شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( كلمة الشاعر يحيى السماوي ))
ثم أعطيت الكلمة للشاعر العراقي يحيى السماوي فقال:
- بسم الله الرحمن الرحيم..
- والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.
 
- بدءاً، أعترف - مسبقاً - بأن ما سأقرؤه، لا يتعدى كونه مجردَ انطباع لرجلٍ أحبَ الشعر، اعتاد على التحديق بعيني الحلم لا بأحداقِ اليقظة، وبشكل أدق: فإن دخولي الغابةَ الشعريةَ لصديقي الشاعرِ المبدِع يحيى توفيق حسن، لم يكن لغرض دراسة تشريحية لأشجار الغابة، بقدر ما هي لغرض استنشاقِ أريجِها، والاستلقاء تحت ظلالها.. ممارساً الحُلْم، ما دمتُ لا أمارس حريتي إلاَّ في حقول الأحلام منذ أفقتُ على بساتيني، وقد أضحت مقابرَ سرية في وطني المرسوم على هيئة تابوت ضخم..
 
- للشعرِ عندي طقوسٌ خاصة، أُمارسها حين أعتزم دخولَ غاباته.
- ومن هذه الطقوس، أن أفتح قلبي - أولاً - لأطلَّ منه على ذلك المرض اللذيذ الَّذي يمنحني العافية - وأعني به الشعر -؛ وإذ دخلتُ الغابةَ الشعريةَ ليحيى توفيق، وجدتني في نهاية جولتي أستعيرُ مقطعاً للشاعر الإِنكليزي اللورد بايرون يقول فيه:
- آه لو جمعتُ كل شفاه نساء العالم في شفةٍ واحدة، إذن: لقبَّلتها واسترحت!.
- ولكي يكون المقطعُ منسجماً مع الهمِّ الشعري لصديقي الشاعر المبدع يحيى توفيق حسن - جعلت المقطع:
- آه لو جمعتُ كل جمال نساء العالم في امرأةٍ واحدة، إذن: لعشقتها واسترحت!.
- هكذا كتبت في مفكرتي الشخصية كخلاصة لانطباعاتي، وأنا أختتم جولاتي في الغابة الشعرية ليحيى توفيق، وذلك لأن أشجارَ الحبِ كانت الأكثرَ خضرةً وظلالاً في تلك الغابة، ولأنَّ تلك الأشجارَ تزدحم بعناقيد الجمال، فالحبيبةُ عند يحيى توفيق حسن، ليستِ امرأةً بعينها، إنما هي مسحة الجمال التي تُتَوَّجُ وجه المعشوقة، فهو عاشقٌ للجمال، ولأجله نَسَجَ أهدابه وشرايينه أشرعةً، وصيَّرَ قلبه سفينةً ليصبِحَ السندباد الجديد، لا بحثاً عن بيضة: الرُّخّ أو "الجزر المرجانية" إنما بحثاً عن عشبةِ الجمال التي ستجدِّد شباب الروح، وليس مثلَ جلجامش في بحثه الخرافيّ عن عشبة الخلود.
- وإذا كانت للجمال أكثر من نافذةٍ وواحةٍ، فإن الشاعر يحيى توفيق اعتبر المرأة تلك الواحة - والعيونَ هي الباب التي سيدخل منها قلبه، وليس الفمُ أو الجيدُ واليد.. التي ترفع له كأس الود، أو التي ستمسِّد جرحَهُ، ذلك لأن الجرحَ كان نتيجةَ طعنةِ هدب من عين نجلاء، أو نتيجةَ احتراقه شوقاً للإبحار فيها.. فلعبير العيون مساحةٌ واسعةٌ في فضائه الشعري، ولعسل العيون فَتَحَ دورقَهُ الشعري، لأنه كان يرى أن العيون هي جواز المرور لحدائق القلب، والباب الَّذي يدخل منه إلى رحاب الحب.
- ها هو يقول في بعض من قصائده:
ترمين باللحظِ قلباً لو علمتِ بما
يلقى من الوجدِ، لم تقتله عيناك
 
أو:
عيناك حلمى، والمنى عيناكِ
فدعي الصدودَ وصالحي مضناكِ
عيناك ألهمتا فؤادي نبضَهُ
فصبا إليك وهام في دنياكِ
كم كنت أنعم بالحياة وبالصِّبا
حتى دعتني للهوى عيناك
أو:
أذيبي ومضَ عينِكِ في جفوني
فإني قد مللت من السكونِ
أو:
عيناكِ واحةُ عشقٍ لفّها السحَرُ
يغفو ويصحو على أهدابها القمرُ
نادمتُ ليلَ الحزنِ في عينيك
وأَرَقْتُ أعوامي على قدميك
 
أو:
وجئتِ يا حلوةَ العينين كالقدر
كالفجرِ يذكي هديلَ الحبِ فـي عمـري
 
وظني بأن صياغات الجملة الشعرية وتلاوينها، تتعددُ عند الشاعر يحيى توفيق بحسب تعدد العيون التي سكبتْ نظراتها في عينيه، أو راشَتْ قلبَه بسوادٍ ضاحك صافي الظلمة.. مثل عاشقةٍ زنجيةٍ، أو باخضرار طريٍّ وعنيفٍ طراوةَ، وعنفَ الهوى في لحظة الاتّقاد الروحي.
- فالحبُ، هذا الجنون الجميلُ الَّذي يسكبُ الحكمةَ في القلب، هذا الندى الَّذي يوقِظُ النعاس في الصحو، أو يمطر الصحوَ في عيون النعاس..، الحب هو الطريدةُ والصيادُ عند الشاعر يحيى توفيق، ولا ثمة ديوانٌ له إلاَّ وكان بخور الحب يعبقُ بين أكثر سطور قصائده.
- الشاعر والصياد توأمان..، كلاهما يحمل شباكه وسهامه، الصياد يحملها لاصطياد العصافير، والشاعر لاصطياد الكلمات التي سيصنع منها عصافيرَه الملونةَ، التي سيطلقها بعدما يبلّلها بدموعه أو بدمه وعطرِهِ.. ليأنس بها الآخرون، ومن ثم يجلس وحيداً إلاَّ من رماد احتراقه الخفي..، فالشاعر صياد، لكنه لا يصطاد غيرَ جراحِهِ، بيد أنها جراح تمنحه العافية، ولذا تتنامى عافيته بقدرِ تنامي جراحاته؛ هكذا يحاول أن يقول الشاعر المبدع يحيى توفيق حسن، وبشكل أدق: هكذا يقول شعره:
مَنْ يَذُبْ في الحب مثلي
لا يرى عيباً بحبِّي
أو:
أعيدي وهج روحك واشعِليني
فإن النار تُشْعِلُ بي حنيني
غير أن الحب عند يحيى يسمو على النزوات والنزق، وظني أن المسحةَ الصوفيةَ تتخلل نسيجه الشعري وتتأصَّلُ في قلبه، لأن الحب عنده يعني إذابَة العاشقِ في روح المعشوق، واتِّحاد الروح قبل الحسد؛ ولنقرأ قوله:
أذيبيني على شفتيك لحناً
فأنت الحب إحساساً ومعنىً
 
وها هو يقول:
سأقنع من هواك بهمس حبٍ
ملكتِ بشدوِهِ قلبي المعنَّى
وأسكر بالحديث وبالتمني
وما لمست يدي كأساً ودَنا
أو:
يدي تعانق في شوقٍ يديك وقد
ذُبنا معاً في مناجاةٍ وفي همسِ
 
أو:
فإذا دنوتِ فملءُ عينيَ ضحكةٌ
وإذا نأيتِ فجفنُ عينيَ باك
 
ولأنه حبٌ يبحث عن إرضاء الروح والضمير، فإن يحيى لا يريد للمحبوب أن يشقى بسببٍ من المحب..
وِزري شقاؤك في حبي فمعذرةٌ
هاتي حنانك يمحو كلَّ أوزاري
 
أو:
يا ضميري كيف الخلاصُ..؟ أراني
ضائعَ الخطوِ حائرَ الوجدانِ
 
أو
ما أروعَ الحبَ العفيفَ لغادةٍ
الحسنُ فِطرتُها فما تتكلَّفُ
 
أما عن لغته أو جملتِه الشعرية، فإنني أرى أن قراءة شعر يحيى توفيق لا تتطلب من القارئ اصطحاب القاموس، ودخولَ غابتِهِ الشعرية لا تتطلب من مريدها سوى أن يُحْسِن فنون النظر بالقلب لا بالعينين، وأن يحسن شمَّ الرحيق..، ولذا فقد وجدتني - وأنا أدخل تلك الغابة - أهتدي برحيق امرأةٍ لها شكل الزهرة حيناً، وشكل ليلى العامرية حيناً آخر - امرأة تجلس بين ضفاف الحلم واليقظة - فالشاعر يحيى وإنْ كان عامريَّ الطبع في عشقه، إلاَّ أنَّ ليلاه ما زالت خرافة، فأنثاهُ الذهبية تبقى تفاحتَه المحرَّمة، والتي تبقى عصيَّةً عليه على رغم وجود شجرتها في بستانِ قلبِه، أو هكذا يريد يحيى، كي يبقى الباحثَ عنها بين رماد احتراقه، إنها وإنْ هبطت من فضاء العلم، إلاَّ أنَّ هبوطها سيبقى على أوراق شعره لتشفي جرحاً قديماً، ولتفتح جرحاً جديداً في الوقت ذاته؛ وذلك لأن مشكلة يحيى ليست في امرأةٍ واحدة حسناء، إنما تكمن مشكلته في كونه يريد حبيبة تختصر كل جمال نساء الدنيا، ولأنه عاشق للجمال أكثر من كونه عاشقاً لامرأة معينة.
- وثمة ملاحظة، أنني أحسب أن الشاعر المبدع يحيى توفيق لا يكتب القصيدة إلاَّ وفق مراسيمَ خاصةٍ، خلاصتُها إيقاد عود بخور، أو غمس قلمه بقنينة عطر، وإذْ يندى جبينه وهو يتقد على نارٍ ناعمة، يمسح وجهه بمنديل حرير، أو ربما بخصلةٍ من ضفيرة حسناء دخلت قلبه يوماً حين فتحت له نافذتي عينيها، أقول هذا وأنا أعني تلك الرشاقة.. والأناقة.. والعفوية في جملته الشعرية؛ فهو أنيق الكلمات، ناعم الجرس، لا صخبَ في جملته الشعرية، تماماً كالأناقة التي اعتادها في ملبسه، وكالهدوء الَّذي يسكنُ صوتَه..
- إن شعره وذاته في انسجام جميل، باستثناء شيء واحد، وهو أنَّ يحيى متواضع حقاً، غير أن قصائده ليست متواضعة، إنما مكابرةٌ ولها عنفوانها من الشعر الأصيل، وحتى حين تتوسل القصيدةُ زخَّة عطرٍ من الحبيبة، أو حين يتوسل يحيى من أنثاه الذهبية أن تغفو على صدره، فإنما هو توسُّلٌ من أجل أن تتدثَّر هي بدفء قلبه، ولكي يحرسها من سواه؛ ها هو يقول:
كل الموانئ مرت في دمي وأنا
ما زلت أُبحرُ والأحلامُ تبحر بي
 
- ولأنه يعي حقيقة أن أعذب الينابيع، هي تلك الينابيع التي تتفجر من تلقاء نفسها، تماماً كينابيع أبها وعسير، وكالحلم الَّذي يفترش الأحداق دونما موعد؛ فإن يحيى توفيق لم يحمل مجرفته ليفتح نبعاً شعرياً قسراً، وكأني بهذا المثال أريد القول: إن القصيدة هي التي تكتب يحيى، وليس هو الَّذي يكتبها.
- أخيراً: فهل ثمة ما أتمناه ليحيى؟ نعم: أتمنى له عذاباً لذيداً في الحب، ما دام هذا العذاب سيكون النسَغ لقصائدَ عذبةٍ جديدةٍ، فالشاعر العاشق كطائر الفينيق: سيكون رماداً حين يعثر على أنثاه الذهبية، وأنا لا أريد ليحيى غير أن يزداد اتقاداً وعطاءاً.
- أليس هو القائل:
أنا أحبك في يأسٍ يعذبني
وسوف أحميك من طيشي بإيثاري
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :557  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 155
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.