي يَتُوقُ لِلَمْسَة وعِنَاقِ
أَنا إِنْ قَبِلتُ الحُبَّ مِنْكِ فِشِيمَتِي
تأبى عليَّ تَقَبُّلَ الإِشْفَاقِ
* * *
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :517  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 155
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.